د.عبد الله التركماني
من المؤكَّد أنّ لا أحد يستطيع الادِّعاء أنه يملك حلاً سحرياً لتعديل صورة المستقبل، أو حتى يملك الرؤية الشاملة للخروج من المأزق الذي تمرُّ به المنطقة. بل أكثر من ذلك، فإنّ محاولة الإجابة الشاملة على التحدِّيات المطروحة هي جزء من تكريس الهوة والعمل على زيادتها، خاصة أننا أصبحنا نعيش في عالم لا يحتمل الشمولية واليقين المطلق في أي من مجالاته. وفي هذا السياق، نستطيع القول: إنّ محاولة الإجابة عن أسئلة المستقبل بأدوات الماضي، هي شكل من الاستعصاء الذي لا يمكن الخروج منه، وهو ما يعيد إنتاج الهوُّة بيننا وبين العالم.
إذ نحن لا نستطيع إعادة تكرار التاريخ وصنعه على طريقة سابقة، وهذا ما يقرُّ به الجميع. إننا نقرأ التاريخ لاستيعاب الحاضر، فالماضي مضى وانقضى، ولكنَّه شكَّل الحاضر ويحاصره ويؤثِّر في المستقبل حتى يكاد يصنعه على صورته. ولأنّ قراءة الحاضر مُختلَف عليها، فإنّ قراءات الماضي أيضاً متعددة ومختلَف عليها، ولم يعد غريباً القول إنّ لنا تواريخ وليس تاريخاً واحداً، والقراءات المتعددة للتاريخ مشروعة. لذلك، علينا الكفُّ عن محاولة حشر أنفسنا في صياغة تاريخ واحد، لأنّ الواحدية شكل قمعي لكل أنواع التطلُّع الجمعي للبشر، لا بالمعنى السياسي فحسب، بل بالمعنى الفكري والحضاري الأشمل.
عندما نقع أسرى الماضي، فلا شكَّ بأننا سنأسر المستقبل معنا بمعايير الماضي، خاصة أننا أمام تاريخ عربي ثقيل، يفرض نفسه علينا بقوة كبيرة، وبالتالي يفرض نفسه على صورة المستقبل التي نحاول تكوينها والبناء عليها. من هنا فإنّ القراءة المتنوعة والمتعددة للتاريخ تفتح خيارات متعددة ومتنوعة أمام المستقبل، الذي لم يعد هناك إمكانية لبنائه شمولياً. فهو مفتوح على الاحتمالات المتعددة، ولا يمكن التعامل مع الاحتمالي إلا بخيارات متنوِّعة ومتعدِّدة، لأنّ تسارع الزمن أصبح أكبر من أيَّة مرحلة سابقة، وهذا ما يتناقض مع الشمولية، ويحتاج إلى خيارات تاريخية مرنة وقابلة للتعديل ومفتوحة على كل الاحتمالات، ما يجعل إمكانية التعاطي مع المستقبل أكثر جدوى.
ومن جهة أخرى، فإنّ شيوع فكرة المؤامرة في الثقافة العربية يعود – في الغالب – إلى أن ” العقلية العربية ” عقلية اتكالية تراهن على الآخرين في تحقيق مصالحها، وعندما تفشل هذه المراهنات يجري الحديث عن ” المؤامرة والخيانة “. الخطورة تكمن في أنّ شيوع فكرة المؤامرة يؤدي إلى استمراء أغلب العرب لعب دور الضحية، وبالتالي عدم الاعتراف بالمسؤولية والركون إلى الإحباط واليأس بدعوى أنّ الجميع يتآمرون علينا. ويبدو أنّ الحكومات العربية – عموماً – تعمِّق هذا التصوُّر المريض في داخل ذهنية بعض أفراد مجتمعاتها، لتخفي من خلال ذلك نهبها لطاقات أوطانها، وزيادة سيطرتها على ثرواتها ومواردها التي تشكِّل قاعدة النهوض والتطور والتنمية.
والواضح أمامنا أنّ هناك حقيقتين يعايشهما الناس في مجتمعاتنا العربية، حسب الكاتب نبيل علي صالح: أولاهما، الشعور العام بانعدام آفاق التغيير والإصلاح نتيجة السياسات الفوقية الظالمة التي طبَّقتها النخب السياسية والاقتصادية العربية الفاسدة عبر العقود الماضية، والتي كانت تحظى برضى المصالح والسياسات الدولية المتصلة مع نظيرتها المحلية. وثانيتهما، استشراء ثقافة العنف والتدمير في مناخ الترهل والفساد والاستبداد السياسي والتخلُّف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه اجتماعنا السياسي.
إنّ هذا النوع من الخطابات، الماضوية والمؤامراتية، يعجز عن تفسير تفشِّي الفقر والفساد وتهميش المجتمعات، أو تفسير ضعف العلاقات العربية البينية وتعثُّر مؤسسات العمل العربي المشترك. وهي تحاول أن تسطِّح حال الأزمة في التعاطي معها باعتبارها معطى طبيعياً وعادياً، في محاولة منها لحجب دور العوامل الذاتية في توطُّن الأزمات وتفاقمها في العالم العربي.
لقد حان وقت مصارحة الذات العربية عمَّا تفعله، عوض القعود في السفسطة الكلامية والشعاراتية وإغداق الوعود المعلَّقة في الهواء. فلم يعد الرهان على الغيبيات مدداً تستمطره غيوم ” محرقة غزة ” بدعاء ملهم تنعشه رائحة البارود، وسند مزعوم آتٍ من جار يتلهف لتبوُّء مكانة الدولة الإقليمية العظمى، بل الرهان على الشباب العربي الذي أثبت جدارته في ربيع الثورات العربية.