أكرم عطا الله
تجاوزت مقتلة غزة الشهرين. فهي أشرس الحروب على الإطلاق وأكثرها دموية ووحشية أو كما قال ممثل منظمة الصحة العالمية «إن هذه أكثر لحظات التاريخ ظلاماً» وهو الوصف الذي أطلقه ونستون تشرشل على أوروبا عندما كانت تطحن نفسها قبل ثمانية عقود.
كل حروب التاريخ تواضعت أمام ما يحدث في قطاع غزة، وهي الحرب التي يتم فيها إعدام البشر بالجملة وبالبث الحي والمباشر يقابله تواطؤ بالصمت العربي والدولي الذي سيظل يشكل ندبة للضمير الذي وقف متفرجاً على تلك المقتلة.
وإذا كنا نكتب عن العالم مزدوج المعايير وهو يقف شاهداً على كل ما كتبه من وثائق وقوانين وأتعب العالم، وهو يمارس دور الأستاذ معلماً الدول الأخرى ورقيباً على حقوق الإنسان والمرأة والطفل، وذهب أبعد في حماية حقوق الحيوان وجمعياتها بل ويعيب على العالم الثالث سلوكه الذي يعتبره متخلفاً، هذا انكشف بشكل فاضح حين تجلت ازدواجية المعايير بأكثر صورها المخجلة.
وطالما أن الفلسطينيين اكتشفوا أخلاق السياسة لهذا العالم وكيف يطيح بكل ما يقوله، إذن لا داعي لأن يأمل منه ما يمكن أن يحميه أو يوقف نزيف الدم والمذابح المرتكبة بحقه، وبعد أن اكتشف أن مقتل مئة أو خمسمئة لا يعني شيئاً لهذا العالم وكأنه يرى فيلماً هوليودياً من أفلام العنف، فماذا عن العرب وماذا عن المسلمين ؟
في بداية الحرب ظن الفلسطينيون أن هناك من ستأخذه حمية العربي وهو يرى لحم الشرف العربي عارياً في غزة، أو أنه يوجد معتصم آخر من المسلمين حين تصرخ امرأة.
لكن العرب بدوا في مواقفهم أكثر إحباطاً من هذا العالم الظالم، فقد اجتمعوا مرة وأخرى وفي كل مرة لم ينتج عن كل تلك الاجتماعات أكثر من بيان لا يسمن ولا يغني ولا يحمي شعباً ولا يوقف حرباً ولا يحقن دماً، وسيظل يشهد على أمة عربية وجيوش وعروش كلها سقطت مكللة بالهزيمة.
تمثلت الأزمة الصادمة هنا ليس في العروش فقط وتلك باتت معروفة بالتجربة الطويلة، ففي هذه الحرب انكشفت الأمة أو الأمتان العربية والإسلامية شعوباً وأحزاباً، سلطات ومعارضات، علمانيين وإسلاميين، الشعوب التي لم يكن صوتها بمستوى ما يحدث في غزة. بعض العواصم شهدت تظاهرات في أول الحرب، وبعضها لم يعلن احتجاجه حتى رغم أن بعض عواصم أوروبا امتلأت بالمتظاهرين، كانت معظم العواصم العربية تخلو من الاحتجاج في حالة سكون جارح أمام الدم الفلسطيني.
ما تقوم به إسرائيل ليس قتالاً عسكرياً حسب التصنيف بل حرباً تدميرية شاملة على كل شيء، حرب إبادة فهي تقوم بإعدام للحياة في غزة بحيث تصبح غير صالحة للعيش نهائياً، فقد دمرت البنى التحتية والمستشفيات والجامعات وخزانات المياه العامة وجرفت الشوارع وأسقطت البنايات، من الصعب أن يستمر البشر هناك فقد نشر الجيش الإسرائيلي صوراً لعملية هي الأخطر وهي إغراق الأنفاق بمياه البحر.
لا تكمن الخطورة في النيل من الأنفاق كما تدعي اسرائيل بقدر ما أن تلك كفيلة بالقضاء على المياه الجوفية وإعدام الآبار. فغزة قبل الحرب كانت تعاني من أزمة مياه خطيرة وتعتمد على بعض الآبار الجوفية التي تخزنها مياه الأمطار وهي قليلة، لذا فإن ضخ مياه البحر في قلب غزة هذا يعني تسرب المياه نحو تلك الآبار الجوفية ما يعني القضاء عليها، ربما يمكن بناء البيوت لاحقاً وسيتوالد الناس مع كل الألم الذي سيعيش معهم للأبد لكن التخريب المتعمد للآبار الجوفية لا يمكن إصلاحه ولا يمكن للبشر أن يحيوا بلا ماء، فقد كانت كل هجراتهم بحثاً عن الماء وقد قامت كل الحضارات القديمة على ضفاف الأنهار حيث الماء أولاً.
غزة تموت بفعل وحشي يتفرج عليه الجميع كأن غزة أصبحت في عقودها الماضية عبئاً على الجميع عرباً وعجماً، فالدمار الذي لحق بالجزء الشمالي منها خلال أقل من شهرين فاق ما سببه الحلفاء للمدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية خلال ست سنوات، وحسب تقرير «فايننشيال تايمز» فما تم تدميره من مبانٍ في جزء غزة الشمالي بلغ 68 % بينما بلغ التدمير في مدن ألمانيا 50 % لكن ممكنات الحياة بقيت هناك ولم يكن هناك قرار بإعدامها كما يحدث في غزة الآن.
جريمة التاريخ التي تحدث في غزة يعرف الجميع كلفتها الإنسانية وأبعادها ونوايا الفعل الإسرائيلي شديد الوضوح، وقد بات واضحاً أن صراع إسرائيل مع حركة حماس هو صراع يخفي ما هو أكبر كثيراً بل غطاء تأخذه إسرائيل للحصول على رخصة لاستكمال مشاريعها الإستراتيجية القديمة واقتلاع غزة من الجذور.
المشكلة أن الجميع يرون ذلك لكنهم يستمرون بمد البلدوزر الإسرائيلي بما يحتاج من الوقود لاستكمال التدمير ويطلبون بصوت خافت تجنب المدنيين، لكن الإسرائيلي ليس مستعداً لتفويت الفرصة التي لن تتكرر، فقد حصل على الترخيص ولن يتوقف .. لكن التاريخ سيسجل أن أكثر عصور الإنسانية ظلاماً تسبب بها هذا الجيل من الزعماء …والشعوب أيضاً.
لا يعني ذلك أن السياسة الفلسطينية بريئة، ربما لم يحن وقت الحساب بعد، أو هكذا يرى رئيس تحرير «الأيام» الذي رفض نشر مقال قبل أسبوعين معتقداً أنه من المبكر على المراجعة.
ولكن حين تنتهي الحرب سيكون هناك كلام كثير عن السياسة ومغامراتها التي وصلت بالشعب إلى هذه اللحظة الأكثر سواداً في تاريخه.
المصدر: جريدة الأيام