د. عبد الناصر سكرية
أمام كل حدث مصيري يواجه بلدا عربيا أو الأمة العربية بأسرها، تتعالى أصوات كثيرة تتساءل أين العرب ؟ ولماذا لا يتحرك العرب لمواجهة التحديات المصيرية التي تواجههم ..ومع إستمرار وتصاعد حرب الإبادة الشاملة التي يشنها العدو الصهيوني على غزة وشعب فلسطين العربي منذ ثلاثة أشهر متواصلة دونما أي إعتبار لأية قوة عربية أيا كانت ؛ يعود إلى الواجهة ذلك التساؤل الأليم : أين العرب ؟؟
سؤال يحمل في طياته الكثير من الألم والحسرة والمعاتاة من غياب أصحاب السلطان والنفوذ عن تحمل مسؤولياتهم التي ينبغي أن يتحملوها في مواجهة التحديات التي ترسم مصير البلاد العربية ومستقبلها لعقود مقبلة..وفي ذات الوقت يحمل كثيرا من التشكيك والتحريض ضد العرب بما يعني ضمنا العروبة أيضا..وذلك تبعا لخلفية الجهة التي تتساءل..
ينبغي للاجابة على مثل هذا التساؤل ، تحديد من هم العرب..
في الواقع العربي ثمة إنقسام غير صحي وغير متوافق مع ضرورات التقدم ومواجهة التحديات المشتركة ؛ إنقسام يهدد بذاته مستقبل العرب منفردين ومجتمعين..وهو الإنقسام إلى فئتين متباينتين : فئة تملك السلطة والسلطان والنفوذ وكل مقومات القوة والقانون وفئة تعاني فتخاف فتكتم وليس في يدها شيء من مكامن قوة الفعل الآني المؤثر..
الفئة الأولى هي المسؤولة عن إتخاذ القرارات والمواقف فتتخذها تبعا لمصالحها الخاصة وضرورات الحفاظ على مكاسبها وإمتيازاتها وسلطاتها وعلى نيل رضا وموافقة من يحمونها ويمسكون مفاتيح نفوذهم بل ووجودهم ذاته..هؤلاء هم المعنيون والذين يجب أن يوجه إليهم السؤال : أين العرب ؟؟؟ولماذا يتخاذلون عن إتخاذ المواقف التي تحمي بلادهم منفردين ومجتمعين..
أما الفئة الثانية وتضم الفئات الشعبية بمختلف مستوياتها وإهتماماتها..فهي مهمشة مقهورة مضطهدة مجبرة على الإنصراف إلى همومها الحياتية والمعيشية اليومية فلا يبقى لها من الوقت ما يكفي للإهتمام بما هو أعلى من ذلك..هذا إن كان لديها ما يكفي من الشجاعة لتحدي ظروف القهر والخروج إلى الشارع مطالبة بالمواقف التي تتمناها..
وقد بينت أحداث الشهور الثلاثة الماضية وما فيها من حرب إبادة ضد أهل غزة الأبية يشنها تحالف امريكي – صهيوني غربي إستعماري ؛ تعاطف وتضامن الغالبية الساحقة من أبناء الشعب العربي مع فلسطين وأهل غزة تجلى ذلك في عشرات مظاهرات التأييد للمقاومة الشعبية في غزة ؛ والتنديد بالعدوان ؛ في كل البلاد ومدنها وقراها كما في الكثير من المظاهر التضامنية الأخرى..المشكلة أن كل هذه التظاهرات لم تؤخذ في الإعتبار من قبل أصحاب السلطان والنفوذ وقوة الفعل..فهؤلاء أصلا وأساسا لا يعطون للمشاعر الشعبية قيمة أو إعتبارا في كل الأمور وليس فقط فيما يتعلق بفلسطين..
فضلا عن ذلك فإن أصحاب السلطان والنفوذ وإمكانيات الفعل يعملون منذ تكوينهم ونشأتهم على محاربة تلك العقيدة التي تنص على وحدة المصير العربي وضرورات عمل عربي مشترك لتحديد ماهية ذلك المصير وما يواجهه من أخطار وتحديات..فهم تم تكوينهم ثقافيا ومصلحيا وسياسيا لتحقيق جملة أهداف تخدم مصالح وخطط من كان في أساس تكوينهم وتصدرهم للسلطان وإمتلاكهم مفاتيح القوة وأسبابها ..وفي طليعة تلك الأهداف المطلوبة منهم إستئصال الشعور الشعبي العربي العارم العام بوحدة المصير العربي..وهو الشعور الذي يملي التضامن الفعلي بين أبناء البلاد كافة حينما يواجه أحدها عدوانا أو خطرا ما..كما هو الحال في فلسطين.. وقد أدى هؤلاء دورهم المطلوب بنجاح كبير من خلال ما يتمتعون به من قوة التقرير والفرض والتقنين والتشريع ..ورغم ذلك لم يتخلى الشعب العربي عن عقيدة المصير العربي الواحد والتي يدركها بتكوينه وفطرته ووعيه بتجارب التاريخ وضرورات الحياة والبقاء في المستقبل..لا بل من طبيعة العدوان ذاته والأخطار التي تستهدفه…فيبدو له واضحا خطر كبير على وجوده القومي ذاته فكرا وتراثا وقيما ودورا وإمكانيات بشرية وطبيعية ..فيتمسك بمشاعره التوحيدية مطالبا بموقف عربي رسمي موحد وهو الغائب وهو ذاته المعني بذلك التساؤل المحق والمتحسر : أين العرب …
لقد بات واضحا وثابتا أن النظام الرسمي لن يتخذ من المواقف ما يعبر عن وعي وإدراك بوحدة المصير العربي التي تستدعي موقفا فعليا حاسما وحازما إلى جانب فلسطين وشعبها العربي الذي يتعرض لأخطر إحتلال إستعماري عرفته البشرية..
ومع هذا يبقى السؤال ذاته موجها الى الحركات الشعبية بأشكالها المختلفة : أين أنتم ؟؟ فإذا كان أصحاب السلطان يمتنعون عن فعل التضامن مع فلسطين ، فأين هي التنظيمات والأحزاب والنقابات والإتحادات المهنية العربية والتي من المفترض أنها تعبر عن الإرادة الشعبية وتقود خطواتها نحو المواقف العملية المعبرة عن المصير العربي الواحد ؟؟
مؤسف القول غياب تلك التنظيمات عموما عن ساحات العمل الشعبي وميادينه..والأسباب كثيرة ..فقد إستطاع أصحاب السلطان والقوة والنفوذ إستيعاب تلك الأحزاب والتنظيمات والإتحادات المهنية والنقابية حتى صارت تدور في فلكهم هم متخلين عن التفاعل الواجب مع الضمير الشعبي ومشاعره ومصالحه..فغابوا عن ساحة الفعل وحتى عن ساحة التعبير العاطفي والوجداني..أين إتحاد المحامين العرب مثلا وهو الذي كانت له أدوار ذات فعل وثقل..كيف يتحرك محام فرنسي ومعه مئات المحامين من العالم للشكوى ضد عدوان الصهاينة على عرب فلسطين فيما يغيب المحامون العرب ونقاباتهم وإتحادهم رغم وجود عشرات الأسباب والمبررات القانونية التي يفرزها واقع العدوان ؛ لتكون سلاحهم في التصدي له أمام المحاكم الدولية ؟!!..
ومثل هذا يقال عن الأطباء وإتحاداتهم وروابطهم الكثيرة..فمن باب المهنة ألا يكفي إقتحام وتدمير المستشفيات وقتل الأطباء والأطقم الطبية وقتل المرضى أطفالا وشيوخا ؛ ألا يكفي كل هذا لتتحرك إتحادات الأطباء العرب ولديها كل المبررات المهنية والانسانية للتحرك إذا لم تكن لديهم رغبة التحرك لأسباب سياسية مثلا ؟؟ ومثل هذا في عالم الآعلام والصحافة فالعدو الصهيوني يتعمد قتل الصحافيين أفلا تتحرك نقابات الصحافية والآعلام !!
ومثله تدمير المدارس ودور العبادة والبيوت وكل مظاهر الحياة ومقومات البقاء والإستمرار للمستقبل في أرض فلسطين..
لن نتحدث عن الأحزاب العربية التي تم إحتوائها وبرمجتها من قبل أصحاب السلطان والمال فباتت خارج السياق الشعبي كأصنام تعبد ذاتياتها ومصالحها الفئوية..
وتبقى فئة واسعة من النخب العربية المتنوعة التي تم إستيعابها من قبل قوى النفوذ الأجنبي وأدواته المحلية المتشعبة سواء بالإبتزاز أو الإرتهان المصلحي والفكري والسلوكي..فخرجت من حساب الزمن الشعبي بل باتت ممن يمارسون عليه قهرا من نوع آخر يتمثل في تثبيط الهمة وإثارة التشكيك ونحر القيم وتزييف الوعي وإثارة الفتن وتشتيت الجهود والتوجهات والإلهاء بالأمور الهامشية والآهتمام بالشكل على حساب المضمون..
يضاف إلى كل هذا ذلك القمع والتنكيل الذي يتعرض له كل من يؤمن ويتحدث بلغة المصير العربي الواحد وكل من لا يزال مستمسكا بعرى الشعب والضمير الشعبي الحر والإرادة المستقلة والأمانة الأخلاقية..قمع وتنكيل من كل أؤلئك الذين يملكون قوة الفعل والسلطان محليين وخارجيين .رسميين وغير رسميين ..وكثيرة هي التشكيلات المحبطة والمتنكرة للعروبة ووحدة مصير أبنائها ؛ ومعظمها يعمل في الخفاء أو تحت عناوين كاذبة مخادعة..
لجميع هذه الأسباب لم يبلغ الفعل الشعبي العربي مبلغ الفعل والتأثير في التضامن العملي مع شعب فلسطين..ورغم ذلك تبقى المسؤولية الكبيرة ملقاة على عاتق أبناء الحركات الشعبية العربية الحرة الشريفة المستقلة..وهم كثيرون ومنتشرون فما عليهم إلا العمل في جماعة منسقة ليكونوا فاعلين مؤثرين..ولا يعفيهم من هذه المسؤولية أي عائق..
بقي أن نذكر بأن أصواتا كثيرة تخلط بين العرب الرسميين والشعبيين لتهاجم العروبة ذاتها وتسهم في تلك الحرب المعادية التي تستهدف الهوية القومية ورابطة العروبة لتصب في غايات أصحاب النفوذ والمشاريع المعادية في تدمير الوجود العربي وإستفراد البلاد العربية واحدا بعد الأخر..فهل يعي ” العرب ” هذا أم يبقون في سبات الخوف والمراكز والمناصب !!!
المصدر: كل العرب