هشام عليوان
على الرغم من الدروس الأميركية الغنيّة في أفغانستان والعراق في مكافحة حركات المقاومة الشعبية، بل في فيتنام، لا سيما في مواجهة حرب الأنفاق، ومع أنّ الجنرالات الأميركيين أسدوا النصح لرئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو بعد عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023)، بعدم تكرار أخطاء واشنطن بعد 11 أيلول 2001، بمعنى عدم الدخول في اجتياحات برّية، وما يتبعها من احتلال عسكري لمناطق ذات كثافة سكّانية، ومحاولات هندسة المجتمع بالترغيب والترهيب، والتورّط في حرب عصابات لا تنتهي مع مقاومة متمرّسة، تحظى بتضامن شعبي واسع… إلّا أنّ حكومة المستوطنين في فلسطين المحتلّة أصرّت على تجاهل النصائح العسكرية المفيدة، ودخلت المستنقع الغزّيّ راغبةً طائعة، ومع استعداد كامل لتحمّل كلّ العواقب السياسية والعسكرية والقانونية، ما دام الهدف الأوّل والأخير هو نقل سكّان غزّة إلى المنفى الإلزامي.
التجربة الأميركيّة الأكثر تطوّراً وخبرةً
الجيش الأميركي هو الأكثر تطوّراً والأكبر خبرة، كما الأقدر على التعلّم من دروس القتال، سواء من تجاربه أو من تجارب الآخرين، حتى لو كانوا أعداءه:
– أوّلاً لأنّ أحدث التكنولوجيات المخترعة تُصنع في الولايات المتحدة وتُوظّف فوراً في المجال العسكري.
– وثانياً لأنّه الجيش الوحيد الذي خاض أكبر عدد من الحروب في أنحاء المعمورة، وفي بيئات جغرافية وبشريّة مختلفة ومتنوّعة بشدّة.
– وثالثاً لأنّه يحظى بإسناد مهمّ من عدد كبير من مراكز الدراسات العسكرية والاستراتيجية العامّة والمتخصّصة، ومن بين الكتّاب فيها قدامى المحاربين الذين يزوّدون تلك المراكز بخبراتهم ومعارفهم المتراكمة.
ورابعاً: يبدو أنّ لدى الأميركيين ميزة أخرى، وهي سرعة التعلّم أثناء الحروب. إذ كشف مقال في “نيويورك تايمز” أخيراً أنّ مخطّطين عسكريين في البنتاغون بدأوا باستنساخ تكتيكات الحوثيين، وذلك قبل أكثر من سنة، وطبعاً قبل الحرب غير النظامية التي يخوضها الحوثيون حالياً ضدّ السفن التجارية العابرة للبحر الأحمر نحو إسرائيل، لا سيما استعمال رادارات السفن التجارية في المجهود الحربي. فمنذ أيلول 2022، بدأت قوات المارينز تستعمل الرادارات المتحرّكة في بحر البلطيق. لقد طوّر الحوثيون بحسب ما ينقله المقال عن خبراء عسكريين، راداراً متنقّلاً، وهو في الأساس رادار Simrad Halo24 ويمكنك الحصول على واحد مثله مقابل حوالى 3 آلاف دولار في متجر المعدّات البحرية وما يتعلّق بالصيد Bass Pro Shops. ويمكن وضعه على أيّ قارب صيد. ويستغرق تركيبه وإعداده خمس دقائق فقط. ويبحث مشاة البحرية الأميركية، في تقليد الحوثيين، في كيفية استخدام الرادارات لإرسال البيانات حول ما يجري في البحر. ولاحظ اللفتنانت جنرال فرانك دونوفان، الذي يشغل الآن منصب نائب قائد قيادة العمليات الخاصة الأميركية، ما كان يفعله الحوثيون بالرادار عندما كان يقود فرقة عمل برمائية تابعة للأسطول الخامس تعمل في جنوب البحر الأحمر. في محاولة لمعرفة كيف كان الحوثيون يستهدفون السفن، سرعان ما أدرك الجنرال دونوفان Frank Donovan أنّ الحوثيين كانوا يركّبون رادارات جاهزة على السيارات المتجوّلة على الشاطئ للرصد والاستكشاف.
إخفاق استراتيجيّ: وقف الحروب؟
لا يعني ذلك أنّ الولايات المتحدة ناجحة تماماً في استيعاب الدروس، ولا في نقل التجارب والنتائج المستخلصة إلى أقرب حلفائها في المنطقة، وهي إسرائيل. فما جرى منذ 11 أيلول 2001، من تفجيرات غير مسبوقة بطائرات تجارية ضدّ برجَي مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون في واشنطن، وما تبع ذلك من اجتياح غير مبرّر لأفغانستان عام 2001، وللعراق 2003، وتورّط الجيش الأميركي في حرب طويلة ومؤلمة ومكلفة وفاشلة بمواجهة قوات غير نظامية، مصمِّمة على القتال، ومتكيّفة مع ظروف المعركة، ومدعومة بقوة من حاضنة شعبية عريضة، كان كفيلاً باستنكاف أميركا عن خوض حروب في المنطقة، بل بدأت تميل إلى خفض الإنفاق العسكري، والتخلّي عن برامج منهكة، مع طرح الانسحاب من المنطقة ككلّ، والانشغال بمشكلة الخطر القادم من أقصى الشرق، وهو الصين.
كان الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، عام 2021، من العلامات الأبرز في هذا القرن على محدودية القوة الأميركية، بل على تغيّر مفهوم الحرب نفسه، في زمن الثورة الإلكترونية. وإذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد قرأ نصف الدرس الأفغاني بالمقلوب، فهو لاحظ عجز واشنطن في الحروب غير النظامية، ولم يلتفت إلى القدرة المتنامية لقوات أصغر ولتكتيكات أقلّ كلفة وأكثر تأثيراً، وظنّ أنّ بمقدوره احتلال أوكرانيا بسهولة مفرطة… فإنّ التجربة الأوكرانية منذ شباط 2022، قد افتتحت عصراً جديداً من الحروب المستقبلية، حيث تتلاشى الجيوش الثقيلة الجرّارة، أمام الطائرات الخفيفة من دون طيار، أو drones. فوجئ الروس كما فوجئ الأميركيون وحلفاؤهم في الحلف الأطلسي. وحتى عندما لجأت كييف إلى التزوّد بدبّابات ثقيلة أميركية وألمانية قديمة الطراز، فشلت هي الأخرى، أمام خطّة روسيّة دفاعية هجينة جمعت بين تكتيكات الحرب العالمية الأولى (الخنادق والعوائق)، وأساليب الحرب الجديدة ما بعد الحداثة (الطائرات بلا طيار)، وانطلقت روسيا تحثّ السير للّحاق بأوكرانيا في مجال تصنيع الدرونات على أنواعها، بل الاستعانة بالدرونات التجارية الرخيصة وتحويلها إلى أسلحة فتّاكة.
كلّ تلك الدروس قديمها وحديثها، لم تنفع الجيش الإسرائيلي بشيء، فزجّ بآليّاته المدرّعة الضخمة في أزقّة غزة، وناله ما لم يتوقّعه من أساليب قتالية تجاوزت كلاسيكيات حرب العصابات، فجمعت بين العمل الفدائي الجريء وتكتيكات حرب المدن، ومن ضمنها الأنفاق الدفاعية والهجومية، وزادت عليها أحدث وسائل حرب المعلومات، والحرب النفسية، فانهارت السرديّة الإسرائيلية في أنحاء كثيرة من العالم، ولدى شرائح الشباب في الغرب خاصة، وانبثقت الأسطورة الفلسطينية بشكل غير متوقّع، حتى لمحمد الضيف ويحيى السنوار ورفاقه.
دروس أوكرانيا وغزّة
يقارن ماكس بوت Max Boot بين دروس حربَي أوكرانيا وغزة، وهو أحد أهمّ المحلّلين العسكريين الأميركيين، وذلك في رأي له نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، يدعو فيه الجيش الأميركي إلى إدراك الدروس على نحوٍ عاجل. في رأيه يبدو هذا الخلل واضحاً من ناحية أيديولوجيّة لا عسكرية، لأنّه منحاز إلى السردية الإسرائيلية. وبينما يجد جوامع مشتركة بين حالتَي أوكرانيا وغزة على الرغم من أنّ الحرب الأولى، بين جيشين نظاميَّين، والثانية بين جيش نظامي وحركة مسلّحة، إلا أنّه يجعل روسيا بوتين وغزة السنوار على سويّة واحدة، ويتغافل عن معادلة أكثر إنصافاً، باعتبار المعتدي والمعتدى عليه في خانة واحدة، أي من هو محتلّ لأرض الغير ومن يدافع عن أرضه.
أمّا المقارنة العسكرية عندئذ فتحفل بالمفارقات:
– أوكرانيا تقانل عدوّاً أكبر منها جغرافياً وسكّانياً بأضعاف عدّة، وأقوى منها بما لا يقاس في المستويات التسليحيّة واللوجستية والتصنيعية والاقتصادية.
– فيما تواجه المقاومة الفلسطينية عملاقاً عسكرياً واقتصادياً، مدعوماً من أعتى قوى الغرب من دون شروط ولا حدود، ومع ذلك تصمد تلك المقاومة وتتفوّق في التكتيكات، وهي محاصرة برّاً وجوّاً وبحراً.
ما هي الدروس التي يقدّمها؟
يشكو المحلّل العسكري الأميركي من أنّ حماس لا تؤوي أكثر من مليونَي مدني في أنفاقها، مؤكّداً أنّ القادة الإسرائيليين على خطأ إذا تصوّروا أنّ إلحاق الألم والمعاناة بالمدنيين الفلسطينيين من شأنه أن يدفع حماس إلى وقف القتال. ولا يحاول إدانة قتل المدنيين الفلسطينيين بحدّ ذاته، بل هو يعتبره خطأً عسكرياً وحسب. لكنّه مع ذلك يستقي دروساً مفيدة من حرب غزة، أو القتال في مكان حضريّ مكتظّ بالسكّان، من الجنرالات الأميركيين الذين يتابعون عن كثب مجريات الحرب في أوكرانيا وغزة، لبناء تصوّرات الحروب المستقبلية. ومن أهمّ هذه الدروس:
– التفوّق العسكري وتقنيّات القصف الدقيق من مسافات بعيدة لا يغنيان عن تأهيل الوحدات الصغيرة في القتال المباشر، لا سيما في الأماكن الحضرية.
– بالنظر إلى حرب المدن في أوكرانيا وحرب إسرائيل على مدينتَي غزة وخان يونس، ووجود شبكة الأنفاق في كامل القطاع، ونظراً إلى أنّ حوالى 68% من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول عام 2050، فمن المهمّ للغاية إتقان ما يسمّيه الجيش الأميركي MOUT، أي العمليات العسكرية في التضاريس الحضرية، إضافة إلى ما اختبره الجيش الأميركي في مدينة الفلّوجة بالعراق.
– الالتفات إلى حرب المعلومات التي ظهرت في أوكرانيا، وتعزّزت أهميّتها في غزة. وهي تعني من وجهة نظر الجنرالات الأميركيين، السيطرة على تداول الأخبار، وإنتاج محتوى مرئي مقنع (مثلاً فيديو على منصة TikTok) وتقديم متحدّثين أكفّاء، ولهم مصداقية لدى الرأي العامّ.
يخلص بوت إلى نتيجة مهمّة، وهي أنّ سردية أوكرانيا أفضل من سردية إسرائيل. وربّما هذا ما انتبهت إليه إدارة بايدن، فروّجت بسرعة لـ “حلّ الدولتين”. إنّ السردية الإسرائيلية لا يمكن أن تتفوّق بنظر واشنطن إلا إذا أنارت الضوء في نهاية النفق، بمعنى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية ما. لكنّ إسرائيل إذا انتقلت من سردية الضحيّة إلى سردية الحلّ السياسي، فستجد نفسها في منزلة المنهزم لا المنتصر، وكأنّها حقّقت الهدف غير المعلن لـ”طوفان الأقصى”.
المصدر: أساس ميديا