د- عبد الناصر سكرية
لم تكن تلك التظاهرات العارمة التي عمت معظم بلدان الغرب الأوروبي وبلدان العالم الثالث استنكارا للعدوان الصهيوني على فلسطين المحتلة المغتصبة وتأييدا لحريتها ومقاومتها الشعبية رفضا للاحتلال، مجرد تعاطف إنساني مع أبرياء مدنيين يتعرضون لعدوان مجرم؛ لكنها وبالإضافة إلى ذلك الجانب الإنساني النبيل؛ تعبير عن فهم أعمق لقضية اغتصاب فلسطين باعتبارها قضية تحرر وطني ترتبط ارتباطا وثيقا بكل قضايا التحرر الوطني التي تعيشها بلدان عالمية كثيرة. حتى أنها باتت واضحة الارتباط بقضايا الحركات الشعبية في دول الغرب الأوروبي ذاتها. وعلى الرغم من أن شعوب الغرب الأوروبي تعيش حالات من الاستقرار الوطني والقومي وقد تجاوزت منذ عقود طويلة مراحل التحرر الوطني وبلورت شخصياتها القومية ولا تتعرض أية بقعة من أراضيها لأي نوع من الاحتلال الخارجي؛ إلا أنها شهدت مظاهرات عارمة تأييدا لشعب فلسطين.. فلم تكن تظاهراتها إنسانية فقط بل تعدت الجانب الإنساني إلى مجال الحرية والكرامة الذاتية والحقوق المدنية لتلك الشعوب..
لقد بات واضحا أن الحركات الشعبية الغربية تدرك يوما بعد يوم ذلك الارتباط الوثيق بين قضية فلسطين وقضاياها المحلية الوطنية ليس فقط المطلبية المعيشية بل أيضا فيما يتعلق بمشاعرها الاستقلالية وعنفوانها القومي ووعيها السياسي واحترام شخصيتها المستقلة..
بات واضحا للكثيرين من أبناء هذه البلاد والمجتمعات أن القوى الرأسمالية العالمية التي أنشأت دولة الكيان الصهيوني وتحميها وتمدها بكل أسباب القوة والبقاء؛ هي ذاتها التي تمسك كل مقاليد السلطة والنفوذ في بلادها هي. وهي التي تمارس شتى أنواع التحايل على المكتسبات التي حققتها الحركات الشعبية الأوروبية عبر نضالاتها الطويلة الممتدة عبر قرنين من الزمان؛ منتزعة إياها انتزاعا من براثن تلك القوى الرأسمالية الاستغلالية. وهي ذاتها أيضا التي تتسبب في ارتفاع نسب البطالة والتضخم في بلادها نتيجة لسياساتها غير العادلة والتي تهتم فقط بمدى ما تجنيه من أرباح وتكدسه من أموال على حساب الحقوق الشعبية.. والأخطر أنها ذات القوى المسؤولة عن ظاهرتين اثنتين تشكلان تهديدا حقيقيا للمصالح الشعبية ومكتسباتها:
– الأولى: بروز وتصاعد التباينات الطبقية وظهور تفاوت اجتماعي اقتصادي فادح أدى إلى تراكم الثروة لدى أقلية رأسمالية باتت تعمل لمصالحها فقط فأقحمت ذاتها في صلب العمل السياسي حتى بات رجال المال والأعمال هم أنفسهم رجال السياسة أو هم من يصنعون رجال السياسة من وراء حجاب ؛ بما يتمتعون به من نفوذ مالي وإعلامي ساحق تحتاجه كل عملية انتخابية وكل عمل سياسي. حتى بات واضحا تماما أن القوى المالية الرأسمالية هي التي تصنع الرؤساء وتبرز نجوم السياسة وتقدم من هم على ارتباط بها القابلين بتجيير السلطات والقوانين لمصلحة تلك القوى وكل ما يخدمها.. فكان من نتائج هذا إفراغ الديمقراطية الغربية من محتواها الحقيقي وتحويلها إلى شكل ومظهر انتخابي تتلاعب به تلك القوى صاحبة المال والنفوذ المالي والإعلامي..
وإذا كان دور تلك القوى الرأسمالية في صنع السياسة ونجومها واضحا في الولايات المتحدة منذ عقود بعيدة؛ إلا أنه لم يكن كذلك في بلدان أوروبا. بل صار يتوضح تدريجيا منذ ثلاثة عقود تقريبا بعد أن كان قبلها واضحا لدى أقلية محدودة من النخب الثقافية والأكاديمية. إلى أن أصبح الآن واضحا لدى قطاعات واسعة من الفئات الشعبية والنخب الثقافية..
– الثانية: استمرار قوى السلطة الرأسمالية في انتزاع ما حققته الحركة الشعبية بنضالاتها النقابية والحزبية الطويلة ، من مكاسب وامتيازات ، وذلك عبر سلسلة من القوانين والإجراءات التي تصدرها ضمانا لمصالحها الرأسمالية الكبرى وتمكينا لها بمزيد من الحصار على دور وفعالية وحقوق الفئات الشعبية. وهو ما ارتبط ليس فقط بالمكاسب الحياتية والاجتماعية؛ بل تعداها إلى كرامة وحرية الفئات الشعبية ومدى قدرتها في التعبير عن ذاتها بحرية؛ حتى باتت مهددة بكثير من الإجراءات الإنتقامية القانونية وحتى الأمنية والتي تضيق عليها وتحاصرها وصار كثير منها تحت المراقبة والتضييق الوظيفي والمصلحي والأمني..
ومما فاقم الأمور سوءا ذلك التحالف الوثيق بين الصهيونية بكل ميادين عملها وبين القوى الرأسمالية العالمية التي باتت تنفرد بحكم وسلطات دول الغرب كله. ولقد تكشفت للكثيرين من أبناء تلك البلاد التدخلات الخفية والخبيثة للمؤسسات الصهيونية في شؤون بلادهم وفي أدق تفاصيلها. حتى صارت الصهيونية وما تحمله من سيف ” معاداة السامية ” أداة قهر وقمع لكل رأي حر وموقف شريف في أية قضية تمس الصهيونية ومصالحها من قريب أو بعيد. وظهر في أغلب بلاد الغرب ما يشكل مركز ثقل ونفوذ صهيوني يفرض ذاته على السلطات المحلية ويتدخل في شؤونها. بلغ الأمر في فرنسا مثلا، حدا جعل وزير خارجية فرنسا الأسبق رولان دوما الاشتراكي يكتب في مذكراته أن الموساد ” الإسرائيلي ” يتحكم بجهاز المخابرات الفرنسية..
وما مواقف الرئيس الفرنسي ماكرون المؤيدة تماما للعدوان الصهيوني على غزة إلا دليل عملي على مدى تغلغل النفوذ الصهيوني في الإدارة الفرنسية.. وهو الرئيس الذي رفعته المؤسسة الرأسمالية الفرنسية – الصهيونية بسرعة البرق من موظف مغمور في بنك (روتشيلد) إلى رئيس للجمهورية في غضون حوالي سنتين فقط..
أما ثورة اصحاب السترات الصفراء في فرنسا قبل عدة سنوات فلم تكن إلا محاولة شعبية لتثبيت مكتسبات حققتها سابقة واسترجاع ما صادرته قوى السلطة الرأسمالية منها بقوة التشريع والقانون..
ولقد بلغت ذروة الوعي الشعبي الرافض لممارسات القوى الرأسمالية في مواجهة القيم الاجتماعية؛ فيما يتعلق بموضوع ” المثلية ” التي أرادت تلك القوى تغطية فسادها وخططها لإفساد المجتمعات من خلال الترويج لها وتطبيع النفوس والعقول معها.. وكان دور ونفوذ الصهيونية وإعلامها واضحا في هذا الترويج المقزز. فكانت الخلفية الإيمانية الدينية المسيحية لكثير من أبناء المجتمعات الغربية؛ سببا رئيسيا في التصدي لتلك الظاهرة وعدم التجاوب معها..
ومن خلال كل هذه العوامل مجتمعة كان الوعي الشعبي الغربي بترابط قوى الرأسمالية بالقوة الصهيونية وسعيهما المشترك للسيطرة على العالم والإمساك بزمام السياسة والثقافة والاقتصاد والقيم الاجتماعية فيه بما في ذلك دول الغرب ذاتها ومعاداتهما للتطلعات الشعبية وحقوقها وحرياتها…ولما كانت هي ذاتها القوى التي تحمي دولة الكيان وتشاركها عدوانها الإجرامي ; فقد أدرك غربيون كثيرون أن معركة فلسطين هي ذاتها معاركهم لتحرير إرادتهم وبلادهم واسترجاع حقوقهم وكراماتهم المفقودة. وكان هذا وراء ذلك التأييد الشعبي العام والمنتشر والمتصاعد لفلسطين؛ وسط الفئات الشعبية الكثيرة التي تظاهرت وأيدت فلسطين مستنكرة جرائم ” إسرائيل ” مطالبة بوقف عدوانها على غزة الأبية..
أما في الولايات المتحدة فكان الأمر أكثر وضوحا لوجود أسباب إضافية تجعل وعي الأمريكيين يزداد حيال الدعم الأمريكي غير المحدود ل ” إسرائيل ” على حساب المواطن الأمريكي الذي يدفع من ماله الخاص ما تقدمه أمريكا للصهاينة الذين يتمتعون في فلسطين المحتلة برعاية اجتماعية وصحية ليست متاحة للمواطن الأمريكي ذاته..
وهكذا يجد أحرار المجتمعات الغربية أنفسهم في حالة تضامن مع شعب فلسطين وأحرار العرب.. وبالتالي فإن معركة تحرير فلسطين هي ذاتها قضية كل غربي حر شريف في مواجهة قوى السلطة الرأسمالية المتصهينة..
وما ينطبق على شعوب الغرب ينطبق أيضا على شعوب العالم الثالث وأمريكا اللاتينية التي لم تعرف في الغرب إلا احتلالا وناهبا لخيراتها المتسبب دائما وأبدا في عدم استقرارها وبقاء جيوشه في عقر دارها؛ تتآمر عليها وتضطهد ها وتنهبها وتزرع فيها الحروب والفتن..
هكذا وجدت تلك الفئات الشعبية المتحررة نفسها في معركة مشتركة مع شعب فلسطين ضد ذات القوى المعتدية المجرمة..
ولربما جاز لنا القول إن في خلفية ذلك التأييد الشعبي البعيدة؛ شيء مما تبقى من حساسية أبناء المجتمعات الغربية تجاه عنصرية عدد كبير من اليهود المنفصلين عنهم الساعين دائما لاحتكار المال والسلطة والنفوذ. مما خلق ما عرف في التاريخ الأوروبي بالمسألة اليهودية…
ولعل مقاومة شعب فلسطين للمشروع الصهيوني الاستعماري تكون السبب الأساس في تراجع الهيمنة الرأسمالية – الصهيونية وبداية تفكك النظام الغربي ومعه دولة الكيان الغاصب واندحارها وبالتالي تخليص العالم بأسره من تلك الهيمنة المتوحشة المجرمة. مع ما يدفعه شعب فلسطين ومعه الشعب العربي من أثمان باهظة وخسائر فادحة من أبنائه وعمرانه ونهضته وتقدم بلاده..
وتبقى المشكلة المزمنة والتي تستوجب حلا موضوعيًا علميًا هي غياب مؤسسات فاعلة للعمل الشعبي العربي تفعله وتتفاعل به مع كل الأوساط العالمية المؤيدة للحق العربي في فلسطين.