نادر عز الدين
عادت إسرائيل لنهجها المفضّل، ألا وهو سياسة الاغتيالات، وهي صاحبة الباع الطويل في هذه الحرفة التي تعد جزءاً أساسيّاً من استراتيجيتها الأمنية التي سبقت تأسيسها حتى. ولربّما يكون اللورد موين الذي قُتل عام 1944 لمعارضته هجرة يهود بريطانيا إلى فلسطين أوّل ضحايا جرائم التصفية التي أطلقتها الحركة الصهيونية، حتى وصلت في يومنا هذا إلى نحو 2800 عمليّة اغتيال.
“الموت بألف طعنة”
ويمكن اعتبار القيادي البارز في “قوة الرضوان” التابعة لـ”حزب الله” وسام طويل المعروف بـ”الحاج جواد”، الذي اغتالته إسرائيل الاثنين الماضي في قريته خربة سلم البعيدة 11 كيلومتراً عن الحدود، أحد أهم الشخصيات العسكرية التي اعتبرتها الدولة العبرية “صيداً ثميناً”، ووصفت مصادر أمنية اغتيالها بـ”الضربة الموجعة” للتنظيم اللبناني.
وبحسب ما يتبيّن، فإنّ إسرائيل التي تقاتل حركة “حماس” وحلفاءها في قطاع غزّة وتتبادل القصف والاشتباكات مع “حزب الله” في جنوب لبنان منذ أكثر من ثلاثة أشهر، لجأت مجدداً إلى لعبة التصفيات الأمنية لأسباب عدّة:
1- عدم قدرتها خلال هذه الفترة على تحقيق إنجاز نوعي ميداني رغم الدمار الهائل وعدد الضحايا الضخم الناتج عن عملياتها العسكرية.
2- توجيه رسالة لـ”أعدائها” بأنّها قادرة على الوصول إلى قيادات كبيرة وقتلها، ما يكسر توازن الرعب القائم وربّما يشكّل رادعاً لهم.
3- تكلفة مادية أقل مقارنة بحرب واسعة لا تقوى تل أبيب على تحمّل أعبائها على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، فضلاً عن الجبهة الداخلية المتعبة.
4- الضغوط الأميركية الممارسة عليها لوقف القصف، الذي وصفه الرئيس الأميركي جو بايدن بـ”العشوائي”، على المدنيين في غزة، وحصر نشاطها العسكري بتصفية قادة “حماس”.
5-ممانعة الولايات المتحدة لفتح جبهة حرب واسعة مع لبنان منعاً لامتداد الصراع وتوسّعه أكثر مما هو عليه في الشرق الأوسط، ما قد يؤدي إلى نتائج قد لا تكون بالحسبان وتضرّ بمصالح واشنطن. وسعيها في الوقت ذاته إلى حلّ مشكلة الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل.
لهذه الاعتبارات، وغيرها ربّما، استعانت إسرائيل باستراتيجية “الموت بألف طعنة” التي أقرّتها في العام 2021 ضدّ إيران وشبكة حلفائها في المنطقة، وهي تقوم على اعتماد مجموعة من الإجراءات الصغيرة، عبر عدّة جبهات، أمنية وعسكريّة ودبلوماسيّة واقتصاديّة، بدلاً من توجيه ضربة واحدة دراماتيكية، وهي خطة تقارن بالاستراتيجية الأميركية في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي.
تغيير جوهري
ورأى المحلل العسكري في صحيفة “معاريف” طال ليف رام أن اغتيال قيادات من الحزب اللبناني، إلى جانب اغتيال الرجل الثاني في “حماس” صالح العاروري، يقود إلى استنتاج مفاده أنّ “إسرائيل، لأسباب ومصالح عديدة، لا تزال غير معنية بحرب بكامل القوّة. لكنها وبسبب استمرار الوضع غير المسبوق بإجلاء عشرات آلاف السكان عن مستوطنات الشمال، الذين تحولوا إلى لاجئين، فإنها مستعدة الآن لتحمل مخاطر أكثر”.
واعتبر أنّ ما يحدث يُعبّر عن “تغيير جوهري في سياسة ممارسة القوة الإسرائيلية في الجبهة الشمالية”.
إذاً، بدلاً من حرب واسعة، فعّلت إسرائيل خطّة القتل المتدرّج ضدّ إيران و”حزب الله” بالتزامن مع خفض وتيرة العمليات العسكرية في غزّة، التي سترتكز المرحلة الثالثة من الحرب عليها على السياسة نفسها: تصفية القيادات بلا تكبّد خسائر مادية وبشريّة واسعة.
وبدأت معالم ذلك بالظهور عبر استهداف شخصيات أساسيّة ومحوريّة في العمل الميداني، ففي تشرين الثاني (نوفمبر)، استهدف الطيران الإسرائيلي سيارة تقل القيادي في “كتائب القسام” خليل الخراز في بلدة الشعيتية جنوبي لبنان، وفي كانون الأول (ديسمبر) قتلت إسرائيل القيادي في الحرس الثوري الإيراني رضى موسوي في دمشق، ومطلع العام الجاري اغتالت العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت، ثم طويل في خربة سلم، إضافة إلى قادة ميدانيين آخرين في سوريا ولبنان وغزة.
ووصلت التهديدات الإسرائيلية ضد “حزب الله” ذروتها مع تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي في حينه إيلي كوهين، عقب اغتيال موسوي، بأنّه “على الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله أن يفهم أنّه التالي”.
خرق لخطوط “حزب الله” الخلفية
يشير تسلسل الأحداث مؤخراً بشكل واضح إلى تمكّن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من اختراق الخطوط الخلفية لـ”محور المقاومة”، وإن كان من الأيسر فعل ذلك في سوريا كونها ساحة حرب مفتوحة منذ العام 2011 حيث تعمل عشرات أجهزة الاستخبارات الأجنبية، إلّا أنّ هذا المستوى من الخرق في الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان كان مفاجئاً لاعتبارات عدّة، أبرزها الإجراءات المشدّدة التي يتخذها “حزب الله” داخل صفوفه وفي بيئته، والتي تصعّب الخروقات الأمنيّة. فضلاً عن تميّزه في التنظيم والعمل بسرّية تامة في شبكة من الدوائر غير المتصلة.
وما حديث نصرالله، في خطاب عقب اغتيال العاروري، عن “خرق كبير وخطير” في معقل الحزب “لا يمكن أن يمر بلا رد أو عقاب”، إلا إدراك منه لأهميّة وخطورة ما حدث من انكشاف أمني، ليأتي بعدها استهداف طويل ويقطع الشكّ في ذلك. فالاغتيالات المشابهة غالباً ما تعتمد على كمّ كبير من المعلومات والمعطيات المستقاة من عمليات الرصد والمراقبة عبر المسيّرات والأقمار الاصطناعية واختراق أنظمة الاتصالات والشبكة العنكبوتية.
اغتيال طويل بين 3 فرضيّات
إلّا أنّ الأخطر من الركون إلى الوسائل التقنية هو مشاركة العناصر البشريّة، فبحسب مصادر مقرّبة من “حزب الله” تحدثت لـ”النهار العربي”، قامت إسرائيل بتفعيل خلاياها الاستخبارية في لبنان، وقد لعبت دوراً أساسياً في تصفية العاروري وطويل.
ومنذ اغتيال القيادي البارز في “حزب الله”، ساد اعتقاد عام أنّ مسيّرة استهدفت سيارته بصاروخ بعد رصد لتحرّكاته، حتى سرّبت صحيفة “معاريف” العبرية معلومة مفادها أنّ اغتيال طويل تم بـ”عملية دقيقة من خلال وضع عبوة ناسفة قرب بيته”.
وفي هذا السياق، قالت المصادر المقرّبة من التنظيم إنّه “يجري تحقيقاً بشأن ملابسات العمليّة، ومن ضمن الاحتمالات الجدّية أنّ عبوة موجّهة زُرعت في سيارة طويل أدت إلى استشهاده”.
وأضافت أنّ أدلّة تم جمعها “تُرجّح هذه الفرضية”، متحدثة عن آثار في هيكل السيارة المتفحمة لا تتسبب بها صواريخ المسيّرات بل شظايا العبوات، فضلاً عن إصابة طويل “بشكل مباشر ومحدد، والاضطرار للتأكد من هويته بواسطة فحص DNA نظراً لاستحالة التعرف عليه”.
طريقة تُذكّر بعمليّة اغتيال القائد العسكري لـ”حزب الله” عماد مغنية عام 2008 في حي كفرسوسة الدمشقي عن طريق استبدال مسند رأس مقعد السائق في سيارته بمسند يحتوي على شحنة متفجرات قليلة لكنها شديدة الانفجار. كما تشبه أيضاً اغتيال غالب عوالي عام 2004 في حي معوض بالضاحية الجنوبية لبيروت بتفخيخ سيارته أيضاً.
وفي جميع الأحوال، فإنّ أيّ فرضية مما سبق مرتبطة مباشرة بجواسيس على الأرض لإسرائيل، فزرع عبوة ناسفة إلى جانب الطريق أو في سيارة المستهدف يحتاج حكماً إلى عمل ميداني دقيق. واستهدافه بمسيّرة يحتاج أيضاً إلى عيون قريبة منه كون الاستهداف جرى على بعد مئات الأمتار من منزله بعدما زاره للمرة الأولى منذ بدء القتال قبل 3 أشهر. وبعدما قضى الليلة هناك، ركب سيارة الهوندا التي انفجرت بعد مئات الأمتار، ما يعني أنّ “المنزل كان مرصوداً”، بحسب المصادر نفسها.
وحتى في حالة اغتيال العاروري، فإنّه من غير المحسوم أن يكون قد تمّ بواسطة مسيّرة وفق ما صرّح مسؤول أميركي، وإن كان كذلك، بحسب المصادر، فـ”هناك من أخبر عن وجود المكتب في هذا المبنى، ومن راقبه، ومن أبلغ عن وصول المسؤول الفلسطيني إلى المكان”. أما الأمر المريب كان تسريب الإعلام العبري غداة العملية أنّ “الشخص المستهدف كان سيلتقي نصرالله في اليوم التالي” ما يدلّ على عمق التغلغل والمعرفة لدى الاستخبارات الإسرائيليّة.
ويأتي إجراء “حزب الله” والأجهزة الأمنية اللبنانية عدداً من التوقيفات مؤخّراً بشبهة التعامل مع إسرائيل في السياق نفسه، وكانت قد صدرت مراراً تحذيرات خلال السنوات الأخيرة من محاولة إسرائيل تجنيد عملاء في الداخل اللبناني مستغلّة الأزمة الاقتصاديّة الحادّة في البلاد عبر الإغراء بالأموال، حتى وصل الأمر إلى الكشف عن لبناني ضمن شبكة للموساد في تركيا جُنّد بـ500 دولار فقط!
إنّها حرب على أصعد عدّة، منها ما هو المباشر كالصواريخ والقصف والاستهدافات المتبادلة، ومنها الأمني غير المرئي عادة للعيان، والذي تحوّل بقرار من بنيامين نتنياهو، كونه المسؤول المباشر عن جهاز “الموساد”، إلى حالة التفعيل والتنفيذ. وفي كلا الحالتين تشير المعطيات إلى أنّ “حزب الله” يضطرّ للعمل “عالمكشوف” بحد أدنى من الاحتياطات الأمنيّة ما يكبّده خسائر بشريّة كبيرة، يحاول تفاديها، دون أن يستخدم حتى الآن خطة قتاله الرئيسيّة التي أعدّها لسنوات تمهيداً لساعة الصفر.
المصدر: النهار العربي
Your point of view caught my eye and was very interesting. Thanks. I have a question for you.
Your point of view caught my eye and was very interesting. Thanks. I have a question for you.