أحمد حاج علي
طرْح مسألة خروج المقاتلين من غزة، في محاكاة لنهاية حصار بيروت عام 1982، لا يجعل الظروف متطابقة. وبالتالي، فإن الحلول أو المخارج قد لا تكون هي نفسها. فما بين الحرب التي تُشن على غزة، واجتياح لبنان عام 1982، هناك فروق جوهرية، وتقاطعات أيضاً، لا يُخطئهما النظر عند المقارنة بين الحدثين.
قبل الاجتياح
الظروف السياسية في لبنان قبيل الاجتياح الإسرائيلي بدت بغير صالح منظمة التحرير، ففضلاً عن أنها ليست على أرضها، مما يضيّق الخيارات، فإن الحرب الأهلية استنزفت جزءاً مهماً من قوتها. وعلاقاتها مع الدولة العربية الوحيدة التي تحدّ لبنان ما بين فتور ومعارك. فحافظ الأسد يشكك بخيارات حركة فتح منذ انطلاقتها، ومعارك عامي 76 و77 بين جيشه والحركة دفعت موقفه السلبي لمزيد من العدوانية تجاه الحركة. أما اتفاق التنسيق الاستراتيجي الذي وقعه مع عرفات في 28 نيسان بعام الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، فإنه سيبقى محل تشكيك قيادة منظمة التحرير.
يُضاف إلى ذلك، إن المعارك بين بعض أحزاب الحركة الوطنية وحركة أمل في عدلون والصرفند وغيرها من قرى الجنوب تركت انعكاسات سلبية كبيرة على أداء المنظمة العسكري واستعداداتها لمواجهة اجتياح آت. وامتدت المعارك إلى مدينة صيدا لكن بتسميات حزبية مختلفة، حتى ذهب البعض إلى القول إن هذه المعارك كانت جزءاً من التحضير للاجتياح، مستشهدين بأن أطرافاً شاركت فيها بصيدا تحديداً ثبت تورطها فيما بعد بالتعامل مع الاحتلال حين وقوعه.
قد تكون المبادرات السياسية لحل القضية الفلسطينية، والتي تكثفت في الأعوام القليلة التي سبقت الاجتياح، لعبت دوراً مهماً في استهلاك الجهد السياسي واستنزافه بدلاً من توفيره في صياغة خطط دفاعية، ترافق الحديث عنها مع وصول معلومات لقيادة منظمة التحرير من مصادر متنوعة فرنسية وسوفياتية ومصرية وحتى أميركية ولبنانية عن قرب اجتياح إسرائيلي، مع اختلاف حول تقدير أهداف الهجوم، والمسافة التي يريد أن يصلها. فعام 1980، كانت مبادرة السادات “غزة أولاً”، وفي بداية العام التالي مبادرة بريجينيف، وبعد أربعة أشهر مبادرة الأمير فهد، وكل مبادرة سياسية يدور حولها النقاش، فيوافق اليسار على مبادرة بريجينيف ويتحفظ عرفات، ثم يوافق الأخير على مبادرة فهد، ويرفضها اليسار.
أما حركة “حماس”، فمنذ بداية الحصار المفروض على غزة عام 2007، أخذت الأمور تتجه شيئاً فشيئاً نحو الهدوء الداخلي في غزة، وقد حُسمت الأوضاع السياسية لصالحها، وراحت تنسق العمل العسكري للفصائل الفلسطينية، من دون الوصول إلى تناغم كامل، حتى تأسيس غرفة العمليات المشتركة عام 2018، والتي تضم القسام والسرايا إضافة إلى كتائب من فتح (نضال العامودي، عبد القادر الحسيني) وكذلك الأجنحة العسكرية لقوى اليسار.
ومن دون شك فإن مساحة الحركة السياسية والعسكرية لـ”حماس” أوسع ضمن بيئتها الفلسطينية. وقد حرصت الحركة خلال العقد الأخير على إجراء مصالحات واسعة، وتحصين نفسها ضمن بيئتها، فمثلاً قبل شهر من عملية “طوفان الأقصى”، توفي عامل فلسطيني في خان يونس أثناء محاولة إزالة تعديات، فأدى ذلك إلى استقالة المجلس البلدي، وتحويل شخصيات إلى النيابة العامة، إضافة إلى حوالى ثمانية إجراءات أخرى.
أما إعلان موت أوسلو، وعدم إطلاق أية مبادرات سياسية جادة خاصة بالتسوية، وجنوح المجتمع الإسرائيلي ناحية اليمين الرافض لحل الدولتين، دفعت حركة “حماس” للتركيز بشكل كلي تقريباً على تطوير قدراتها العسكرية، بينما كانت مرحلة انتعاش اتفاق أوسلو قبل ذلك، تثير النقاش الواسع داخل الحركة، الذي تركز حول المشاركة السياسية، والعمل العسكري وحدوده، خصوصاً بعد المؤتمر الدولي في شرم الشيخ عام 1996، والذي هدف لاجتثاثها، باعتبارها تهديداً لعملية التسوية.
من النقاط المشتركة بين الحدثين (اجتياح لبنان والحرب على قطاع غزة)، هو أن القطاع لا يحظى بمساندة الدولة العربية على حدوده، أي مصر، بل إن السيسي حاكَم سلفه محمد مرسي بتهمة التعامل مع “حماس”، وهو، أي نظام السيسي، دمّر مئات الأنفاق التي تصل غزة بمصر، متهماً الحركة لسنوات بدعم الحركات المسلحة في سيناء. وطالما نسبت أوساط الحركة لمخابراته محاولة تغذية حراكات شعبية مناهضة للحركة، خصوصاً في عام 2013، حين انطلق حراك في غزة حاول محاكاة حراك حركة “تمرد” في مصر.
في الميزان العسكري
ضمت منظمة التحرير الفلسطينية خلال الاجتياح الإسرائيلي حوالى 15000 مقاتل، منهم 5000 تلقوا تدريباً جيداً في دول الكتلة الشرقية، إضافة إلى باكستان وغيرها. وهناك “القوة 14″، التي شملت عشرات الطيارين الذين شكلوا أساس سلاح الجو في ليبيا، وقادوا طوافات “ثوار ساندينيستا”، وكانوا ضمن مشروع طموح لبناء قوة جوية حقيقية.
ومن ناحية التسليح قد يكون سام 7 الذي حصلت عليه المنظمة هو السلاح الأكثر تطوراً، لكن كان يمكن للطائرات الإسرائيلية تفاديه بشكل كبير. وهو أقصى ما أمكن للمنظمة امتلاكه بعد جولة على 14 دولة عربية وغير عربية قام بها ياسر عرفات وخليل الوزير وسعد صايل، بينما رفض السوفيات التزويد بصواريخ فروغ 7. نتيجة اعتبارات عديدة، هبطت المعنويات بشكل كبير، خصوصاً بعد شبه الجمود العسكري منذ تموز 1981.
أما بالنسبة لكتائب القسام، فإن عديدها يتجاوز 30 ألفاً، مدربون تدريباً متقدماً، استفادوا من خبرة عقود في العمل العسكري. يُضاف إلى ذلك مساندة ضباط عرب، تخلوا عن رتبهم العسكرية واختاروا الانضمام لكتائب القسام، مانحين المعارك في فلسطين الأولوية على ما عداها من معارك، إضافة إلى العلاقة العسكرية المتنامية مع إيران. وسبق أن أجرت “المدن” تحقيقاً موسعاً حول تطور قوة القسام (راجع: القصة الكاملة لكتائب القسام).
طالما اعتبرت منظمة التحرير الصواريخ أداة فعالة في الحرب ضد “إسرائيل”، رغم قصر المدى الفعال لتلك التي تستخدمها، وعلى رأسها صاروخ كاتيوشا، الذي لا يتجاوز مداه 9 كلم. لكن استطاعت المنظمة عام 1981، أثناء ما سُمي بـ”حرب المدفعية”، دفع سكان 35 مستوطنة إلى المغادرة. حتى إن محمود عباس وضع مؤلّفاً يشيد من خلاله بنتائج تلك الحرب، واضطر أحمد جبريل إلى تعديل شعاره “يجب على الفدائيين أن يضربوا حيث تطأ أقدامهم فقط”. لكن الاندفاعة الإسرائيلية خلال الاجتياح أبطلت قدرة الصواريخ على التأثير.
أما صواريخ القسام فيصل مدى صاروخ عياش إلى 250 كلم، والنقطة الأبعد عن غزة هي إيلات وتبعد 205 كلم عن رفح، وقدرة هذه الصواريخ على التأثير خلال الحرب يمكن أن تصل إلى كل المدن الإسرائيلية. مسألة أخرى كادت أن تكون تقاطعاً بين غزة وبيروت هي الأنفاق. فقبيل الاجتياح أمرت القيادة بالبدء بحفر ثلاثة أنفاق موازية لانتقال الناس والذخيرة والآليات العسكرية بين مخيمي عين الحلوة والمية ومية، وهو المشروع الذي لم يكتمل. بينما في غزة تلعب مئات الكيلومترات من الأنفاق دوراً محورياً في الدفاع عن القطاع.
أثناء الحصار
تنحاز المساحة لصالح المدافعين عن غزة، فالأخيرة التي تبلغ 360 كلم2، تبقى أكبر من مساحة بيروت المحاصرة حتى بعد تقسيم القطاع بين شمال وجنوب. فبيروت الغربية مع الضاحية الجنوبية كانت مساحتهما معاً أقل من 40 كلم2، مع فارق أنه في بيروت بقيت هناك مناطق شبه آمنة لم يطلها القصف، أما غزة فكلها تحت النيران. يُضاف أن القوة النارية التي تستهدف غزة أكبر، وحجم المذابح كذلك. فخلال حصار بيروت قد تكون الغارة في 6 آب على الصنائع، وتسببت بتدمير مبنى من تسع طوابق، ومقتل 200 شخص، هي الأكبر، وحدوثها نادر خلال تلك الفترة. أما في غزة فالمذابح يومية ومتعددة، ويمكن للمذابح أن تترك أثراً، سواء في خيارات المهاجمين، بضغط عالمي، أو في توجهات المدافعين.
قد يكون من التقاطعات الكبرى بين غزة وبيروت، أنه في الحربين هناك توجه عربي عام، لعدم تحقيق المحاصرين أي نصر. فطالما ردد ياسر عرفات خلال حصار بيروت وبعده “إن هذه الأنظمة لم تكن لتتقبل أن تغادر المنظمة بيروت ولو مع نصر رمزي، أبلينا أفضل من جميع العرب في هذه الحرب. لذلك لم يستطيعوا أن يتركونا ننتصر”. ولم تفعّل سوريا اتفاقية التنسيق الاستراتيجي، ولم تردّ على رسالة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. وكان الرجل الثاني بالمنظمة أبو إياد أكثر صراحة بتوجيه النقد للسعودية وسوريا، وقد يكون الأمر مرتبطاً بما أشيع لاحقاً عن دور لعبه سعود الفيصل وعبد الحليم خدام، من خلال لجنة، لمنع المنظمة من تحقيق أي نصر، مهما كان شكلياً.
وخلال المعارك الحالية على غزة، فإن موقف بعض الدول العربية تجاه المقاومين كان غير مسبوق، حد وصف عملية 7 أكتوبر بـ”البربرية”، عدا أن بعض الإعلام العربي لا يُخفي شماتته بغزة، بما يؤكد التوجه الرسمي، خصوصاً وأن هناك من رأى بعملية 7 أكتوبر محاولة عرقلة مسار التطبيع العربي مع الاحتلال. يُضاف إلى ذلك أن بعض النظام العربي يعتبر نفسه في صراع سياسي وأيديولوجي مع حركة “حماس”، وأن انتصارها قد يؤدي إلى موجة ثانية من الربيع العربي. والموقف الرسمي العربي من المحاصرين في بيروت وغزة، يعكسه توقيت اجتماع وزراء الخارجية العرب في الحالتين. فخلال حصار بيروت عُقد بتاريخ 29 تموز، أي بعد حوالى شهرين من بدء الحصار. أما في المعركة الحالية فمتوقع انعقاده في 11/11 أي بعد أكثر من شهر على بدايتها.
قد يكون من السهل تقدير مخاطر انخراط الولايات المتحدة بالمعركة الحالية بهذا المستوى، وهي التي حاولت أن تقدم نفسها وسيطاً، ولو منحازاً، خلال حصار بيروت. لكن يلعب لصالح المحاصرين في غزة، بروز حليف، هو “محور الممانعة”، يعتبر هزيمة حماس خسارة كبيرة له، والمعركة الحالية اختباراً جدياً لمصداقيته. وصحيح أنه لا يوجد حتى الآن ما يدل على إمكانية انخراطه الكامل بالمعركة، لكن مشاغلته للاحتلال، تثير مخاوف العالم من توسع الحرب، وربما تعجّل بالتسوية.
مما يمكن اعتباره أيضاً من اجتياح عام 1982 أن المعارك الصغيرة، وأية إنجازات مهما كانت بسيطة، يمكنها أن تُسهم برفع المعنويات، وتصليب الإرادة السياسية والعسكرية. فالقتال في قلعة الشقيف والرشيدية والبرج الشمالي وعين الحلوة وخلدة والمطار وغيرهم، وإسقاط طائرة وأسر الطيار، كان لهم الأثر الكبير في صمود المحاصرين، وحتى المواجهات في ميدان سباق الخيل والمتحف وغيرها. ونستطيع أن نخمّن، في هذه المعارك، في غزة، أنّ تدمير الدبابات بصواريخ الياسين والعبوات اللاصقة، والفيديوهات المصورة التي تنتشر، سيكون لها أثر في الصمود.
لكن أيضاً، وبالاستناد إلى ما جرى في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، علينا أن لا نبالغ في استنتاجاتنا عند الحديث عن هدن إنسانية، ونعتبر ذلك تراجعاً، فهناك هدنة طويلة خلال حصار بيروت امتدت من 26 حزيران حتى 4 تموز. وكذلك عندما تحدث استقالات اليوم، فلا ننسى أنه خلال اجتياح 82 استقال وزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيغ. صحيح أن استقالته لأسباب عديدة، لكن كان من بينها اختلاف الرؤى الأميركية حول الحرب.
ويجب أن لا نتسرع بالقول إن سقوط مئات القتلى من الجنود الإسرائيليين سيجبرون الاحتلال على الانسحاب، فخلال الاجتياح وصل العدد إلى ما يقارب الأربعمائة، إلا إذا فشلت خطته تماماً، ومن دون أي تقدّم، فربما يفكر بالانسحاب. فلأول مرة منذ عام 1948 يربط الاحتلال معركة بوجوده، ويبدي هذا الاستعداد لتحمّل التكاليف، وسط مجتمع يميل أكثر فأكثر تجاه اليمين، بشكل غير مسبوق منذ نشأة الكيان.
من الصعب توقع ردود فعل المدافعين عن غزة، أو مقارنتها بأي حدث مضى، كالاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فكما لم يكن أحد يتوقع أحداث 7 أكتوبر، كذلك لا يمكن التنبؤ باليوم الأخير للحرب. وإذا كان الاستعداد الرسمي الأول للخروج من بيروت كان في 2 تموز، أي بعد أقل من شهر على بدء الاجتياح، حين سلّم ياسر عرفات رئيس وزراء لبنان شفيق الوزان مذكرة تتضمن الاستعداد للخروج، فإنه بعد أكثر من 34 يوماً لا يبدي المدافعون عن غزة أية إشارة استعداد للخروج، أو حتى مناقشة ما يوحي بأي شكل من أشكال الهزيمة. وإذا كان عرفات “القدري” كما يصفه شفيق الحوت، صمد ثلاثة أشهر، وكان يخطط للصمود ستة أشهر في بيروت، لولا الضغوط التي مورست عليه في أرض ليست أرضه، فكيف ستكون الحال مع كتائب “قدرية”، ولا ينقصها التصميم، كما يقول يوم 7 أكتوبر؟
المصدر: المدن