إميل بدارين
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
العالم الغربي غير متأثر بمعاناة الفلسطينيين، ويطالبهم بدلاً من ذلك بإدانة أنفسهم لتجرؤهم على النضال من أجل التحرر من الاستعمار الاستيطاني. وكما لاحظ فرانتز فانون، فإن ضحايا الاستعمار لن ينجحوا أبدًا في إقناع المستعمِرين الأوروبيين بمعاناتهم وبرغبتهم العميقة في نيل الحرية. كانت جريمة الفلسطينيين التي يُعاقَبون عليها هي أنهم يستمرون في الظهور، ويرفضون الموت بصمت، وفي النهاية يخترقون سياج القطاع المحاصر.
* * *
من الواضح اليوم في الغرب أن الانتماء السياسي للفرد لا يُحدث الكثير من الفرق عندما يتعلق الأمر بفلسطين والنضال الفلسطيني. هناك، قدم القادة، والسياسيون، والنقاد، والشخصيات الإعلامية من مختلف الأطياف السياسية، بما في ذلك اليمين، والمحافظون، والليبراليون، والوسط واليسار، دعمهم لنظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري الإسرائيلي.
ولفهم هذا الانهيار الأخلاقي على حقيقته، من الضروري وضع رد الفعل الغربي الجماعي على هذا النحو في سياق أوسع.
اليوم، يتصارع العالم الغربي مع “انهيار عقلي” كبير في أعقاب إعادة التوزيع العالمية الجارية للقوة، التي تتحول بعيدًا عن المجال الأوروبي-الأميركي. وهذه الاستجابة مفهومة تمامًا لأن التخلي عن الامتيازات الاستعمارية التي بعمر قرون وعن الرخصة بالسيطرة على الدول غير الأوروبية والعالم، يمثل تحديًا بطريقة لا يمكن إنكارها.
اليوم، عادت المؤسسة الغربية ووسائل إعلامها الرئيسية إلى الأسس الاستعمارية والعنصرية الأوروبية التي دعمت رخصة الغزو والاستيطان وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في الأميركيتين وأماكن أخرى في العالم منذ العام 1492.
وهم يوظفون مجموعة مقلقة من مفردات اللغة العنصرية والنازعة للإنسانية لتشويه سمعة الفلسطينيين ونزع الشرعية عن نضالهم، فيصفونهم بأنهم “وحوش”، و”حيوانات”، و”برابرة”، و”إرهابيون”، و”أشرار”، و”متوحشون”، ويرتكبون “محرقة ثانية”، و”9/11 أخرى” وما إلى ذلك.
يعكس هذا الخطاب عن كثب المجازات والأنماط نفسها التي استخدمها الفلاسفة والمفكرون والشخصيات المؤسِّسة، والأبطال الليبراليون والتنويريون في أوروبا لتبرير إخضاع واستعمار الدول غير الأوروبية في جميع أنحاء العالم على مدى القرون الخمسة الماضية.
ولذلك، ليس من المستغرب أن يكون الموقف الغربي الرسمي قد تبنى بكل إخلاص الرواية الاستعمارية-الاستيطانية الإسرائيلية، التي هي في الأساس تقليد للخطاب الأوروبي الحديث/ الاستعماري الأصلي.
المعيار الاستعماري الغربي
يدين كثيرون، مُحقين، النفاق والتحيز اللذين يجري التعبير عنهما في وسائل الإعلام الرئيسية والخطاب السياسي الغربيين. ومن اللافت والمدهش أن نفس وسائل الإعلام الغربية والقادة الغربيين الذين يتهمون روسيا بلا تردد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أوكرانيا، قد امتنعوا بطريقة منهجية عن فعل الشيء نفسه عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
لقد تجاهلوا جرائم إسرائيل ضد فلسطين منذ العام 1948، بما في ذلك جرائم الفصل العنصري والتطهير العرقي المستمرة في حق الفلسطينيين، والتي جعلت حوالي 80 في المائة من الشعب الفلسطيني لاجئين أو نازحين داخليًا.
لم يستطع عقد بعد عقد من العقاب الجماعي الإسرائيلي للفلسطينيين، مثل قصف بنيتهم التحتية المدنية ومنازلهم ومستشفياتهم وأماكن عبادتهم ومدارسهم وجامعاتهم، فضلاً عن اختطاف أطفالهم وحرقهم حتى الموت، وقطع إمدادات الكهرباء والمياه عنهم والعديد من الجرائم الأخرى، أن يثير قلق الغرب وغضبه.
بل إن الأكثر إقلاقًا هو أن نفس السياسيين والإعلاميين الذين أيدوا مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الروسي، هم الذين عرقلوا بنشاط تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم إسرائيل من أجل حرمان الضحايا الفلسطينيين حتى من الحصول على قدر ضئيل من العدالة.
ومن المفارقات أنه في حين أن هذا نفاق واعتناق للمعايير المزدوجة، فإن الغرب الرسمي وخطابه الإعلامي وأفعاله تظل متسقة تمامًا مع المعايير الأوروبية الحديثة/ الاستعمارية، التي قررت مسبقًا أن الأوروبيين فقط هم الذين يُعدون بشرًا كاملين، وبذلك المؤهلين لامتلاك الحق في الحرية وفي الهيمنة على الآخرين وإخضاعهم.
التجريد من الإنسانية
يشكل التجريد المستمر للفلسطينيين من إنسانيتهم، مثلهم مثل غيرهم من الشعوب المُخضعة والتي تعامَل بعنصرية في جميع أنحاء العالم، استمرارًا للمعايير والقواعد الاستعمارية الأوروبية الراسخة.
وبذلك، يحمل اتهام الحكومات الغربية ووسائل الإعلام بالنفاق في طياته أملاً كامنًا بالخلاص. ولئن كان هذا الأمل حقيقيًا بالتأكيد، فإنه ما يزال، للأسف، بعيد المنال.
كما لاحظ فرانتز فانون، المفكر الأفريقي-الكاريبي الثوري المناهض للاستعمار، بذكاء، فإن ضحايا الاستعمار لن ينجحوا أبدًا في إقناع مستعمريهم الأوروبيين بمعاناتهم ورغبتهم العميقة في نيل الحرية لأنه، في العقلية الاستعمارية الأوروبية، لا يُنظر إلا إلى أولئك الذين تم تعريفهم بأنهم أوروبيون على أنهم قادرون على اختبار المعاناة الحقيقية والتوق إلى الحرية.
حتى بعد قرن كامل من النضال الثابت الذي لم يفتر من أجل الحرية، ما يزال العالم الغربي غير متأثر بمعاناة الفلسطينيين من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي مكنته ودعمته أوروبا. وبدلاً من ذلك، يطلب منهم القادة الغربيون ووسائل الإعلام الغربية إدانة أنفسهم وإدانة سعيهم إلى التحرر.
ولا يُقتصر الأمر على أن الغرب الرسمي ووسائل إعلامه يتجاهلون المعاناة الفلسطينية ويتظاهرون كما لو أن الصراع في فلسطين بدأ للتو في الأسبوع الماضي، لكنهم يرفضون أيضًا، كما لاحظ إدوارد سعيد باقتدار منذ ما يقرب من أربعة عقود، حق الفلسطينيين في سرد ورواية قصتهم الخاصة.
إنهم يصرون على تصوير الفلسطينيين على أنهم الجناة، والمنتهِكون، والإرهابيون النهائيون، على الرغم من الأدلة الوفيرة على عكس ذلك. وقد بُثت معاناتهم في ظل نظام الفصل العنصري على الهواء مباشرة على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتم توثيقها في العديد من تحقيقات الأمم المتحدة وقراراتها وتقاريرها ولجانها وإحصائياتها ورسومها البيانية، فضلاً عن البحوث العلمية القائمة على الأدلة التاريخية والأرشيفية التي أجراها مؤرخون محترمون.
عقاب جماعي
يهدف الخطاب الغربي الرسمي إلى هندسة الرأي العام لصالح إيقاع عقاب جماعي بالفلسطينيين وقتلهم، ليس فقط على أيدي المستعمرين الإسرائيليين المباشرين، ولكن أيضًا على أيدي القوى الاستعمارية الأميركية والبريطانية والألمانية وغيرها من القوى الاستعمارية التي أرسلت بسرعة حاملات طائراتها وأسلحتها لتأديب ومعاقبة الضحايا في غزة.
اليوم، نشهد نفس المجازات العنصرية الخاصة بالخطاب الاستعماري الأوروبي، وهي تُستخدم لتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وحرمانهم من الحق في النضال من أجل إنهاء الاستعمار. ولا تكمن جريمتهم المزعومة في أفعالهم، بل في تصميمهم الثابت على الوجود على أرضهم، والمقاومة والسعي إلى الحرية.
إن جريمة الفلسطينيين هي أنهم يستمرون في الظهور المرة تلو الأخرى، ويرفضون الموت في صمت، وفي نهاية المطاف يخترقون سياج غزة المحاصرة.
وسواء اتخذ هذا النضال شكلاً عنيفًا أو غير عنيف، وكلاهما مشروع بموجب القانون الدولي، فإنه يوصف حتمًا بأنه عنيف، لأنه يتحدى إطار العدالة الاستعماري الاستيطاني الأوروبي الإسرائيلي المكرس وأسسه العنيفة وغير العادلة وغير الأخلاقية في أساسها.
من هذا المنظور الاستعماري، يُعد مجرد وجود الفلسطينيين في ذاته عملاً من أعمال العنف وتجاوزًا. وقد شرع الغرب الرسمي بالفعل في تجريم وحظر الأعمال السلمية، مثل الاحتجاجات وأنشطة المقاطعة ضد نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والعدوان الاستعماري الاستيطاني، والتطهير العرقي، والعقاب الجماعي، والاعتداء على المواقع الإسلامية والمسيحية المقدسة، وتحويل غزة إلى معسكر اعتقال في الهواء الطلق لأكثر من مليوني شخص (منهم 1.7 مليون لاجئ)، والتحكم في السعرات الحرارية الغذائية المخصصة للفرد- على سبيل المثال لا الحصر.
لقد وصل الانهيار العقلي للمؤسسة الغربية نقطة يعد فيها حتى مجرد رفع العلم الفلسطيني أو ارتداء الكوفية الفلسطينية عملاً من أعمال العنف.
مثل غيرهم من السكان المستعمَرين والمستعبَدين عبر التاريخ، يناضل الفلسطينيون من أجل مستقبل خال من القمع الاستعماري. وكما لاحظ فريدريك دوغلاس، المؤيد الشهير لإلغاء عقوبة الإعدام والعبد الأسود السابق للمستوطنين الأوروبيين في أميركا، منذ أكثر من قرن ونصف القرن، فإن التقدم لا يتحقق أبدًا من دون نضال، لأن “السلطة لا تتنازل عن أي شيء من دون طلب. إنها لم تفعل ذلك أبدًا ولن تفعله أبدًا”.
سوف يستمر الشعب الفلسطيني، مثل غيره من الشعوب المستعمرة من قبله، في نضاله من أجل الحرية، حتى عندما يجعله ثقل القمع بالكاد قادرًا على التنفس.
*إميل بدارين: باحث في سياسات الشرق الأوسط والاستعمار والعلاقات الدولية. وهو مؤلف للعديد من المنشورات حول هذه المواضيع.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel-Palestine war: Gaza has sparked a meltdown in the West’s colonial mindset
المصدر: (ميدل إيست آي) / الغد الأردنية