فارس خشان
تعقد محكمة العدل الدولية في مقرّها في مدينة لاهاي الهولنديّة، جلسات استماع تمهيديّة، للنظر في “معقوليّة” الشكوى التي رفعتها أمامها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، متهمة إيّاها بارتكاب جرائم الإبادة الجماعيّة في قطاع غزّة.
وهذه هي المرّة الأولى منذ تأسيسها، على الرغم من خوضها أكثر من حرب ومواجهتها أكثر من انتفاضة وعصيان واضطراب، تجد إسرائيل نفسها في “قفص الاتهام”.
بطبيعة الحال، تدافع إسرائيل عن نفسها بنفي التهمة الموجهة إليها، جملة وتفصيلًا، بزعم أنّها لو شاءت فعلًا، في أيّ لحظة من اللحظات، إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، لتمكنت من ذلك، بفعل القوة النارية الهائلة التي تملكها والأسلحة المتطورة التي تضع يدها عليها، والتفوّق الإستراتيجي لجيشها.
ولكنّ الجهة المدّعية المدعومة بقناعة الأكثرية في العالم، ترى في العدد المرتفع من الضحايا في قطاع غزة، مرفقًا بتصريحات الإبادة الجماعية الصادرة عن كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في إسرائيل، من جهة أولى، والتدمير الهائل في المساكن والبنى التحتية الذي جعل من قطاع غزة مكانًا غير صالح للسكن، من جهة ثانية، وتجويع الشعب من خلال منع الماء والطعام والدواء عنه، من جهة ثالثة، أدلّة ساطعة إلى نيّة إسرائيل ارتكاب الإبادة الجماعيّة.
وترد إسرائيل على ذلك بأنّ المسؤوليّة الكاملة تقع على عاتق حركة “حماس” التي بعدما “ارتكبت مذبحة في غلاف غزة وأسرت المدنيّين بمن فيهم الأطفال والعجائز” تحصّنت بين المدنيّين مانعة إياهم، على الرغم من التحذيرات الإسرائيليّة “المتطابقة مع قوانين الحرب”، من المغادرة، في حين أنّ التصريحات المنسوبة إلى كبار المسؤولين الإسرائيليّين إمّا قد جرى سحبها من “سياقها الصحيح”، إذ إنّها لم تكن، في أي لحظة موجهة إلى المدنيّين، بل إلى مقاتلي “حركة حماس”، أو هي لشخصيات لا علاقة لها بالحرب، حتى لو كان بعضهم وزراء في الحكومة، لأنّ هؤلاء، كما هي حال الوزير الذي طالب بإلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، ليسوا أعضاء لا في الحكومة المصغرة ولا في حكومة الحرب. كما تنفي إسرائيل تهمة تجويع السكان، إذ إنّها تتهم حركة “حماس” بمصادرة كل ما كان متوافرًا من مؤونة في قطاع غزة بداية، والسطو لاحقًا على ما كان يدخل من مساعدات، في حين أنّ هناك ترتيبات كان لا بدّ من اتخاذها على المعابر، قبل فتحها، حتى لا يتم إدخال الأسلحة تحت ستار المساعدات الغذائية والطبية.
وسوف تستعين إسرائيل في رد على الدعوى، وبهدف إسقاطها، في مرحلتها البدائية، بتصريحات صادرة عن “حماس” و”حزب الله” وسائر التنظيمات في “محور الممانعة”، بالإضافة طبعًا إلى أقوال كبار المسؤولين الإيرانيّين لتؤكد أنّها، في غزة، كانت تدافع عن نفسها من مخطط معلن عنه يهدف إلى “محوها من الوجود” و”رميها في البحر” و”تهجير شعبها”، زاعمة أنّ “حركة حماس” حوّلت قطاع غزة إلى جبهة متقدمة لتحقيق هذا “الهدف الإبادي” ضد دولة إسرائيل وشعبها!
بطبيعة الحال، لن تصدر “محكمة العدل الدوليّة” في ضوء ما ستنتهي إليها جلساتها التمهيدية اليوم وغدًا حكمًا نهائيًّا، ولكنّها، إذا أضفت صفة “المعقوليّة” على الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا، رافضة بذلك ما سوف تقدّمه إسرائيل من دفوع ودفاع، يمكنها أن تصدر توجيهات متطابقة مع ما طلبته الجهة المدعية، أي إصدار أوامر موقتة ضد إسرائيل تتراوح بين المطالبة بوقف شامل وفوري لإطلاق النار والإصرار على السماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية.
ومعروف أنّ الحكم النهائي في دعاوى مماثلة يستغرق صدوره سنوات عدة.
وسوف يكون كافيًا، في هذه المرحلة لمعارضي استمرار الحرب الإسرائيليّة ضد قطاع غزة، أن تقبل محكمة العدل الدولية الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا، نظرًا إلى تأثيراتها السلبيّة على مكانة إسرائيل الدولية.
ولا تملك محكمة العدل الدوليّة قدرات تنفيذية، ولكن إذا رفضت إسرائيل الامتثال لأوامر المحكمة، فمن الممكن إحالة القضية إلى مجلس الأمن الدولي، الذي يتمتع بسلطة فرض العقوبات بمختلف أنواعها. ويمكن أن تشمل هذه العقوبات التجارية، أو حظر الأسلحة، أو غيرها من الإجراءات العقابية.
من المرجح، في هذه الحالة، أن تستخدم دول مثل الولايات المتحدة الأميركية، حق النقض ضد هذه المروحة من العقوبات، خصوصًا أنّ مواقفها لا تتواءم وتطلعات جنوب أفريقيا. وكان وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن قد قال في تل أبيب، يوم الثلاثاء الماضي، إن تهمة الإبادة الجماعية التي وجهتها جنوب أفريقيا إلى إسرائيل في محكمة العدل الدولية “لا أساس لها من الصحة”، ووصفها بأنها “مزعجة خاصةً”، لأن “حماس وحزب الله والحوثيين وداعمتهم إيران، يواصلون الدعوة علناً إلى إبادة إسرائيل والقتل الجماعي لليهود”.
ولكن إذا أصدرت المحكمة قرارات “أوّليّة” ضد إسرائيل، فإنّ الرئيس الأميركي جو بايدن سيوضع في موقف صعب بسبب الجناح التقدمي لحزبه الديموقراطي.
ولهذا لن يكون الدفاع عن إسرائيل متهاونًا في المواجهة التي ستتسلّط عليها عيون العالم، وإذا كانت جنوب أفريقيا قد قدمت دعوى موزعة على 84 صفحة، فهو سوف يقدم دفاعًا موزعًا على 84 ألف صفحة، وفق ما يرى مصدر متابع للملفات أمام محكمة العدل الدولية.
والأخطر أنّ الدفاع الذي عهدت به الحكومة الإسرائيلية إلى مكتب محاماة بريطاني، قد يفتح ملف الدول التي ينتسب إليها عدد من قضاة المحكمة، بحيث قد يلمّح – وهذا ما بدأه البعض في إسرائيل نفسها – إلى أنّ المحاكمة “يستحيل أن تكون عادلة”، ليس لأنّ تعيين القضاة الدائمين الخمسة عشر يتم على أساس سياسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة فحسب، بل لأنّ بعض هؤلاء ينتمون إلى بلدان لم تعرف يومًا معنى الاستقلال القضائي، وبالتالي فهم قد يكونون خاضعين لإرادة حكوماتهم المعادية لإسرائيل، أيضًا.
وفي هذا إشارة واضحة إلى قضاة يأتون من روسيا والصين والمغرب والصومال ولبنان وأوغندا، حيث “الأنظمة استبدادية ومعادية لإسرائيل”، ليجلسوا إلى جانب رئيسة المحكمة جوان دونوغو من الولايات المتحدة، وقضاة آخرين من دول ديموقراطية مثل فرنسا وألمانيا وأستراليا والهند وسلوفاكيا وجامايكا واليابان والبرازيل.
وإذا كان هذا الشك في مكانه، فهو لن يصبّ بالضرورة ضد مصلحة إسرائيل لأنّ الصين وروسيا، على الرغم من عدم تأييدهما لحرب إسرائيل على غزة، سوف تكونان حذرتين بشأن إجراءات الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية نظرًا إلى أنهما متهمتان بارتكاب أعمال إبادة جماعية في السنوات الأخيرة.
هناك حاليًا قضية معلقة ضد روسيا في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية بسبب أفعالها أثناء غزوها واحتلالها أجزاء من أوكرانيا، فيما واجهت الصين ادعاءات، وإن لم تكن في محكمة العدل الدولية بعد، بأنها ارتكبت أعمال إبادة جماعية ضد ألأقلية المسلمة: الأويغور.
من الطبيعي أن ترفض المحكمة هذا الاتجاه الدفاعي الإسرائيلي، إذا تكرّس قانونيًّا أمامها، لأنّ القضاة فيها، مهما كان انتماؤهم، يمثلون القانون الدولي وليس دولهم ولا حتى عواطفهم.
ومهما كانت عليه مجريات المحاكمة التي تنطلق اليوم في لاهاي، فإنّ الواضح أنّ إسرائيل سوف تواجه، للمرة الأولى منذ تأسيسها، حقيقة ساطعة تتمثل في أنّ لا أفعالها ولا أقوالها فوق الحساب.
وثمة قانونيّون دوليّون يعتبرون أنّ أكبر نقاط ضعف إسرائيل لا تكمن في ما فعلته في غزة، بل في ما قاله مسؤولون فيها ضد سكان غزة، ولكنّهم في المقابل، يرون أنّ أكبر حجة لإسرائيل في الدفاع عن نفسها قد تكمن في ألسنة “محور المقاومة”…
المصدر: النهار العربي