حسام سعد
في عام 2002 قدم المخرج الفلسطيني “إيليا سليمان” Elia Suleiman فيلمه “يد إلهية” Divine Intervention، موضحا أن الطريق الوحيد للعيش في فلسطين في ظل نظام “الأبارتهايد” هو تدخّل، أو يد إلهية تساعد الناس على فهم واستيعاب عبثية الحياة التي يقاسون منها. وقتها كان هنالك مشهد لن ينسى من ذاكرة من تابع الفيلم؛ حين لم تجد بطلة الفيلم سبيلا للخروج من حصار نقاط التفتيش “الإسرائيلية” سوى أن تتحول إلى “فتاة نينجا” بتدخّل إلهي، لتتجاوز عنف حصار الحواجز.
وطوال عقدين من الزمان، سوف ينشغل الضمير السينمائي الفلسطيني بتلك المفارقات السوريالية لواقع لم يعد يحتمل كل تلك “الميلودراما” المريرة لوصف ما يعانيه الناس هناك في يومياتهم، وهم يحاولون إيجاد معنى وجدوى واجتراح سُبل للحياة؛ عسى أن تستحق كل هذا القهر، على اعتبار أن أسباب الموت كثيرة، من بينها “وجع الحياة”، على ما يذكر “محمود درويش”.
يعرف الفلسطينيون، في الداخل الشائك والشتات المربك، ما يجري تماما قبل السابع من أكتوبر 2023، فهم لم يبتعدوا كثيرا عن خريطة القهر، سواء بالاغتراب أو معاناة الحروب خارج حدود فلسطين، محمّلين بذاكرة كاملة عن مشهد التطهير المستمر لهم منذ 75 عاما.
“اعتياد الموت” باتت جملة على لساننا “كفلسطينيين وسوريين وعرب”، مقهورين من أعداء كثر، أهمهما الخارجي “إسرائيل” والداخلي “أنظمة الحكم الوظيفية”. هكذا، جرّب السوريون “مجانية” الموت، واعتادوا أيضا على سرديات الفقد و”الحنين”، بعد شتات سوف يؤسس للبحث عن معنى الحياة القادمة لهم.
لا يمكن الحديث عن “الوجع” الفلسطيني اليوم، وسياسة التطهير المتفق عليها دوليا، على ما يبدو حتى الآن؛ دون العودة، وبشكل مستمر “قد يكون في كل لحظة” إلى كل ذلك العنف الذي عانته الشخصية السورية والفلسطينية زمن الثورة السورية منذ عام 2011. وربما بسبب من ذلك، ترافقا مع إجهاض حلم التغيير السوري؛ باتت غزة اليوم تحديا كبيرا أمام جموع المقهورين من العرب “وما أكثرهم”، ومن غيرهم كذا الأمر.
كتبت الروائية الفلسطينية “عدنية شبلي” منذ سنوات طوال مضت، نصًا نثريا سورياليا، تحدثت فيه عن نجوم وفراشات ونحل وغبار يغطي مساحات الهواء للفضاء الفلسطيني المحتضر، دون أن يكون هناك أمل برؤية الناس لما يوجد فوق تلك المخلوقات التي تحجب مشهد السماء.
يمكننا اليوم أن نفهم ذلك الشعور بانحسار المسافات وضيقها، وغياب الأفق المُشتهى في استلال ضوء قادم من الغيب. فاليوم هو أكثر مواسم الغموض وغبش الرؤية، وازدياد بعد السماء وقتامتها، ليس لدى أهالي غزة وفلسطين فقط؛ بل لدى عيون تدّعي أنها تبصر ما وراء الغيب وما وراء الصور المباشرة.
لم تجدِ نفعا تلك “الوقاحة” الغربية في التعامل مع “لحظة غزة” في صراع السرديات، فنحن اليوم في عالم لم يعد حكرا على بضع جهات تُشرعن الحقيقة، حتى ولو امتلكت أسباب السيطرة كلها. كان يكفي وجود شاب فلسطيني، أو سوري، أو عربي، أو أي ضمير يرى بعينيه ما يجري دون ضباب الإيديولوجيا، ليخرق جدار “النفاق المتعاظم” بصوت يصرخ بأن هذا ليس “ما قيل لنا” حقًا.
تعيش غزة اليوم كأيقونة لاحتمال الحياة والرغبة بعيشها، وسط محاولات نزع “الشيطنة” عن مكان يُرى كـ “كل” قاتم، يُحشر كل من يقطنه ويدعمه، ويدافع عن حق الحياة فيه، ضمن لائحة “إرهاب الفكر واللغة والسياسية”.
ولأن تلك المدينة تبدو وكأنها تعيش فوق طبقة واهية من “رياح” تعصف فيها؛ فقد حاول الأخوين “ناصر” Arab Nasser, Tarzan Nasser، “أنسنة” المشهد الحياتي الفلسطيني في شريطهما السينمائي “غزة مونامور” Gaza mon amour، 2020، حين أظهرا أحقية الناس هناك بالبحث عن معنى “الحب والألفة والعشق” وليس الاكتفاء بالانتصار اليومي لبقائهم على قيد الحياة فقط.
وكما وجد الشاب السوري مخرجا له من محرقة الحرب السورية في فيلم “الرجل الذي باع ظهره” The Man Who Sold His Skin، 2020، عن طريق أشد الطرق استغلالا وتسليعًا؛ فيبدو اليوم أنه لا خيار لنا، نحن المحكوم علينا بالقهر المتواصل، والمتوارث، سوى التفكير بالمشهد العام على نحو سريالي، لا تجدي معه كل خطابات الاستنكار والتصريحات الفضفاضة عن أحقيتنا بالحياة، على استحيائها أيضا.
غزة اليوم، كما لم تكن قبل ذلك من قبل؛ اختبار حقيقي لقدرتنا على الفهم وسط تصارع المتناقضات، وهي أيضا معيارا لنا للحديث عمن ينحاز نحو “ممارسة الإنسانية” في أدنى شروطها. وما عدا ذلك؛ فنحن حقا لا سبيل لنا سوى انتظار تلك “اليد الإلهية” التي تستطيع إنقاذنا من كل تلك الشرور التي تشكل تفاصيل حياتنا ووجداننا.