معقل زهور عدي
يمكن اعتبار المؤتمر الذي عقد في باريس عام 1913 للجمعيات العربية واحدا من أهم منعطفات الفكر القومي العربي.
مؤتمر باريس:
بعد الأعمال التحضيرية انعقد مؤتمر باريس بمشاركة حزب اللامركزية ومقره مصر وبرئاسة عبد الحميد الزهراوي، والجمعية الاصلاحية ومقرها بيروت، والعربية الفتاة ومقرها باريس وممثلين عن العراق والجاليات العربية في كل من إستانبول وأمريكا الجنوبية والولايات المتحدة وفرنسا.
فيما يلي أهم المطالب التي أقرها المؤتمر وقد أبقيت المطالب كما جاءت بلغة المؤتمر :
أولا : أن الإصلاحات الحقيقية واجبة وضرورية للمملكة العثمانية فيجب أن تنفذ بوجه السرعة .
ثانيا : من المسلم به أن يكون تمتع العرب بحقوقهم السياسية مضمونا وذلك بأن يشتركوا في الإدارة المركزية للمملكة اشتراكا فعليا .
ثالثا : يجب أن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة لامركزية تنظر في حاجاتها ومتطلباتها للرقي .
رابعا : اللغة العربية يجب أن تكون معتبرة في مجلس النواب العثماني ويجب أن يقرر هذا المجلس كون اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية .
خامسا : تكون الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية إلا في الظروف والأحيان التي تدعو إلى الاستثناء الأقصى .
يمكن النظر إلى مؤتمر باريس باعتباره محطة رئيسية في تاريخ الحركات القومية العربية ، فبعد ذلك المؤتمر أصبح لدينا برنامج سياسي مشترك واضح المعالم ، وكما هو ظاهر من لغة القرارات فقد صيغت كمطالب إصلاحية مقدمة للدولة العثمانية وليس كبرنامج عمل ثوري إنقلابي ، فمؤتمر باريس مؤسس على الإعتراف بسيادة الدولة العثمانية ، لاعلى الخروج عن تلك السيادة والإنفصال عنها ، وبذلك فهو يفتح الباب أمام الحوار مع حكومة الإتحاديين للوصول للإصلاحات المطلوبة ، لكنه يقدم مطالبه بلغة جازمة تعطي الإنطباع بأن الحركات القومية العربية قد نفد صبرها وأن مطالبها لم تعد تحتمل التأجيل والتسويف
هنا يبدو الفكر القومي العربي وقد شب عن الطوق وتحول إلى فكر سياسي واضح المعالم وبالرغم من الطابع الاصلاحي لذلك الفكر فقد كان يمتلك الأسس الكفيلة بانتشاره وتحوله للخروج من دائرة المثقفين الضيقة إلى دائرة القدرة على الحشد والتعبئة لفئات أوسع خاصة من الشباب الذين لم يعودوا معزولين عما يجري في ذلك العصر .
لكن تيارا سياسيا قوميا عربيا مختلفا كان يتبلور في ذات الوقت ، لم يقيض له الإنتشار ولا الفعالية ولايمنع ذلك من إعطائه الأهمية التي يستحقها يمثله حزب الإصلاح التي تأسس في دمشق في الفترة ذاتها والذي كان ضد مؤتمر باريس ، ويعتبر انعقاده في فرنسا مؤشرا لتدخل الغرب في تفكيرالمؤتمرين وتوجهاتهم وقراراتهم . بينما كان ذلك التيار أقرب للدولة العثمانية وأحرص على أن يكون الإصلاح بعيدا عن الأجندات الغربية، وأبرز ممثلي هذا التيار هم : المفكر والسياسي الكبيرشكيب أرسلان ، والدكتور حسن الأسير والشيخ أسعد الشقيري والشريف علي حيدر وأخوه جعفر والشيخ عبد العزيز الشاويش من أقطاب الحزب الوطني المصري الذي كان يناوىء سلطة الانكليز في مصر والسيد عبد العزيز الثعالبي من الوطنيين التونسيين والشيخ سليمان الباروني من وجهاء الوطنيين الليبيين.
وخير ممثل لذلك التيار هو الأمير شكيب أرسلان الذي كان يرى أن الأتراك أنفسهم هم سبب انحدار الدولة العثمانية بسبب سوء إدارتهم وتناحرهم والفساد الذي انتشر في إدارة الدولة والولاء للأجنبي ومن تلك الأمراض تسلل الأجنبي واستطاع أن يمتلك مراكز اقتصادية ومالية وثقافية ، لكن الأمير شكيب رغم ذلك كان يفضل بقاء الدولة العثمانية لأن البديل عن الحكم العثماني ليس الحكم العربي ولكن الحكم البريطاني والفرنسي فاختيار العثمانيين هو اختيار لأخف الضررين ( كتاب شكيب أرسلان : تاريخ الدولة العثمانية – المقدمة )
أما عن مؤتمر باريس فيقول شكيب أرسلان في رسالته المعنونة ” إلى العرب ” وفي الفقرة الخاصة بمؤتمر باريس :
” أما اللامركزيون فكان قصارى سعيهم أن جعلوا القلق يسود على الأفكار ، وزرعوا بذور النفور بين العرب والترك ، وفتحوا مجالا للصحف الأجنبية للخوض في مسألة سورية ، وإذا دققت في جميع حركاتهم وسكناتهم تجدها رامية إلى غرض واحد ،وهو إيجاد مسألة أوربية في سورية ، أو مسألة سورية في أوربة “
لم تساعد ممارسات الإتحاديين الأتراك تيار شكيب أرسلان على التحول لقوة سياسية شعبية , فالمطالب التي طالب بها مؤتمر باريس لم تؤخذ على محمل الجد من قبل الشباب الإتحاديين الحاكمين في استانبول , واصطدمت بالروح القومية التركية التي رافقت النزعة الحداثية في فكر الإتحاديين مثلما اصطدمت بواقع حالة الحرب التي كانت تخوضها الدولة العثمانية في البلقان خلال الفترة التاريخية ذاتها ( من 8 اوكتوبر 1912 – 9 أغسطس 1913 ) أي أنه عندما كان مؤتمر باريس للجمعيات العربية منعقدا بين 18- 23 يونيو عام 1913 كانت الجيوش العثمانية قد تعرضت لواحدة من أكبر الهزائم في المعارك التي خاضتها في تاريخها الطويل . وربما لعبت تلك الخسارة دورا في توجه الاتحاديين نحو التشدد مع العرب مخافة أن يتكرر معهم سيناريو البلقان في المشرق العربي .
فوق ذلك كله لم تلبث بوادر الحرب العالمية الأولى أن ظهرت في الأفق , وحين تأهبت الدولة العثمانية لدخول الحرب إلى جانب ألمانيا أصبح همها تأمين المشرق العربي بالمعنى العسكري – الاستراتيجي ضد الوجود البريطاني القوي في مصر والذي كان يهدد بالتمدد شمالا نحو فلسطين وسورية وعبرهما نحو جنوب الأناضول أيضا .
وفي تلك الأجواء الحربية لم تتمكن القيادة الشابة للإتحاديين من امتلاك نهج سياسي براغماتي قادر على كسب العرب بل ارتكبت أفدح الأخطاء بدفع جمال باشا ليكون حاكما عسكريا وواليا على بلاد الشام بما هو معروف عنه من ضيق التفكير السياسي واعتماد الحلول الأمنية في بيئة كانت تختمر فيها مسبقا عوامل التذمر من الإستبداد والفساد العثمانيين , وتتطلع إلى عهد جديد للإصلاح أقلها وفق مطالب مؤتمر باريس .