تقارير
عندما يرحل الرجال ذوي المبادئ والمواقف الصلبة، تفقد الأوطان الكثير من مرتكزاتها، وفي رحيل الأخ العزيز الغالي (أبو محمود) محمد عمر كرداس يشعر المرء أن الفراغ سيكون كبيرًا، لما كان للراحل من وجود وطني وعروبي فاعل، وهمة واستمرارية وعيوية قل مثيلها. رحل (أبو محمود) وكان الفقد صعبًا للغاية، لكن العزاء دائمًا أن هناك من الأجيال الآنية، والأجيال الصاعدة ما يمكن أن يكون مرتكزًا لعمل وطني قادم، لابد أن يكون على طريق الحرية والكرامة.
استوقفنا بعض أصدقاء وإخوة الفقيد (أبو محمود) فتحدثوا عنه بكل حرقة وألم:
المهندس أحمد طه صديق الراحل قال: رحم الله الأخ أبو محمود، عرفته جارًا، فقد كنا في نفس الحي بل في نفس البناء، وهو صديق مقرب من والدي، أطال الله عمره، كما أنني عرفته عضوًا قياديًا في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، التقينا عدة لقاءات في هذا الجانب سواء في مؤتمرات أو ندوات. بعد ذلك عملنا مع بعض إضافة إلى بعض الإخوة على تأسيس موقع (الحرية أولًا) ومنذ ذلك الحين تجمعنا لقاءات دورية ونقاشات طويلة حول التاريخ والحاضر، تميز رحمه الله بذاكرة حديدية، يستحضر الأحداث والتواريخ وكأنها مكتوبة أمامه. رحمه الله وكل العزاء لأولاده محمود وناصر ومعاذ، الذين لم يكونوا مجرد جيران بل كانوا إخوة”.
أما الدكتور مخلص الصيادي فقال:” رحمة الله عليك أبا محمود، غفر الله لك، وأسكنك فسيح جناته، ورفعك إلى مراتب الشهداء، فقد قضيت مريضًا غريبًا. ومطاردًا. كنت رفيقًا عالي الهمة من رجالات التيار الناصري، ومن قادة حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية. ومن أعلام الحركة الشعبية في دوما، ويشهد لك كل من عرفك بحسن الخلق والالتزام بقضايا الأمة وبهموم الشعب. ألهم الله الأهل والرفاق والأصدقاء الصبر الجميل، ولا حول ولا قوة إلا بالله”.
من جهته فقد قال الأستاذ عبد الرحيم خليفة من أصدقاء الفقيد:” عرفت الراحل الفقيد لأول مرة في القاهرة/ جمهورية مصر العربية، حيث كنت أقيم هارباً من الملاحقة الأمنية، في المؤتمر التأسيسي للحزب العربي الديمقراطي الناصري في سبتمبر/ أيلول 1992 حيث مثل حزب الاتحاد الاشتراكي العربي والراحل الكبير الدكتور جمال الأتاسي الذي كان في حينها ممنوعاً من السفر. في ذلك الزمن كان الجهر بالانتماء للمعارضة شجاعة بل ربما مخاطرة وتهور لا يقدم عليها إلا الرجال الرجال، وكان أحد هؤلاء بلا شك راحلنا العزيز الأخ محمد عمر كرداس” ثم أضاف ” بعد مؤتمر حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي في 2006، وبعد جملة متغيرات كبيرة، التقينا وعملنا معاً في المكتب الإعلامي للحزب، برفقة نخبة ممن رحلوا، أذكر منهم الشهيد البطل محمد فليطاني، والمغيب الأخ رجاء الناصر، والشهيد صفوان عاقل، والراحل الكبير محمد جبر المسالمة، والشاعر الراحل محمد علي الحايك. رحم الله فقيدنا ابن دوما البطلة، وقلعة النضال الوطني الديمقراطي، والذي كان نموذجاً في النضال والتضحية والعطاء، مثقف وسياسي حمل هم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في السنوات العجاف، سنوات الجمر والصبر، كما ظل لآخر لحظة من حياته مخلصاً لوطنه وعروبته. تقبله الله شهيداً في غربته القسرية، وألهمنا الصبر.”
أما المهندس عبد الباسط حمودة أحد أصدقاء الراحل ومدير تحرير موقع الحرية أولًا فقال عنه:” لقد رحل الرجل الصلب الأستاذ المناضل محمد عمر كرداس “أبو محمود” الذي استطاع أن يحافظ على طهر وبراءة القصد طيلةَ عمره، فلم تُفسده السياسة رغم خوضه غمارها طيلة عقود منذ أن وجد نفسه بحركة القوميين العرب أوائل الستينات ومن ثم في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي منذ تأسيسه عام 1964، إنه قد انخرط بالحزب مع جل الحركة التي وضعت نفسها عام 1961 بمواجهة الزمرة الانفصالية بعد جريمة الانفصال، وساهم بشكل فعال بالمؤتمر الرابع لحزب الاتحاد عام 1968 الذي انعقد في دمشق غداة هزيمة 1967، هذا المؤتمر الذي قرر الدعوة لتأسيس جبهة وطنية في سورية للمساهمة بإزالة آثار العدوان، فما كان من نظام 23 شباط/ فبراير 1966 إلا أن اعتقل قيادة الحزب إثر إعلان ميثاق تلك الجبهة، لقد ساهم المرحوم “أبو محمود” بقيادة العمل التنظيمي والسياسي للحزب من خلال ما سميت “مرتبة الجهاز السياسي” حينها ريثما تخرج القيادة من المعتقل. ” ثم أضاف ” مع إعلان التجمع الوطني الديمقراطي في سورية عام 1979 يكون أحد أهم أعمدته في دمشق وريفها خاصة وفي سورية عامةً، ويتصدى للكتابة بنشرته التي حملت اسم “الموقف الديمقراطي” إضافة لمشاركته الفاعلة بالمكتب السياسي لحزب الاتحاد من خلال مكتب الإعلام لاستصدار نشرة “الاشتراكي العربي” ومن ثم نشرة “العربي”.
وبعد انعقاد المؤتمر الثامن للحزب عام 2000 بأيام خسر الحزب والكفاح الوطني السوري الأخ الأمين العام لحزب الاتحاد وللتجمع الوطني الديمقراطي الدكتور جمال الأتاسي، فكان دور الأخ المرحوم “أبو محمود” مميزاً بالتشييع في حمص وفي التأبين بدمشق بذكرى مرور 40 يوماً على وفاته وكذلك بانطلاق وعمل وحُسن أداء منتدى الدكتور جمال الأتاسي بعد انطلاقته في دمشق.
وبعد انطلاق ثورة الحرية والكرامة عام 2011 انحاز بشكل تام لأهداف الثورة والجماهير السورية في الساحات، التي كلفته وأسرته الاعتقال ومداهمة بيوتهم ومن ثم تدمير بعضها في مدينته “دوما” قلعة الوحدة والعمل الناصري في سورية، وكان لزاماً عليه بعد الخروج من المعتقل وهو في أوائل السبعينات من العمر مغادرة سورية حتى وافته المنية في اسطنبول صبيحة 27 كانون الأول/ ديسمبر 2023.
يمكن أن يقال الكثير عن الأخ المرحوم “أبو محمود” إلا أنني أكتفي أخيراً بأن ولائه كان دوماً للفكرة والمبدأ، لسورية المتحررة من الاستبداد والطغيان وكل استطالاته القاتلة، هذا الولاء للنضال الوطني السوري الجامع كخط ناظم للافتراق بين الوسيلة والغاية حين يكتشف المفارقة في ذلك، فقد رفض أي شكل من أشكال المشاركة بكتل وتجمعات ما بعد الثورة التي رأى فيها تجسيداً لحالة الفُرقة والافتراق عن طموحات شعبنا السوري، فكان له شرف المساهمة بإطلاق موقع «الحرية أولاً» ورئيس لمجلس إدارته، كي يستمر بالكشف والمكاشفة في زمنٍ لا يهتم بالصدق وقول الحق بل يهتم بتغييب الحقيقة لصالح مقولات وترهات لا وطنية بل ما قبل وطنية خدمة لأجندات خارجية، لعل الزمن يسمح يوماً بأداء وطني وقومي أعم وأرقى وأشمل. وداعاً أخ “أبو محمود” يا من وقفتَ نصيراً للوطنية السورية والعروبة والناصرية على طريق الوحدة العربية، وفي رحاب الله وعفوه وجناته ورضوانه يا من كنت أخا عزيزاً صادقاً للكفاح والنضال منذ 50 عاماً خلت.”
أما المهندس السيد بسام شلبي أحد أصدقاء الراحل فقال:” أستاذنا الكبير محمد عمر كرداس رحمه الله وعوضه الجنة كان تجربة نضالية ثرية في أطر التيار القومي والمعارضة الديمقراطية في سورية على مدى عقود. ولا أريد أن أزاود أو أتجمل في حضرة الموت فأقول إني كنت على علاقة طيبة معه على طول الخط بل أن علاقتنا شابها الاختلاف الدائم والتدافع الطبيعي بين الاجيال المختلفة في التيار الواحد بين جيل يريد أن يحافظ على ما وصل إليه من بناء وما اعتاد عليه من نهج واساليب وبين جيل يرغب في الخروج عنها و تغيرها حتى لو كان بمغامرات غير محسوبة كانت تسبب لهم القلق..
ولكن دون شك أن علاقتنا دائما كان يسودها الاحترام المتبادل من جهتنا لتاريخه النضالي وشخصيته الهادئة المتزنة.. ومن جانبه كان هناك احترام لاندفاعنا وحقنا كشباب بالتغير..
إن تلك العلاقة المعقدة المختلطة المشاعر دفعتني مرة لاتهامه بممارسة الأبوية السياسية في وجهه وفي بيته.. وإن كنت لا اقصدها بمعناها السلبي المطلق.. ولكنني شعرت أنه في العمل السياسي كان مثل اي رب اسرة يسعى بكل ما أوتي من جهد لضبط ابنائه وتوجيههم للأهداف التي حددها لهم وفق المنهج الذي يراه مناسبا لهم.. ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع ايضا اخفاء سعادته وهو يرى ابناءه يختطون طريقهم الخاص وبشخصيتهم الخاصة وطموحاتهم المختلفة” ثم قال:” .. كم أتعبنا قلبك -معلمنا الكبير- قبل أن يتوقف في برد الغربة وظلام الكربة.. فليرحمك الله ويعوضك خيرا مكانا ويعوض أمتنا رجالا كثيرا مثلك أو أفضل كما يسعى كل اب أن يكون الجيل القادم أفضل وأكفأ. لقد سلمت الأمانة.. فنم في سكينة ولا تحزن فقد ولد الجيل الذي به نستبشر وعلى يديه التحرير والنصر بإذن الله”.
الدكتور محمد مروان الخطيب صديق الراحل قال: ” نشهد في السنوات الأخيرة فقدان المشروع السياسي العروبي برحيل مناضلين سخروا حياتهم للنضال لنصرة المشروع السياسي للأمة العربية في القرن العشرين، في لحظة يعيش فيها التيار العروبي لحظات حرجة في مساره لم يشهد لها مثيل بعد الانتكاسة التي مني بها هذا التيار بعد غياب زعيمه في نهاية ستينيات القرن المنصرم. وإن كان أخينا محمد عمر كرداس (أبو محمود) قد ترجل في المنفى الذي اختاره لنفسه بعد أن ضاقت عليه سبل الاستمرار في نضاله من معقله في دوما القاعدة الناصرية الصلبة في دمشق، إلا أنه بقي جاذباً ومستقطباً لمن يمت لهذا التيار العروبي حيثما حل، ليعيد تشبث هذا التيار بقضيته، ويبقى حاملاً لمشعل النضال الثوري لأنصار التيار العروبي الذين جددت لهم أحداث طوفان الأقصى العزيمة على أهمية جمع شتات ما تبقى لهم من عزيمة لإعادة تصحيح مسار ثورات الربيع العربي.
إن كان رحيل أخينا أبو محمود قد أوقد في أذهاننا بأن جيل قادة النضال العروبي في سورية قد قارب أن يترجل ويتنحى إلى الوجود، مما يوجب على تلامذتهم محاولة ملء فراغ كبير خلفهم غياب هذه القامات والتي يعتبر أخينا أبو محمود آخرهم، وهذه مهمة ينوء بها كاهل هؤلاء التلامذة المشتتين في أصقاع المعمورة في خضم تراجع المد العروبي في الحاضنة الشعبية في الساحات التي شهدت ثورات الربيع العربي.” وأضاف:” في هذه اللحظات التي نعيش فيها فقدان قامة هامة للتيار الناصري نستشعر انكسار يصعب ترميمه بعد سلسلة التراجعات التي نعانيها على مستوى المكانة في الساحة الشعبية في الوطن العربي، مما يوجب علينا المزيد من التركيز على ما خلفته هذه القامات تراث نحاول الالتفاف حوله وإعادة صياغة آليات عمل تجعلنا حاملين للشعلة النضالية التي كرسوا حياتهم من أجلها. رحم اللـه أخينا الكبير (أبا محمود) العروبي الأصيل، المناضل ضد الاستبداد، ومن لم ينحن في كفاحه ونضاله لتحقيق أهداف أمته وكرس حياته لمعتقداته ومبادئه، رحمك اللــه وطيب ثراك وأسكنك فسيح جناته.”
الأستاذ نعمان حلاوة من أصدقاء الفقيد قال: ” ارتبط اسم محمد عمر كرداس ” أبو محمود” في ذاكرتنا منذ الصغر، بالناصرية وحزب الاتحاد الاشتراكي في ريف دمشق الشرقي وخاصة مسقط رأسه مدينة دوما كونه كان صديقا لبعض الأقارب. لقد أتى نشاطه السياسي مع ثلة من أبناء جيله في مرحلة مبكرة من العمر مع تفتح الوعي السياسي وضرورة العمل والتأثير في مرحلة الفتوة تجاوبا مع حالة الغليان السياسي في الساحة السورية في مجابهة نظام الانفصال وحالات الاستبداد السياسي التي بدأت تعصف بالبلاد للسيطرة على مقدراتها وحرفها عن دورها الفاعل كجزء من الامة العربية. فكان أبو محمود رحمه الله أحد رموز العمل السياسي وقادته منذ ذاك الوقت. ما يقارب من 60 سنة قضاها في العمل السياسي ضد النظام السوري واستبداده وعلى أكثر من جبهة وأكثر من موقع في سبيل التغيير الوطني الذي لطالما حلم به السوريون. لكن بالإضافة لنشاطه السياسي لا يزال الكثير من أبناء مدينته يذكرونه وأصدقاؤه من حزب الاتحاد الاشتراكي بكل خير لتأسيسهم جمعية دوما السكنية لمنطقة دوما عام 1975 التي قدمت مشاريع رائدة في تأمين شقق سكنية ذات مواصفات جيدة في ذلك الوقت، في فترة كان نظام الحكم في سوريا قد بدأ في استنزاف موارد البلاد وافقار الشعب ووضع العراقيل أمام المواطن في تأمين مستلزمات حياته وخاصة المسكن الذي أصبح فيما بعد حلما لكل شاب.
وهنا جاءت مبادرة كوادر من حزب الاتحاد الاشتراكي في تأسيس هذه الجمعية السكنية واتفق على أن يكون محمد عمر كرداس رئيساً لمجلس ادارتها وبدأت العمل مباشرة وفي ظرف قياسي كانت قد نفذت العديد من المشاريع وتم تسليم البيوت للمشتركين في سهولة ويسر وقد نالت بذلك ثقة الناس وذاع صيتها كأكبر جمعية سكنية بالقطر من حيث المشاريع المنفذة ومن حيث عدد المستفيدين. واستمرت الجمعية في نشاطها برئاسة الأستاذ أبو محمود لأكثر من خمس عشرة سنة الى ان قامت الحرب على العراق عام 1991فوجد النظام ذريعة في مواقف حزب الاتحاد الاشتراكي من هذه الحرب فاعتقل بعض من مجلس ادارتها وحل الجمعية ووضع بدلاً منهم من يدينون بالولاء والطاعة فاتحا باب الفساد في هذه المؤسسة كغيرها من مؤسسات دولة الفساد. رحم الله الأستاذ محمد عمر كرداس الذي كان من الذين يهمهم حال أمتهم وبقي إلى آخر يوم في حياته يبذل ما استطاع في سبيل البحث عن مخرج حالة بلده وأمته.”