طارق غريبي
كنا قد بينَّا سابقاً الفروق الجوهرية بين محكمة الجنايات الدولية التي تأسست وفقاً لنظام روما الأساسي لعام 1998و التي تختص بمحاكمة المجرمين (الأفراد وليس الدول) الذين تورطوا بارتكاب جرائم خطيرة مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية…
وسنركز الحديث هنا على نظام محكمة العدل الدولية والتي تعتبر الهيئة القضائية العليا التابعة للأمم المتحدة وتأسست وفقاً لميثاقها الصادر عام 1945 وبالتالي فإن:
-كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تتمتع تلقائيا بعضوية المحكمة و لا تستطيع أي دولة مدعىٰ عليها -قانونيا- الامتناع عن حضور جلسات محاكماتها.
– يبلغ عدد قضاتها 15 عضواً ينتمون إلى بلدان مختلفة و يتم انتخابهم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لمدة تسع سنوات.
– اللغتان الرئيسيتان المعتمدتان فيها هما: الإنكليزية و الفرنسية.
-للمحكمة اختصاص عام (تحاكم الدول فقط ولا تحاكم الأفراد) وفق القانون الدولي العام فهي تتولى النظر في كافة القضايا التي تتقدم بها الأطراف إليها إضافة لجميع المسائل المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة أو في المعاهدات و الاتفاقيات الدولية النافذة.
– من أهم تلك الاتفاقيات اتفاقية (منع الإبادة الجماعية لعام 1948) والتي بدأ نفاذها بتاريخ 1951/12/12 استنادا للمادة 13 منها و التي صدَّقت عليها 153 دولة.! ولتسليط الضوء على الجوانب القانونية والسياسية على الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة/فلسطين لا بد من تعريف جريمة الإبادة الجماعية والحالات الجرمية التي تشملها… وقد عرفت المادة الثانية من الاتفاقية المذكورة جريمة الإبادة الجماعية كالتالي:
* تعريف جريمة الإبادة الجماعية*
(و هي ارتكاب أعمال بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية).
وتشمل تلك الأعمال الحالات التالية :1- قتل أعضاء من الجماعة -2-إلحاق أذى بدني أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة. 3- إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يُراد بها تدميرها كليا أو جزئيا. -4- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. -5- نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
– و نحن نرى بأن يضاف إليها حالة (التهجير القسري للجماعة/أصحاب الأرض إذا كان يُقصد منه إحداث حالة تشرد و بؤس و شيك ستتعرض له الجماعة.!
-و السؤال الذي يُطرح هنا: لماذا لم تتقدم سلطة غزة مباشرة بالدعوى ضد إسرائيل أمام المحكمة الدولية.؟! والجواب هو أن الفلسطينيين/غزة لا يحملون صفة دولة معترف بها…! لذلك انبرت جنوب أفريقيا-مشكورة-للتقدم بالشكوى ضد إسرائيل بالنيابة عنهم/الغزاويين من أجل صحة الخصومة الدولية أمام المحكمة كما حصل في الدعوى التي رفعتها دولة غامبيا على ميانمار بخصوص جريمة الإبادة الجماعية بحق الروهينغا المسلمين حيث اعتمدت المحكمة بإجماع أعضائها -كسابقة قضائية دولية-وفي شهر كانون الثاني 2020 بإلزام ميانمار بتدابير مؤقتة بالتوقف عن جميع أعمال الإبادة الجماعية وضمان عدم ارتكاب قوات الأمن أعمال إبادة إضافة لإلزامها/ ميانمار باتخاذ خطوات جدية للحفاظ على الأدلة المتعلقة بالقضية.
**الأساس القانوني لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بالنيابة عن الفلسطينيين فيتمثَّل باجتهاد سابق لمحكمة العدل الدولية أجاز لكل عضو /دولة له مصلحة في منع جرائم الإبادة الجماعية التقدم أمام المحكمة بدعوى بشأنها و إن لم يكن طرفاً في النزاع الدائر. إضافة إلى السابقة القضائية المذكورة آنفاً بشأن الروهينغا الذين يتشابهون بالوضع القانوني مع الغزاويين (كلاهما لا يمتلكان صفة الدولة بالمعنى القانوني).
– يقضي النظام القانوني لمحكمة العدل الدولية بأن لكل دولة طرف في دعوى لا يوجد بين أعضاء المحكمة قاضٍ ينتمي إليها بأن لها الحق بترشيح قاض يحمل جنسيتها كما هو حال كلا الدولتين جنوب أفريقيا و إسرائيل …و قد رشحت إسرائيل (أهارون باراك) الرئيس السابق للمحكمة العليا الإسرائيلية أما جنوب أفريقيا فرشحت (ديكغانغ موسينيكسي) نائب رئيس المحكمة العليا السابق لديها … و بالتالي أصبح عدد القضاة في هذه القضية 17 بدلاً من 15 عضواً منهما إثنين يحملان صفة قاضٍ مؤقت تنتهي صفته بانتهاء هذه القضية.
– و قد اختارت جنوب أفريقيا (جون دوغاد) لرئاسة فريق الدفاع في المحكمة و هو أستاذ للقانون الدولي لديها و مقرر سابق لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة و عمل سابقا قاضيا في المحكمة ذاتها عدة مرات. أما رئيس فريق المحامين المكلف بالدفاع عن إسرائيل فهو المحامي البريطاني (مالكوم شو).
– أما رئيسة المحكمة الحالية فهي (جوان دونوغ) محامية و باحثة أمريكية انتخبت كرئيسة للمحكمة في عام 2021 .
– هل لمحكمة العدل الدولية اتخاذ تدابير/قرارات مؤقتة قبل البت النهائي بالدعوى.؟!
نعم فقد نصت المادة التاسعة من النظام الأساسي للمحكمة على:(للمحكمة أن تقرر التدابير المؤقتة التي يجب اتخاذها لحفظ حق كل من الأطراف وذلك متى رأت أن الظروف تقضي بذلك).
ونحن نرى أنه يجب أن يسبق ذلك إعلان المحكمة اختصاصها النظر في الدعوى ويكون بإحدى طريقتين: الأولى هي الإعلان الرسمي بقرار ابتدائي إعدادي يصدر عن المحكمة، أما الطريقة الثانية فهي الإعلان الفعلي وأهم صوره هي مباشرة إجراءات الدعوى والدخول بموضوعها وسماع المرافعات…وهذا ما حصل في الدعوى موضوع بحثنا.
– فغالبا ما يستغرق البت النهائي بالدعوى سنة أو أكثر مما يؤدي طول الانتظار لتفاقم الأزمة و ضياع الحقوق …فبالتالي يحق للمحكمة صلاحية اتخاذ تدابير مؤقتة و احتياطية بما يشبه القرارات المستعجلة و الإعدادية التي تتخذ في غرفة المذاكرة كتدبير احترازي و تتمتع بصيغة النفاذ العاجل لدى المحاكم في القوانين المحلية … كما أشرنا إلى التدابير الاحترازية التي قررتها المحكمة الدولية في قضية الروهينغا و أيضاً في الدعوى التي رفعتها أوكرانيا في شهر شباط 2022 على روسيا فأمرت المحكمة روسيا بوقف حملتها العسكرية بعد بضعة أسابيع من الطلب لكن روسيا لم ترضخ للأمر.
– و قد تقدمت جنوب أفريقيا للمحكمة بطلب اتخاذ تدابير سريعة عاجلة مؤقتة تقضي بإلزام إسرائيل بوقف جميع العمليات العسكرية في غزة – و الذي يبدو أن المحكمة ستنظر فيه أولاً- و السماح بعودة الخارجين قسراً إلى غزة و الإدخال الفوري للمساعدات الإنسانية…
– إثبات الركن المعنوي مهم جدا و إثباته صعب جدًا:
ولإثبات تهمة الإبادة الجماعية يجب أن تتوفر النية الجرمية لدى الدولة المدعى عليها وهذه النية -باختصار- لها قرائن وأدلة وقد استدلت جنوب أفريقيا على نية الإبادة لدى إسرائيل بتوثيق خطابات علنية لمسؤولين إسرائيليين دعوا فيها لمسح غزة نهائيا وقتل الفلسطينيين وأن الإبادة لا تعني القتل فحسب بل أيضا إن اضطهاد جماعة وتجويعها وحرمانها من الخدمات الإنسانية الأساسية يعتبر نوع من الإبادة.
-و يبدو لنا و من خلال وقائع و مؤشرات القضية أن المحكمة الدولية ستستجيب لطلب جنوب أفريقيا بفرض التدابير الاحترازية و خاصة وقف جميع العمليات العسكرية لا سيما أن هناك اهتمام و تحول عالمي كبير لجانب قضية غزة إضافة إلى أن الدولة المدعية لا تشترك في حدودها مع الدولة المدعى عليها و هذا ما سبب إحراجاً دولياً للكيان الصهيوني و ذلك بالرغم من مطاعن الكيان بأنه لم يسبق القضية أية منازعة حقيقية بين الطرفين و الذي اعتبرته إسرائيل أحد الأسس الرئيسية للتداعي أمام المحكمة و أن جنوب أفريقيا لجأت مباشرة للمحكمة .
– و هنا يغدو السؤال الهام أكثر إلحاحاً و هو: هل قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة للطرف المحكوم عليه و بالتالي هل هي قابلة للتنفيذ.؟
قبل الجواب لا بد من الإشارة بأن محكمة العدل الدولية في معرض ممارستها لصلاحياتها في تحقيق العدل تقوم قراراتها على مضمون الحكم على الأطراف (بالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل) من شأنه تحقيق الاستقرار والسلم الدوليين …!
و يأتي الجواب من الناحية القانونية- أن أحكامها ملزمة قضائيا للدول المحكوم عليها لكن ليس للمحكمة وسائل تنفيذية من شأنها إجبار الدول/الدولة المحكومة على الانصياع لقراراتها و تطبيقها على أرض الواقع كما حصل مع روسيا التي امتنعت عن تنفيذ أمر المحكمة بوقف اجتياحها أوكرانيا عام 2022 و أيضا عدم انصياع إسرائيل لأمر المحكمة بوقف بناء جدار الفصل العنصري مع الضفة الغربية في عام 2004 .
-و الحالات الوحيدة التي يتم فيها تنفيذ قرارات المحكمة الدولية: الأولى هي التنفيذ الطوعي من قبل الدولة المحكوم عليها التي تعبر عن احترامها لحكم المحكمة و التزامها بالقانون الدولي و تتجنب بالتالي سوء السمعة و المساءلة الدولية بأنها خارجة عن القانون… و نعتقد جازمين بأن هذه الحالة لا تنطبق على إسرائيل التي لها ميراث كبير في ضربها للقوانين و القرارات الدولية عرض الحائط منذ تأسيسها عام 1948 معتمدة على التأييد و الدعم الغربي و التبنِّي الأمريكي.
والحالة الثانية هي القبول الرسمي المسبق لأطراف الدعوى/الدول باختصاص المحكمة للنظر في الدعوى وفق المادة 36 من النظام الأساسي للمحكمة.
أما الحالة الثالثة فهي عندما تُحال القرارات الصادرة عن المحكمة إلى مجلس الأمن الدولي ويتم تبنيها من قبله وإصدار قرار ملزم التنفيذ من خلال استخدام القوة ضد الدولة الخارجة عن القانون.. وأيضا يبدو ذلك صعبا جدا بالنسبة لإسرائيل لما بيناه أعلاه وللحماية التي يقدمها للغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة باستخدام حق النقض /الفيتو. ونشير هنا إلى أن إدانة حكومة دولة بارتكاب جرائم إبادة جماعية قد يسهل ويساعد في إحالة الأفراد والمسؤولين في تلك الحكومة إلى محكمة الجنايات الدولية لمحاكمتهم جزائيا.
– و أخيرا هل يجوز قانوناً لدولة أخرى التدخل في الدعوى أمام المحكمة كطرف ثالث لمصلحة أحد طرفي النزاع و مثال الدعوى موضوع بحثنا.؟!
والجواب نعم يجوز لدولة أخرى التدخل و قد تدخلت ألمانيا لجانب إسرائيل في هذه الدعوى مبدية دعمها لها بأنها تدافع عن نفسها في نفس الوقت الذي التزمت فيه الدول العربية و حكامها بصمت القبور خوفاً من المشغِّل/المعلم الأمريكي الذي يتخوف بدوره من حالة صدور قرار بالإدانة لإسرائيل لأن ذلك يعني بالتبعية اتهامه و إدانته بارتكاب جرائم إبادة جماعية أيضا لأنه يقدم لإسرائيل المساعدات العسكرية و المالية و هو يعلم مسبقا بأن إسرائيل ستستخدمها في جرائم القتل و الإبادة كما أنه يؤمن لها الحماية و التمكين الدبلوماسي .
و في الختام لا بد من الإشارة إلى أنه لم يسبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت قراراً نهائيا و بشكل مباشر يثبت مسؤولية دولة ما عن الإبادة الجماعية…كما أننا نرى أن أغلب الحالات التي تلجأ بها الدول لمحكمة العدل الدولية هي لتسجيل موقف أو كسب سياسي نظراً لافتقاد المحكمة الوسائل التنفيذية على الأرض -كما نوهنا سابقا- لكن يبقى الاعتقاد بأن مجرد إدانة حكومة الدولة بارتكاب جرائم إبادة جماعية بموجب قرار من المحكمة التي تعتبر وجه العدالة الدولية و الممثل القانوني للمجتمع الدولي…فإن ذلك سيغير من الطرق التي تتعامل بها الدول الأخرى مع الدولة المدانة/إسرائيل المنتهكة للحقوق و الخارجة عن قواعد القانون الدولي.