ويليام بيرنز
وحُفرت على الجدار التذكاري في مقر وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) في لانغلي، فيرجينيا، نجوم بسيطة تكرّم 140 ضابطاً في الوكالة ضحوا بحياتهم في خدمة بلدهم. ويُعدّ النصب التذكاري تذكيراً دائماً بالأعمال الشجاعة التي لا تعد ولا تحصى. وعلى رغم ذلك، فإن الرأي العام الأميركي أكثر دراية بالأخطاء العرضية التي شوهت تاريخ وكالة الاستخبارات المركزية، لكنه يجهل أعمالها البطولية، ونجاحاتها الكثيرة الهادئة والصامتة في كثير من الأحيان. وغالباً ما كان الاختبار الحاسم للاستخبارات هو الاستباق، ومساعدة صناع القرار على التنبه إلى الانعطافات الحادة في المشهد الدولي، أي الأوقات المفصلية التي تحصل مرات قليلة في كل قرن.
والرئيس جو بايدن كرر مراراً أن الولايات المتحدة تواجه اليوم واحدة من الأوقات النادرة، التي لا تقل خطورة عن بدايات الحرب الباردة، أو الوقت الذي سبق 11 سبتمبر (أيلول). والحق أن صعود الصين، والنزعة الانتقامية الروسية، عاملا تحديات جيوسياسية مضنية في عالم يتسم بالمنافسة الاستراتيجية الشديدة. ولم تعد الولايات المتحدة تتمتع فيه بهيمنة واضحة، بينما تتعاظم التهديدات المناخية الوجودية. وما يزيد الأمور تعقيداً حصول ثورة في التكنولوجيا أوسع من الثورة الصناعية، أو بداية العصر النووي وأشد حدة. فمن الرقائق الدقيقة والذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمومية، تعمل التقنيات الناشئة في تغيير العالم، بما في ذلك مهنة الاستخبارات. ومن نواحٍ كثيرة، تجعل هذه التطورات مهمةَ وكالة الاستخبارات المركزية أصعب من أي وقت مضى. ويمنح هذا الخصومَ أدوات جديدة تربكنا، وتضلنا، وتعظم تجسسها علينا.
ومهما تغيّرت أحوال العالم، يظل التجسس عبارة عن تفاعل بين البشر والتكنولوجيا. وستبقى ثمة معلومات سرية لا يقدر على نبشها إلا الإنسان، وتبقى عمليات خفية لا يستطيع تنفيذها إلا البشر. وخلافاً لما توقعه بعضهم، لم يجعل التقدم التكنولوجي، وعلى الخصوص في مجال استخبارات الإشارات، مثل هذه العمليات البشرية غير ذات أهمية، بل أحدث ثورة في طريقة تنفيذها. ولكي تكون وكالة الاستخبارات المركزية جهازاً استخباراتياً فعالاً، في القرن الحادي والعشرين، عليها أن تمزج إتقان استعمال التكنولوجيات الناشئة، مع مهارات التعامل مع الناس، والجسارة الفردية التي كانت على الدوام في صميم مهنتنا. وهذا يعني تزويد مسؤولي العمليات بالأدوات، والمهارات اللازمة للتجسس في عالم من المراقبة التكنولوجية المستمرة، وتزويد المحللين بنماذج ذكاء اصطناعي متطورة تستوعب كماً هائلاً من البيانات المتاحة، والمعلومات المكتسبة سراً ليتمكنوا من اتخاذ أفضل القرارات البشرية.
وفي الوقت نفسه، ثمة تحول، كذلك، في طريقة تعامل وكالة الاستخبارات المركزية مع المعلومات الاستخبارية التي تجمعها. وقد غدا “رفع السرية الاستراتيجي”، أي الكشف المتعمد عن بعض الأسرار من أجل إضعاف الخصوم وحشد الحلفاء، أداة أكثر قوة وفعالية في أيدي صناع السياسات. واستخدامه لا يعني تعريض مصادر، أو أساليب جمع المعلومات الاستخبارية، للخطر بشكل متهور، بل المقاومة الحكيمة للنزعة غير الإرادية إلى إبقاء كل الأمور سرية. ويتعلم مجتمع الاستخبارات الأميركي أيضاً القيمة المتعاظمة للدبلوماسية الاستخباراتية، ويكتسب فهماً جديداً لدور جهوده الرامية إلى دعم الحلفاء، ومواجهة الأعداء في دعم صنّاع القرار.
وتواجه وكالة الاستخبارات المركزية، ومهنة الاستخبارات عموماً، اليوم، تحديات تاريخية. فالتحولات الجيوسياسية والتكنولوجية واحدة من أصعب وأهم الاختبارات في تاريخنا. والنجاح رهن المزج مزجاً مبدعاً بين الذكاء البشري التقليدي وبين التكنولوجيات الناشئة. وفي عبارة أخرى، يقتضي الأمر التكيف مع عالم التنبؤ الوحيد المؤكد فيه ما يتعلق بالتغيير، وبحصوله بوتيرة أسرع.
بوتين المطلق اليد
وما لا شك فيه هو أن حقبة ما بعد الحرب الباردة طُويت تماماً ساعة غزت روسيا أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. وأنا أمضيت شطراً كبيراً من العقدين الماضيين في محاولة فهم المركب القابل للانفجار، والمؤلف من عناصر الظلم والطموح وانعدام الأمن التي يجسّدها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وتُعلمنا أمراً واحداً هو أنه كان من الخطأ الاستهانة، على الدوام، بإلحاح هاجس السيطرة على أوكرانيا وخياراتها، على بوتين. فمن غير هذه السيطرة، يعتقد بوتين أنه من المستحيل على روسيا أن تصير قوة عظمى، أو أن يكون هو زعيماً روسياً عظيماً. وهذا الهوس المأساوي والوحشي سبق أن جلب العار على روسيا وكشف نقاط ضعفها، من اقتصادها الأحادي والإفراط في تقدير براعتها العسكرية إلى نظامها السياسي الفاسد. كذلك، أثار غزو بوتين مستوى مذهلاً من الإصرار والعزيمة لدى الشعب الأوكراني. وقد رأيت شجاعتهم بشكل مباشر في زيارات متكررة إلى أوكرانيا في أثناء الحرب، تخللتها غارات جوية روسية، وصور زاهية لثبات الأوكرانيين وإبداعهم في ساحة المعركة.
وعلى وجوه كثيرة، أثبتت حرب بوتين أنها كانت في مثابة فشل لروسيا. وقد تبين أن هدفه الأساسي، وهو الاستيلاء على كييف وإخضاع أوكرانيا، كان هدفاً غبياً وخيالياً. وقد تعرض جيشه لأضرار جسيمة، فقُتل أو جُرح ما لا يقل عن 315 ألف جندي روسي، ودُمّر حوالى ثلثي ترسانة الدبابات الروسية قبل الحرب، وشهد برنامج التحديث العسكري الذي تباهى به بوتين، والذي دام عقوداً من الزمن، إخفاقات كبيرة. وكل هذا كان ثمرة مباشرة لشجاعة الجنود الأوكرانيين ومهارتهم، ومن ورائهم المساعدات الغربية. ويعاني الاقتصاد الروسي انتكاسات على المدى البعيد، والبلاد على طريق التحول إلى دولة تابعة اقتصادياً للصين. وأدت طموحات بوتين المفرطة إلى نتائج عكسية، ومن طريق أخرى، فأسهمت في توسيع حلف شمال الأطلسي وتعزيز قوته.
وعلى رغم أنه من غير المرجح أن تضعف قبضة بوتين القمعية، في وقت قريب، تؤدي حربه في أوكرانيا، من طرف غير مرئي، إلى اضمحلال سلطته في الداخل. وكان التمرد القصير الأجل الذي بدأه زعيم المرتزقة، يفغيني بريغوجين، في يونيو (حزيران) الماضي، إيذاناً بالضعف الكامن وراء صورة بوتين المرسومة بعناية كقائد قوي وحازم. وقياساً على زعيم صنع بشق الأنفس سمعته آمراً وناهياً في نظام بلاده، أظهر بوتين تردداً ولامبالاة عندما كان متمردو بريغوجين، غير المنظمين، يشقون طريقهم إلى موسكو. وسؤال معظم النخبة الروسية، لم يكن هل الإمبراطور عارٍ، بل لماذا يستغرق ارتداؤه ملابسه هذا الوقت كله، وفي نهاية المطاف، تمكّن بوتين، وهو فريسة الرغبة في الانتقام، من تصفية حساباته مع بريغوجين، الذي قُتل في حادث تحطم طائرة مشبوه بعد شهرين من اليوم الذي بدأ فيه تمرده. ولكن انتقادات بريغوجين اللاذعة، وهي سلطت الضوء على الأكاذيب والأخطاء العسكرية المتأصلة في حرب بوتين، وعلى الفساد المتجذر في قلب النظام السياسي الروسي، لن تتبدد في العاجل القريب.
ومن المرجح أن يكون هذا العام عاماً صعباً في ساحة المعركة بأوكرانيا. وهو اختبار لقدرتها على الصمود. وآثار هذا الصمود تتعدى الكفاح البطولي الذي تخوضه البلاد في سبيل الحفاظ على حريتها واستقلالها. وبينما يسعى بوتين في تجديد الصناعة الحربية الروسية، وذلك بواسطة مكونات بالغة الأهمية من الصين، فضلاً عن الأسلحة والذخائر من إيران وكوريا الشمالية، يواصل الرهان على أن الوقت يعمل لمصلحته، ويحسب أنه قادر على سحق أوكرانيا، وإرهاق أنصارها الغربيين. ويتلخص التحدي الذي تواجهه أوكرانيا في تحطيم غطرسة بوتين، وإظهار التكلفة الباهظة التي تتحملها روسيا نتيجةَ الصراع المستمر، ليس من خلال إحراز تقدم على الجبهة الأمامية فحسب، بل كذلك من طريق شن ضربات في العمق، خلف تلك الخطوط، وتحقيق مكاسب ثابتة في البحر الأسود. وإذ ذاك، قد يجدد بوتين، مرة أخرى، قرع طبول الحرب النووية، ومن الحماقة استبعاد أخطار التصعيد بالكامل، ولا يقل حماقة أن تسمح هذه التهديدات بإخافتنا من غير داعٍ.
ويكمن مفتاح النصر في الحفاظ على دوام المساعدات الغربية لأوكرانيا. والمساعدات التي تقدّمها واشنطن، وتقل نسبتها عن خمسة في المئة من موازنة الدفاع الأميركية، تعدّ استثماراً متواضعاً نسبياً، ويعود بعوائد جيوسياسية كبيرة على الولايات المتحدة، وأخرى وازنة على الصناعة الأميركية. والحق أن الحفاظ على تدفق الأسلحة من شأنه أن يجعل أوكرانيا في موقف أقوى إذا سنحت فرصة لإجراء مفاوضات جادة. ويضمن ذلك فوزاً طويل الأمد لأوكرانيا، وخسارةً استراتيجية لروسيا. وهكذا، تتمكّن أوكرانيا من حماية سيادتها، وإعادة إعمار البلاد، في حين سيتعين على روسيا التعامل مع الأكلاف الطويلة الأجل المترتبة على حماقة بوتين. وفي المقابل، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الصراع، في اللحظة الحاسمة هذه، وقطع الدعم عن أوكرانيا، سيكون خطأ فادحاً تترتب عليه نتائج عكسية، وأبعاد تاريخية.
لعبة نفوذ شي جينبينغ
ولا أحد يراقب الدعم الأميركي لأوكرانيا على قدر مراقبة القادة الصينيين. والحق أن الصين تبقى المنافس الوحيد للولايات المتحدة الذي ينوي صوغ النظام الدولي من جديد، ويملك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لفعل ذلك. وكان التحول الاقتصادي الذي شهدته البلاد على مدى العقود الخمسة الماضية فريداً. ويستحق الشعب الصيني عليه ثناءً كبيراً. وهو إنجاز ساندته دول العالم الأخرى، على نطاق واسع، اعتقاداً منها بأن ازدهار الصين منفعةً عالمية. والقضية لا تتعلق بصعود الصين في حد ذاته، بل بالتهديدات المتعاظمة التي تصاحبه. وبدأ الزعيم الصيني، شي جينبينغ، مدة ولايته الرئاسية الثالثة متمتعاً بسلطة أعظم من سلطة أي من أسلافه، منذ عهد ماو تسي تونغ. وبدلاً من استخدام هذه القوة في تعزيز النظام الدولي وتنشيطه، وهو مكّن تحول الصين، يسعى شي إلى صوغه من جديد. وفي مهنة الاستخبارات، ندرس أقوال القادة بعناية، لكننا نولي اهتماماً أكبر، بأفعالهم. ومن المستحيل أن نتجاهل القمع المتزايد الذي يمارسه شي في الداخل، وعدوانيته في الخارج، بدءاً من شراكته “غير المحدودة” مع بوتين وانتهاءً بتهديده السلام والاستقرار في مضيق تايوان.
وفي الوقت نفسه، يؤثر التضامن الغربي في حسابات شي جينبينغ في شأن أخطار استخدام القوة ضد تايوان. وهذه انتخبت رئيساً جديداً، لاي تشينغ تي، في يناير (كانون الثاني). وفاجأ شي، وهو الرجل الذي يميل إلى رؤية الولايات المتحدة على صورة قوة آفلة، توليها قيادة الدفة في قضية أوكرانيا. ويناقض استعداد الولايات المتحدة لتحمل التكلفة الاقتصادية الناجمة عن مواجهة عدوان بوتين، وقدرتُها على حشد حلفائها معها، اعتقاد بكين بأن أميركا على طريق الانحطاط. وبالقرب من الشواطئ الصينية، كان للصمود الذي أبدته شبكة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تأثير في حمل بكين على تفكير أكثر جدية وعقلانية. لذا، فالتخلي عن دعم أوكرانيا هو أحد أفضل الطرق لإحياء التصورات الصينية عن الضعف الأميركي، وتأجيج العدوانية الصينية. والدعم المادي المستمر لأوكرانيا لا يأتي على حساب تايوان، بل يبعث برسالة مهمة مفادها أن الولايات المتحدة عازمة على مساعدة تايوان.
وتقوم المنافسة مع الصين على خلفية الترابط الاقتصادي الكبير، والعلاقات التجارية بينها وبين الولايات المتحدة. وعلى رغم أن مثل هذه الروابط خدمت البلدين، وسائر العالم، بشكل ملحوظ، إلا أنها تنشئ، في الوقت نفسه، نقاط ضعف بالغة الأهمية، وأخطاراً جسيمة، تهدد الأمن والازدهار الأميركيين. وأوضحت جائحة كورونا للجميع خطر الاعتماد على دولة واحدة لأجل الحصول على الإمدادات الطبية الناجعة. وعلى النحو نفسه، في أثناء حرب روسيا على أوكرانيا، أدركت أوروبا الأخطار المترتبة على الاعتماد على دولة واحدة من اجل الحصول على الطاقة. وفي العالم المعاصر، لا تريد أي دولة أن تجد نفسها تحت رحمة مورّد واحد للمعادن والتكنولوجيات الحيوية، على الأخص إذا كان هذا المورّد عازماً على استغلال حاجتها، واعتمادها عليه، كسلاح في يده. ويؤكد صنّاع السياسات الأميركيون أن الرد الأمثل هو “إزالة الأخطار”، والتنويع [في مصادر التوريد]، وزيادة أمن سلاسل توريد الولايات المتحدة، وحماية تفوقها التكنولوجي، والاستثمار في قدرتها الصناعية.
وفي هذا العالم المتقلب والمنقسم، يتعاظم ثقل “الوسط التحوطي”، ودور الدول أو الكيانات التي تتبنى نهجاً حذراً ومتوازناً في العلاقات الدولية، وتتجنب الاعتماد المفرط على قوة كبرى واحدة. والديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، والاقتصادات المتقدمة والنامية، والبلدان في أنحاء الجنوب العالمي، عازمة على تنويع علاقاتها طرداً، وزيادة خياراتها المتاحة إلى أقصى حد ممكن. وهي ترى فوائد محدودة وأخطاراً كثيرة في التمسك بالعلاقات الجيوسياسية الأحادية مع الولايات المتحدة أو الصين. ومن المرجح أن تدخل دول أخرى في علاقة جيوسياسية “مفتوحة” (أو على الأقل “علاقة معقدة”). فتحذو حذو الولايات المتحدة في بعض القضايا، في حين تنمي، في الوقت نفسه، علاقاتها بالصين. وإذا استفدنا العبر من الماضي، على واشنطن أن تكون حذرة تجاه التنافس بين العدد المتعاظم من القوى المتوسطة. فهو أسهم، تاريخياً، في استدراج القوى الكبرى إلى الصدام.
ورطة مألوفة
والأزمة التي اندلعت بسبب هجمات “حماس” على إسرائيل، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تذكير مؤلم بالخيارات والقرارات المعقدة التي لا تزال الولايات المتحدة تواجهها في الشرق الأوسط. وتبقى المنافسة مع الصين أولوية واشنطن القصوى. ولا يعني هذا أنها تستطيع تجنُّب التحديات الأخرى، بل يتعين على الولايات المتحدة أن تتعامل بحذر وانضباط، وأن تتجنب الإفراط في التوسع، وأن تستخدم نفوذها بحكمة.
لقد أمضيتُ معظم العقود الأربعة الأخيرة في العمل في منطقة الشرق الأوسط، والاهتمام بقضاياها. ونادراً ما شهدت فيها وضعاً أشد اضطراباً أو تشابكاً مما هو عليه اليوم. فإنهاء العملية البرية الإسرائيلية الكثيفة في قطاع غزة، وتلبية الحاجات الإنسانية الضخمة للمدنيين الفلسطينيين الذين يعانون، وتحرير الرهائن، والحؤول دون امتداد الصراع إلى جبهات أخرى في المنطقة، وبناء نهج عملي لمرحلة ما بعد القتال في غزة- كلها مشكلات بالغة التعقيد. وكذلك الأمر في شأن إحياء الأمل في إرساء سلام دائم يضمن أمن إسرائيل، وقيام دولة فلسطين، ويستفيد من الفرصة التاريخية لإقامة علاقات طبيعية مع السعودية ودول عربية أخرى. وعلى رغم صعوبة تصور هذه الاحتمالات وسط الأزمة الحالية، فالأصعب تصور الخروج من الأزمة من دون السعي إلى تجسيد هذه الاحتمالات بجدية.
والحق أن السبيل إلى ضمان أمن إسرائيل والمنطقة هو التعامل مع إيران. لقد أسهمت هذه الأزمة في تحفيز النظام الإيراني. ويبدو أنه مستعد للقتال إلى آخر وكيل إقليمي له. وهو، في الأثناء يطور برنامجه النووي، ويدعم العدوان الروسي. وفي الأشهر التي تلت السابع من أكتوبر، بدأ الحوثيون، الجماعة المتمردة اليمنية المتحالفة مع إيران، بمهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر، ولا تزال أخطار التصعيد على جبهات أخرى قائمة.
وتجدر الإشارة إلى أن حل المشكلات الشائكة في الشرق الأوسط لا يقع على عاتق الولايات المتحدة وحدها، ولكن من دون قيادة أميركية نشطة، من المستحيل معالجة هذه التحديات بشكل فعال، ناهيك عن حلها.
جواسيس مثلنا
وتتضافر المنافسة الجيوسياسية، وحال عدم اليقين، ناهيك عن التحديات المشتركة مثل تغير المناخ والتقدم التكنولوجي غير المسبوق، على غرار الذكاء الاصطناعي، على خلق مشهد دولي بالغ التعقيد. ويحتم هذا على وكالة الاستخبارات المركزية تعديل نهجها الاستخباراتي، لمواكبة هذا العالم السريع التغير. وتبذل الوكالة، وبقية مجتمع الاستخبارات الأميركي، بقيادة أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية، جهوداً هائلة من أجل التعامل مع هذا الظرف بالسرعة والإبداع المطلوبين.
ويطرح هذا المشهد الجديد تحديات خاصة على منظمة وظيفتها جمع المعلومات الاستخباراتية من طريق العناصر البشرية. وفي عالم يقود الدول الرئيسة المنافسة للولايات المتحدة، لا سيما الصين وروسيا، زعماء مستبدون شخصانيون، يعملون في دوائر صغيرة ومعزولة من المستشارين، أصبح فهم نوايا القادة أكثر أهمية، وأكثر صعوبة من أي وقت مضى.
ومثلما دشّنت حوادث 11 سبتمبر حقبة جديدة في عمل وكالة الاستخبارات المركزية، كذلك فعل الغزو الروسي لأوكرانيا. وأنا شديد الفخر بالعمل الذي قامت به وكالة الاستخبارات المركزية، وقام به شركاؤنا في مجال الاستخبارات، لمساعدة الرئيس، وكبار صنّاع السياسة الأميركيين، وبخاصة الأوكرانيين أنفسهم، في عرقلة سياسة بوتين. فنحن قدّمنا معاً إنذاراً مبكراً ودقيقاً بالغزو المقبل. وهذه المعلومات مكّنت الرئيس من اتخاذ قرار بإرسالي إلى موسكو لتحذير بوتين ومستشاريه، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، من عواقب الهجوم الذي كنا نعلم أنهم يخططون له. واقتناعاً منهم بأن الوقت المتاح لهم للهيمنة على أوكرانيا بدأ ينفد، وأن الشتاء المقبل فرصة مواتية، لم يبالوا، ولم يعترفوا بخطئهم، بل بالغوا بشدة في تقدير تفوقهم، واستهانوا بالمقاومة الأوكرانية والتصميم الغربي.
ومذ ذاك، ساعدت المعلومات الاستخباراتية الجيدة الرئيس في عقد تحالف قوي من الدول الداعمة لأوكرانيا، والحفاظ عليه. وساعدت أوكرانيا على الدفاع عن نفسها بشجاعة وثبات استثنائيين. واستخدم الرئيس بشكل مبتكر سياسة رفع السرية الاستراتيجي. وقبل الغزو، كشفت الإدارة الأميركية، جنباً إلى جنب مع الحكومة البريطانية، عن الخطط الروسية لعمليات “الراية الزائفة” التي كانت صُممت لإلقاء اللوم على الأوكرانيين، وتوفير ذريعة للعمل العسكري الروسي. وهذه الإعلانات المتعاقبة، وما تلاها، حرمت بوتين إمكان استخدام الروايات الكاذبة التي رأيته يلجأ إليها في كثير من الأحيان، في الماضي، ووضعته في موقف حرج وغير مألوف جعله يتصرف تصرفاً دفاعياً، وعززت قوة أوكرانيا والتحالف الذي يدعمها.
ويؤدي الاستياء من الحرب، على الدوام، إلى تقويض دعم القيادة الروسية والشعب الروسي لها، على رغم المحاولات من أجل احتواء السخط بواسطة القمع والدعاية الحكومية. وهذا التيار المكبوت من الاستياء الذي قد لا يتكرر فرصة مؤاتية لتجنيد عاملين مع وكالة الاستخبارات المركزية. ونحن لن ندع هذه الفرصة تذهب سدى.
وفي حين أن روسيا قد تكون التحدي الأكثر إلحاحاً، تبقى الصين التهديد الأكبر، على المدى الطويل. وعلى مدار العامين الماضيين، أعادت وكالة الاستخبارات المركزية تنظيم نفسها لكي تستجيب لتلك الأولوية. وقد بدأنا بالاعتراف بحقيقة تنظيمية، تعلمتها منذ مدة طويلة، تذهب إلى أن الأولويات لا تصبح حقيقة ما لم تُترجَم إلى موازنات. وبناءً على ذلك، خصصت وكالة الاستخبارات المركزية مزيداً من الموارد لجمع المعلومات الاستخباراتية على الصين، وصوغ محاكاة وتحليلات عن بكين في جميع أنحاء العالم. فضاعفت الموازنة الإجمالية المخصصة للصين في السنتين الأخيرتين. ونحن نوظّف وندرّب مزيداً من المتحدثين بلغة الماندرين، بينما نكثف الجهود، في أنحاء العالم، لمنافسة الصين، من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ولدى وكالة الاستخبارات المركزية ما يقرب من 12 “مركز مهام”، وهي مجموعات متخصصة في قضايا محددة، تجمع ضباطاً من مختلف مديريات الوكالة. وفي عام 2021، أنشأنا مركز مهام جديداً يركز حصرياً على الصين. وهو مركز المهام الوحيد الذي يُعنى بدولة واحدة، ويوفر بنية مركزية تتولى تنسيق العمل في شأن الصين. وتشمل اليوم كل ركن من أركان وكالة الاستخبارات المركزية. وعلاوة على ذلك، نعمل على تعزيز القنوات الاستخباراتية بصمت مع نظرائنا في بكين. وهي وسيلة مهمة لمساعدة صناع السياسات على تجنب سوء الفهم والصدامات غير المقصودة بين الولايات المتحدة والصين.
وفي الوقت الذي تستحوذ فيه الصين وروسيا على قدر كبير من اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية، لا يسع الوكالة تجاهل تحديات أخرى، من مكافحة الإرهاب إلى عدم الاستقرار الإقليمي. وقد أظهرت الضربة الناجحة التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان، في يوليو (تموز) 2022، على أيمن الظواهري، المؤسس المشارك والزعيم السابق لتنظيم “القاعدة”، أن وكالة الاستخبارات المركزية لا تزال تركّز بشدة على التهديدات الإرهابية، وتصرف موارد كبيرة على مكافحتها. وتكرس وكالة الاستخبارات المركزية موارد كبيرة للمساعدة على مكافحة انتشار الفنتانيل، المادة الأفيونية المصنعة التي تقتل عشرات الآلاف من الأميركيين كل عام. وتلوح في الأفق تحديات إقليمية مألوفة، ليس في الأماكن التي اعتبرت لمدة طويلة ذات أهمية استراتيجية، وحدها، مثل كوريا الشمالية وبحر الصين الجنوبي، بل في أجزاء أخرى من العالم لن تتعاظم أهميتها الجيوسياسية إلا في السنوات المقبلة، مثل أميركا اللاتينية وأفريقيا.
جواسيس أذكى
وفي الوقت نفسه، نحن نحوّل نهجنا ونوجهه صوب التكنولوجيا الناشئة. وتعمل وكالة الاستخبارات المركزية على مزج أدوات التكنولوجيا الفائقة مع التقنيات القديمة لجمع المعلومات الاستخبارية من الأفراد، أي الاستخبارات البشرية. والتكنولوجيا، بطبيعة الحال، تجعل جوانب كثيرة في مهنة التجسس أصعب من أي وقت مضى. في عصر المدن الذكية، مع كاميرات الفيديو في كل شارع، وانتشار تقنية التعرف إلى الوجه في كل مكان، أصبح التجسس أصعب بكثير. وتهدد المراقبة المستمرة عنصر الوكالة العامل في الخارج، في بلد معاد، ويلتقي بعاملين يخاطرون بسلامتهم لتقديم معلومات، تهديداً بالغاً. ولكن التكنولوجيا نفسها التي تلحق الضرر أحياناً بوكالة الاستخبارات المركزية، سواء من خلال التنقيب في البيانات الضخمة لكشف أنماط أنشطة الوكالة أو شبكات الكاميرات الهائلة القادرة على تتبع كل حركة يقوم بها عميل الوكالة، توفر كذلك الاستفادة منها، وتعمل في خدمة الوكالة وضد الآخرين. وفي هذا الإطار، تتسابق وكالة الاستخبارات المركزية مع منافسيها على استخدام التقنيات الناشئة. وقد عينت الوكالة أول رئيس لقسم التكنولوجيا فيها، وأنشأت مركزاً جديداً آخر للمهمات يركز على بناء أفضل شراكات مع القطاع الخاص، حيث يتمتع الإبداع الأميركي بميزة تنافسية كبيرة.
والمواهب العلمية والتكنولوجية داخل وكالة الاستخبارات المركزية، مذهلة. لقد طورت الوكالة كميات كبيرة من أدوات التجسس المبتكرة، بما يعادل حجم مستودعات على مر السنين. والأداة المفضلة لدي هي كاميرا الحرب الباردة المصممة لتشبه اليعسوب وتحوم مثله. وهذه الثورة في الذكاء الاصطناعي، والسيل من المعلومات المشرعة المصدر، إلى ما نجمعه سراً، تخلق فرصاً تاريخية جديدة لمحللي وكالة الاستخبارات المركزية. ونحن نعمل على تطوير أدوات جديدة من الذكاء الاصطناعي تساعد على استيعاب كل هذه المواد بشكل أسرع وأكثر كفاءة، ما يتيح للعناصر التركيز على ما يبرعون فيه: تقديم تقويمات منطقية وتفاصيل حول أكثر الأمور أهمية في نظر صناع السياسات والمصالح الأميركية. إلا أن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل المحللين البشر، لكنه بدأ بالفعل يحسّن قدراتهم.
ومن أولويات “سي آي أي” الأخرى في العصر الجديد، تعزيز شبكة الشراكات الاستخباراتية التي لا مثيل لها في أنحاء العالم كلها، وهي ميزة يفتقر إليها منافسو الولايات المتحدة المعزولون حالياً. فقدرة وكالة الاستخبارات المركزية على الاستفادة من شركائها، من خلال جمعهم للمعلومات، وخبراتهم، وآرائهم، وقدرتهم على العمل بشكل أسهل وأفضل منها في كثير من الأماكن، أمر أساسي في نجاحها. وتماماً مثلما تعتمد الدبلوماسية على تنشيط الشراكات القديمة والجديدة هذه، ينطبق الأمر أيضاً على الاستخبارات. فمهنة الاستخبارات، في جوهرها، تدور حول التفاعلات البشرية، وليس هناك بديل عن الاتصال المباشر من أجل تعزيز العلاقات بأقرب حلفائنا، والتواصل مع ألد خصومنا، وتنمية العلاقات مع جميع القوى الوسطية التي لا تعد حليفة ولا عدوة. وخلال ما يقرب من ثلاث سنوات، في أكثر من 50 رحلة إلى الخارج قمت بها بصفتي مديراً للوكالة، تعاملت مع مجموعة واسعة من تلك العلاقات.
وفي بعض الأحيان، في مواقف قد يفسَّر فيها الاتصال الدبلوماسي بالأعداء التاريخيين اعترافاً رسمياً بهم، من الأفضل أن يتولّى عناصر الاستخبارات التعامل معهم. لذا أرسلني الرئيس إلى كابول، في أواخر أغسطس (آب) 2021، للتواصل مع قيادة “طالبان”، قبل الانسحاب النهائي للقوات الأميركية. وفي بعض الأحيان قد توفر علاقات وكالة الاستخبارات المركزية في أجزاء معقدة من العالم احتمالات عملية، كما هي الحال في المفاوضات الجارية مع مصر، وإسرائيل، وقطر، و “حماس”، في شأن وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، وإطلاق سراح الرهائن في غزة. وأحياناً، يمكن أن توفر مثل هذه الصلات توازناً سرياً في العلاقات السياسية المليئة بالتقلبات. وأحياناً أخرى، يمكن للدبلوماسية الاستخباراتية أن تشجع على تقريب المصالح وتدعم بصمت جهود الدبلوماسيين وصانعي السياسات الأميركيين.
في الخفاء
ويومياً، عندما أقرأ البرقيات الواردة من المراكز المختلفة حول العالم، أو أسافر إلى عواصم أجنبية، أو أتحدث مع زملائي في المقر الرئيسي، أتذكر مهارة عناصر وكالة الاستخبارات المركزية وشجاعتهم، فضلاً عن التحديات العسيرة التي يواجهونها. إنهم ينفّذون مهام صعبة في مواقع صعبة. ومنذ 11 سبتمبر، بشكل خاص، هم يعملون بوتيرة سريعة للغاية. وفي الواقع، يعتمد ضمان نجاح مهمة وكالة الاستخبارات المركزية، في هذا العصر الجديد والمرهق، على رعاية موظفينا. ولهذا السبب عمدت الوكالة إلى تحسين مواردها الطبية في المقر الرئيس وفي الميدان، وعززت البرامج الأسرية، والعاملين عن بعد، والأزواج الموظفين في مهنتين. وبحثت في مسارات وظيفية أكثر مرونة، لا سيما مسارات المتخصصين في مجال التكنولوجيا، لكي يتمكن العناصر من الانتقال إلى القطاع الخاص والعودة لاحقاً إلى الوكالة.
لقد عملنا على تبسيط عملية تعيين العناصر الجدد. فأصبح الأمر يستغرق الآن ربع الوقت الذي كان يستغرقه قبل عامين للانتقال من مرحلة تقديم الطلب إلى العرض النهائي، والحصول على التصريح الأمني. وأسهمت هذه التحسينات في استقطاب المرشحين إلى العمل في وكالة الاستخبارات المركزية. وفي عام 2023، استقبلت الوكالة عدداً هائلاً من المتقدمين للانضمام إليها، أكبر مما شهدته في أي عام منذ المدة التي تلت حوادث 11 سبتمبر 2001 مباشرة. ونحن نعمل بجد على تنويع القوى العاملة لدينا، وتحقيق مستويات قياسية في عام 2023 في توظيف النساء والأقليات، فضلاً عن العدد الذي نال ترقية إلى أعلى الرتب في الوكالة.
وبحكم الضرورة، يعمل عناصر وكالة الاستخبارات المركزية بشكل خفي. وعادة ما يكونون بعيدين من العين، وبالتالي بعيدين من البال. ونادراً ما تكون المجازفات التي يخوضونها، والتضحيات التي يقدمونها مفهومة جيداً. وفي وقت تتراجع الثقة في المؤسسات العامة في الولايات المتحدة، في كثير من الأحيان، تظل وكالة الاستخبارات المركزية مؤسسة خالية من الطابع السياسي، وملزمة بالقسم الذي أديته وزملائي في سبيل الدفاع عن الدستور، والوفاء بواجباتنا القانونية.
وتربط ضباط وكالة الاستخبارات المركزية روح الجماعة، والالتزام العميق والمشترك بالخدمة العامة، في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ الأميركي. وهم يدركون تمام الإدراك حقيقة النصيحة التي أسداها إلي والدي منذ سنوات طويلة، وهو الرجل الذي تمتع بمسيرة عسكرية فذّة. فبينما كنت متخبطاً فيما عليّ أن أفعله في حياتي المهنية، أرسل لي رسالة مكتوبة بخط اليد: “ليس هناك مصدر فخر أكبر من خدمة وطنك بشرف”. وقد ساعدتني هذه النصيحة على الانطلاق في مسيرة مهنية طويلة وميمونة في الحكومة، أولاً في الشؤون الخارجية، والآن في وكالة الاستخبارات المركزية. ولم أندم قط على اختياري، وأنا فخور جداً بأنني خدمت جنباً إلى جنب الآلاف من ضباط وكالة الاستخبارات المركزية الآخرين الذين يشاركونني شعور الفخر بخياراتهم، ويرتقون إلى مستوى تحديات العصر الجديد.
*ويليام ج. بيرنز هو مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)
مترجم من فورين أفيرز، 30 يناير (كانون الثاني) 2023
المصدر: اندبندنت عربية
وليا
تحويل نهج وكالة الاستخبارات المركزية بما يتماشى مع عصر تطغى عليه المنافسة. على مر التاريخ، كان تستر الدول على معلومات سرية يحمل الدول الأخرى على محاولة كشف المستور، وسبر الأسرار المخفية. وكان التجسس، ويبقى جزءاً لا يتجزأ من فن الحكم [إدارة الدولة]، بالغاً ما بلغت تقنياته من التطور. وقضى جواسيس أميركا الأوائل الحرب الثورية الأميركية وهم يستخدمون الشفرات، وشبكات البريد السرية، والحبر غير المرئي لتراسلهم بعضهم مع بعض، ومع حلفائهم الأجانب. وفي الحرب العالمية الثانية، ساعد مجالُ الإشارات الجديد (وهو عبارة عن أنشطة استخبارية لجمع المعلومات والتجسس عليها واعتراضها) في الكشف عن خطط الحرب اليابانية. وفي أوائل الحرب الباردة، ارتفعت القدرات الاستخباراتية الأميركية حرفياً إلى أعلى علّيين، مع ظهور طائرات يو-2 U-2 وغيرها من طائرات التجسس التي تحلق على ارتفاعات عالية وفي مقدورها تصوير المنشآت العسكرية السوفياتية بوضوح لافت.
وحُفرت على الجدار التذكاري في مقر وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) في لانغلي، فيرجينيا، نجوم بسيطة تكرّم 140 ضابطاً في الوكالة ضحوا بحياتهم في خدمة بلدهم. ويُعدّ النصب التذكاري تذكيراً دائماً بالأعمال الشجاعة التي لا تعد ولا تحصى. وعلى رغم ذلك، فإن الرأي العام الأميركي أكثر دراية بالأخطاء العرضية التي شوهت تاريخ وكالة الاستخبارات المركزية، لكنه يجهل أعمالها البطولية، ونجاحاتها الكثيرة الهادئة والصامتة في كثير من الأحيان. وغالباً ما كان الاختبار الحاسم للاستخبارات هو الاستباق، ومساعدة صناع القرار على التنبه إلى الانعطافات الحادة في المشهد الدولي، أي الأوقات المفصلية التي تحصل مرات قليلة في كل قرن.
والرئيس جو بايدن كرر مراراً أن الولايات المتحدة تواجه اليوم واحدة من الأوقات النادرة، التي لا تقل خطورة عن بدايات الحرب الباردة، أو الوقت الذي سبق 11 سبتمبر (أيلول). والحق أن صعود الصين، والنزعة الانتقامية الروسية، عاملا تحديات جيوسياسية مضنية في عالم يتسم بالمنافسة الاستراتيجية الشديدة. ولم تعد الولايات المتحدة تتمتع فيه بهيمنة واضحة، بينما تتعاظم التهديدات المناخية الوجودية. وما يزيد الأمور تعقيداً حصول ثورة في التكنولوجيا أوسع من الثورة الصناعية، أو بداية العصر النووي وأشد حدة. فمن الرقائق الدقيقة والذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمومية، تعمل التقنيات الناشئة في تغيير العالم، بما في ذلك مهنة الاستخبارات. ومن نواحٍ كثيرة، تجعل هذه التطورات مهمةَ وكالة الاستخبارات المركزية أصعب من أي وقت مضى. ويمنح هذا الخصومَ أدوات جديدة تربكنا، وتضلنا، وتعظم تجسسها علينا.
ومهما تغيّرت أحوال العالم، يظل التجسس عبارة عن تفاعل بين البشر والتكنولوجيا. وستبقى ثمة معلومات سرية لا يقدر على نبشها إلا الإنسان، وتبقى عمليات خفية لا يستطيع تنفيذها إلا البشر. وخلافاً لما توقعه بعضهم، لم يجعل التقدم التكنولوجي، وعلى الخصوص في مجال استخبارات الإشارات، مثل هذه العمليات البشرية غير ذات أهمية، بل أحدث ثورة في طريقة تنفيذها. ولكي تكون وكالة الاستخبارات المركزية جهازاً استخباراتياً فعالاً، في القرن الحادي والعشرين، عليها أن تمزج إتقان استعمال التكنولوجيات الناشئة، مع مهارات التعامل مع الناس، والجسارة الفردية التي كانت على الدوام في صميم مهنتنا. وهذا يعني تزويد مسؤولي العمليات بالأدوات، والمهارات اللازمة للتجسس في عالم من المراقبة التكنولوجية المستمرة، وتزويد المحللين بنماذج ذكاء اصطناعي متطورة تستوعب كماً هائلاً من البيانات المتاحة، والمعلومات المكتسبة سراً ليتمكنوا من اتخاذ أفضل القرارات البشرية.
وفي الوقت نفسه، ثمة تحول، كذلك، في طريقة تعامل وكالة الاستخبارات المركزية مع المعلومات الاستخبارية التي تجمعها. وقد غدا “رفع السرية الاستراتيجي”، أي الكشف المتعمد عن بعض الأسرار من أجل إضعاف الخصوم وحشد الحلفاء، أداة أكثر قوة وفعالية في أيدي صناع السياسات. واستخدامه لا يعني تعريض مصادر، أو أساليب جمع المعلومات الاستخبارية، للخطر بشكل متهور، بل المقاومة الحكيمة للنزعة غير الإرادية إلى إبقاء كل الأمور سرية. ويتعلم مجتمع الاستخبارات الأميركي أيضاً القيمة المتعاظمة للدبلوماسية الاستخباراتية، ويكتسب فهماً جديداً لدور جهوده الرامية إلى دعم الحلفاء، ومواجهة الأعداء في دعم صنّاع القرار.
وتواجه وكالة الاستخبارات المركزية، ومهنة الاستخبارات عموماً، اليوم، تحديات تاريخية. فالتحولات الجيوسياسية والتكنولوجية واحدة من أصعب وأهم الاختبارات في تاريخنا. والنجاح رهن المزج مزجاً مبدعاً بين الذكاء البشري التقليدي وبين التكنولوجيات الناشئة. وفي عبارة أخرى، يقتضي الأمر التكيف مع عالم التنبؤ الوحيد المؤكد فيه ما يتعلق بالتغيير، وبحصوله بوتيرة أسرع.
بوتين المطلق اليد
وما لا شك فيه هو أن حقبة ما بعد الحرب الباردة طُويت تماماً ساعة غزت روسيا أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. وأنا أمضيت شطراً كبيراً من العقدين الماضيين في محاولة فهم المركب القابل للانفجار، والمؤلف من عناصر الظلم والطموح وانعدام الأمن التي يجسّدها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وتُعلمنا أمراً واحداً هو أنه كان من الخطأ الاستهانة، على الدوام، بإلحاح هاجس السيطرة على أوكرانيا وخياراتها، على بوتين. فمن غير هذه السيطرة، يعتقد بوتين أنه من المستحيل على روسيا أن تصير قوة عظمى، أو أن يكون هو زعيماً روسياً عظيماً. وهذا الهوس المأساوي والوحشي سبق أن جلب العار على روسيا وكشف نقاط ضعفها، من اقتصادها الأحادي والإفراط في تقدير براعتها العسكرية إلى نظامها السياسي الفاسد. كذلك، أثار غزو بوتين مستوى مذهلاً من الإصرار والعزيمة لدى الشعب الأوكراني. وقد رأيت شجاعتهم بشكل مباشر في زيارات متكررة إلى أوكرانيا في أثناء الحرب، تخللتها غارات جوية روسية، وصور زاهية لثبات الأوكرانيين وإبداعهم في ساحة المعركة.
وعلى وجوه كثيرة، أثبتت حرب بوتين أنها كانت في مثابة فشل لروسيا. وقد تبين أن هدفه الأساسي، وهو الاستيلاء على كييف وإخضاع أوكرانيا، كان هدفاً غبياً وخيالياً. وقد تعرض جيشه لأضرار جسيمة، فقُتل أو جُرح ما لا يقل عن 315 ألف جندي روسي، ودُمّر حوالى ثلثي ترسانة الدبابات الروسية قبل الحرب، وشهد برنامج التحديث العسكري الذي تباهى به بوتين، والذي دام عقوداً من الزمن، إخفاقات كبيرة. وكل هذا كان ثمرة مباشرة لشجاعة الجنود الأوكرانيين ومهارتهم، ومن ورائهم المساعدات الغربية. ويعاني الاقتصاد الروسي انتكاسات على المدى البعيد، والبلاد على طريق التحول إلى دولة تابعة اقتصادياً للصين. وأدت طموحات بوتين المفرطة إلى نتائج عكسية، ومن طريق أخرى، فأسهمت في توسيع حلف شمال الأطلسي وتعزيز قوته.
وعلى رغم أنه من غير المرجح أن تضعف قبضة بوتين القمعية، في وقت قريب، تؤدي حربه في أوكرانيا، من طرف غير مرئي، إلى اضمحلال سلطته في الداخل. وكان التمرد القصير الأجل الذي بدأه زعيم المرتزقة، يفغيني بريغوجين، في يونيو (حزيران) الماضي، إيذاناً بالضعف الكامن وراء صورة بوتين المرسومة بعناية كقائد قوي وحازم. وقياساً على زعيم صنع بشق الأنفس سمعته آمراً وناهياً في نظام بلاده، أظهر بوتين تردداً ولامبالاة عندما كان متمردو بريغوجين، غير المنظمين، يشقون طريقهم إلى موسكو. وسؤال معظم النخبة الروسية، لم يكن هل الإمبراطور عارٍ، بل لماذا يستغرق ارتداؤه ملابسه هذا الوقت كله، وفي نهاية المطاف، تمكّن بوتين، وهو فريسة الرغبة في الانتقام، من تصفية حساباته مع بريغوجين، الذي قُتل في حادث تحطم طائرة مشبوه بعد شهرين من اليوم الذي بدأ فيه تمرده. ولكن انتقادات بريغوجين اللاذعة، وهي سلطت الضوء على الأكاذيب والأخطاء العسكرية المتأصلة في حرب بوتين، وعلى الفساد المتجذر في قلب النظام السياسي الروسي، لن تتبدد في العاجل القريب.
ومن المرجح أن يكون هذا العام عاماً صعباً في ساحة المعركة بأوكرانيا. وهو اختبار لقدرتها على الصمود. وآثار هذا الصمود تتعدى الكفاح البطولي الذي تخوضه البلاد في سبيل الحفاظ على حريتها واستقلالها. وبينما يسعى بوتين في تجديد الصناعة الحربية الروسية، وذلك بواسطة مكونات بالغة الأهمية من الصين، فضلاً عن الأسلحة والذخائر من إيران وكوريا الشمالية، يواصل الرهان على أن الوقت يعمل لمصلحته، ويحسب أنه قادر على سحق أوكرانيا، وإرهاق أنصارها الغربيين. ويتلخص التحدي الذي تواجهه أوكرانيا في تحطيم غطرسة بوتين، وإظهار التكلفة الباهظة التي تتحملها روسيا نتيجةَ الصراع المستمر، ليس من خلال إحراز تقدم على الجبهة الأمامية فحسب، بل كذلك من طريق شن ضربات في العمق، خلف تلك الخطوط، وتحقيق مكاسب ثابتة في البحر الأسود. وإذ ذاك، قد يجدد بوتين، مرة أخرى، قرع طبول الحرب النووية، ومن الحماقة استبعاد أخطار التصعيد بالكامل، ولا يقل حماقة أن تسمح هذه التهديدات بإخافتنا من غير داعٍ.
ويكمن مفتاح النصر في الحفاظ على دوام المساعدات الغربية لأوكرانيا. والمساعدات التي تقدّمها واشنطن، وتقل نسبتها عن خمسة في المئة من موازنة الدفاع الأميركية، تعدّ استثماراً متواضعاً نسبياً، ويعود بعوائد جيوسياسية كبيرة على الولايات المتحدة، وأخرى وازنة على الصناعة الأميركية. والحق أن الحفاظ على تدفق الأسلحة من شأنه أن يجعل أوكرانيا في موقف أقوى إذا سنحت فرصة لإجراء مفاوضات جادة. ويضمن ذلك فوزاً طويل الأمد لأوكرانيا، وخسارةً استراتيجية لروسيا. وهكذا، تتمكّن أوكرانيا من حماية سيادتها، وإعادة إعمار البلاد، في حين سيتعين على روسيا التعامل مع الأكلاف الطويلة الأجل المترتبة على حماقة بوتين. وفي المقابل، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الصراع، في اللحظة الحاسمة هذه، وقطع الدعم عن أوكرانيا، سيكون خطأ فادحاً تترتب عليه نتائج عكسية، وأبعاد تاريخية.
لعبة نفوذ شي جينبينغ
ولا أحد يراقب الدعم الأميركي لأوكرانيا على قدر مراقبة القادة الصينيين. والحق أن الصين تبقى المنافس الوحيد للولايات المتحدة الذي ينوي صوغ النظام الدولي من جديد، ويملك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لفعل ذلك. وكان التحول الاقتصادي الذي شهدته البلاد على مدى العقود الخمسة الماضية فريداً. ويستحق الشعب الصيني عليه ثناءً كبيراً. وهو إنجاز ساندته دول العالم الأخرى، على نطاق واسع، اعتقاداً منها بأن ازدهار الصين منفعةً عالمية. والقضية لا تتعلق بصعود الصين في حد ذاته، بل بالتهديدات المتعاظمة التي تصاحبه. وبدأ الزعيم الصيني، شي جينبينغ، مدة ولايته الرئاسية الثالثة متمتعاً بسلطة أعظم من سلطة أي من أسلافه، منذ عهد ماو تسي تونغ. وبدلاً من استخدام هذه القوة في تعزيز النظام الدولي وتنشيطه، وهو مكّن تحول الصين، يسعى شي إلى صوغه من جديد. وفي مهنة الاستخبارات، ندرس أقوال القادة بعناية، لكننا نولي اهتماماً أكبر، بأفعالهم. ومن المستحيل أن نتجاهل القمع المتزايد الذي يمارسه شي في الداخل، وعدوانيته في الخارج، بدءاً من شراكته “غير المحدودة” مع بوتين وانتهاءً بتهديده السلام والاستقرار في مضيق تايوان.
وفي الوقت نفسه، يؤثر التضامن الغربي في حسابات شي جينبينغ في شأن أخطار استخدام القوة ضد تايوان. وهذه انتخبت رئيساً جديداً، لاي تشينغ تي، في يناير (كانون الثاني). وفاجأ شي، وهو الرجل الذي يميل إلى رؤية الولايات المتحدة على صورة قوة آفلة، توليها قيادة الدفة في قضية أوكرانيا. ويناقض استعداد الولايات المتحدة لتحمل التكلفة الاقتصادية الناجمة عن مواجهة عدوان بوتين، وقدرتُها على حشد حلفائها معها، اعتقاد بكين بأن أميركا على طريق الانحطاط. وبالقرب من الشواطئ الصينية، كان للصمود الذي أبدته شبكة حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تأثير في حمل بكين على تفكير أكثر جدية وعقلانية. لذا، فالتخلي عن دعم أوكرانيا هو أحد أفضل الطرق لإحياء التصورات الصينية عن الضعف الأميركي، وتأجيج العدوانية الصينية. والدعم المادي المستمر لأوكرانيا لا يأتي على حساب تايوان، بل يبعث برسالة مهمة مفادها أن الولايات المتحدة عازمة على مساعدة تايوان.
وتقوم المنافسة مع الصين على خلفية الترابط الاقتصادي الكبير، والعلاقات التجارية بينها وبين الولايات المتحدة. وعلى رغم أن مثل هذه الروابط خدمت البلدين، وسائر العالم، بشكل ملحوظ، إلا أنها تنشئ، في الوقت نفسه، نقاط ضعف بالغة الأهمية، وأخطاراً جسيمة، تهدد الأمن والازدهار الأميركيين. وأوضحت جائحة كورونا للجميع خطر الاعتماد على دولة واحدة لأجل الحصول على الإمدادات الطبية الناجعة. وعلى النحو نفسه، في أثناء حرب روسيا على أوكرانيا، أدركت أوروبا الأخطار المترتبة على الاعتماد على دولة واحدة من اجل الحصول على الطاقة. وفي العالم المعاصر، لا تريد أي دولة أن تجد نفسها تحت رحمة مورّد واحد للمعادن والتكنولوجيات الحيوية، على الأخص إذا كان هذا المورّد عازماً على استغلال حاجتها، واعتمادها عليه، كسلاح في يده. ويؤكد صنّاع السياسات الأميركيون أن الرد الأمثل هو “إزالة الأخطار”، والتنويع [في مصادر التوريد]، وزيادة أمن سلاسل توريد الولايات المتحدة، وحماية تفوقها التكنولوجي، والاستثمار في قدرتها الصناعية.
وفي هذا العالم المتقلب والمنقسم، يتعاظم ثقل “الوسط التحوطي”، ودور الدول أو الكيانات التي تتبنى نهجاً حذراً ومتوازناً في العلاقات الدولية، وتتجنب الاعتماد المفرط على قوة كبرى واحدة. والديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، والاقتصادات المتقدمة والنامية، والبلدان في أنحاء الجنوب العالمي، عازمة على تنويع علاقاتها طرداً، وزيادة خياراتها المتاحة إلى أقصى حد ممكن. وهي ترى فوائد محدودة وأخطاراً كثيرة في التمسك بالعلاقات الجيوسياسية الأحادية مع الولايات المتحدة أو الصين. ومن المرجح أن تدخل دول أخرى في علاقة جيوسياسية “مفتوحة” (أو على الأقل “علاقة معقدة”). فتحذو حذو الولايات المتحدة في بعض القضايا، في حين تنمي، في الوقت نفسه، علاقاتها بالصين. وإذا استفدنا العبر من الماضي، على واشنطن أن تكون حذرة تجاه التنافس بين العدد المتعاظم من القوى المتوسطة. فهو أسهم، تاريخياً، في استدراج القوى الكبرى إلى الصدام.
ورطة مألوفة
والأزمة التي اندلعت بسبب هجمات “حماس” على إسرائيل، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تذكير مؤلم بالخيارات والقرارات المعقدة التي لا تزال الولايات المتحدة تواجهها في الشرق الأوسط. وتبقى المنافسة مع الصين أولوية واشنطن القصوى. ولا يعني هذا أنها تستطيع تجنُّب التحديات الأخرى، بل يتعين على الولايات المتحدة أن تتعامل بحذر وانضباط، وأن تتجنب الإفراط في التوسع، وأن تستخدم نفوذها بحكمة.
لقد أمضيتُ معظم العقود الأربعة الأخيرة في العمل في منطقة الشرق الأوسط، والاهتمام بقضاياها. ونادراً ما شهدت فيها وضعاً أشد اضطراباً أو تشابكاً مما هو عليه اليوم. فإنهاء العملية البرية الإسرائيلية الكثيفة في قطاع غزة، وتلبية الحاجات الإنسانية الضخمة للمدنيين الفلسطينيين الذين يعانون، وتحرير الرهائن، والحؤول دون امتداد الصراع إلى جبهات أخرى في المنطقة، وبناء نهج عملي لمرحلة ما بعد القتال في غزة- كلها مشكلات بالغة التعقيد. وكذلك الأمر في شأن إحياء الأمل في إرساء سلام دائم يضمن أمن إسرائيل، وقيام دولة فلسطين، ويستفيد من الفرصة التاريخية لإقامة علاقات طبيعية مع السعودية ودول عربية أخرى. وعلى رغم صعوبة تصور هذه الاحتمالات وسط الأزمة الحالية، فالأصعب تصور الخروج من الأزمة من دون السعي إلى تجسيد هذه الاحتمالات بجدية.
والحق أن السبيل إلى ضمان أمن إسرائيل والمنطقة هو التعامل مع إيران. لقد أسهمت هذه الأزمة في تحفيز النظام الإيراني. ويبدو أنه مستعد للقتال إلى آخر وكيل إقليمي له. وهو، في الأثناء يطور برنامجه النووي، ويدعم العدوان الروسي. وفي الأشهر التي تلت السابع من أكتوبر، بدأ الحوثيون، الجماعة المتمردة اليمنية المتحالفة مع إيران، بمهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر، ولا تزال أخطار التصعيد على جبهات أخرى قائمة.
وتجدر الإشارة إلى أن حل المشكلات الشائكة في الشرق الأوسط لا يقع على عاتق الولايات المتحدة وحدها، ولكن من دون قيادة أميركية نشطة، من المستحيل معالجة هذه التحديات بشكل فعال، ناهيك عن حلها.
جواسيس مثلنا
وتتضافر المنافسة الجيوسياسية، وحال عدم اليقين، ناهيك عن التحديات المشتركة مثل تغير المناخ والتقدم التكنولوجي غير المسبوق، على غرار الذكاء الاصطناعي، على خلق مشهد دولي بالغ التعقيد. ويحتم هذا على وكالة الاستخبارات المركزية تعديل نهجها الاستخباراتي، لمواكبة هذا العالم السريع التغير. وتبذل الوكالة، وبقية مجتمع الاستخبارات الأميركي، بقيادة أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية، جهوداً هائلة من أجل التعامل مع هذا الظرف بالسرعة والإبداع المطلوبين.
ويطرح هذا المشهد الجديد تحديات خاصة على منظمة وظيفتها جمع المعلومات الاستخباراتية من طريق العناصر البشرية. وفي عالم يقود الدول الرئيسة المنافسة للولايات المتحدة، لا سيما الصين وروسيا، زعماء مستبدون شخصانيون، يعملون في دوائر صغيرة ومعزولة من المستشارين، أصبح فهم نوايا القادة أكثر أهمية، وأكثر صعوبة من أي وقت مضى.
ومثلما دشّنت حوادث 11 سبتمبر حقبة جديدة في عمل وكالة الاستخبارات المركزية، كذلك فعل الغزو الروسي لأوكرانيا. وأنا شديد الفخر بالعمل الذي قامت به وكالة الاستخبارات المركزية، وقام به شركاؤنا في مجال الاستخبارات، لمساعدة الرئيس، وكبار صنّاع السياسة الأميركيين، وبخاصة الأوكرانيين أنفسهم، في عرقلة سياسة بوتين. فنحن قدّمنا معاً إنذاراً مبكراً ودقيقاً بالغزو المقبل. وهذه المعلومات مكّنت الرئيس من اتخاذ قرار بإرسالي إلى موسكو لتحذير بوتين ومستشاريه، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، من عواقب الهجوم الذي كنا نعلم أنهم يخططون له. واقتناعاً منهم بأن الوقت المتاح لهم للهيمنة على أوكرانيا بدأ ينفد، وأن الشتاء المقبل فرصة مواتية، لم يبالوا، ولم يعترفوا بخطئهم، بل بالغوا بشدة في تقدير تفوقهم، واستهانوا بالمقاومة الأوكرانية والتصميم الغربي.
ومذ ذاك، ساعدت المعلومات الاستخباراتية الجيدة الرئيس في عقد تحالف قوي من الدول الداعمة لأوكرانيا، والحفاظ عليه. وساعدت أوكرانيا على الدفاع عن نفسها بشجاعة وثبات استثنائيين. واستخدم الرئيس بشكل مبتكر سياسة رفع السرية الاستراتيجي. وقبل الغزو، كشفت الإدارة الأميركية، جنباً إلى جنب مع الحكومة البريطانية، عن الخطط الروسية لعمليات “الراية الزائفة” التي كانت صُممت لإلقاء اللوم على الأوكرانيين، وتوفير ذريعة للعمل العسكري الروسي. وهذه الإعلانات المتعاقبة، وما تلاها، حرمت بوتين إمكان استخدام الروايات الكاذبة التي رأيته يلجأ إليها في كثير من الأحيان، في الماضي، ووضعته في موقف حرج وغير مألوف جعله يتصرف تصرفاً دفاعياً، وعززت قوة أوكرانيا والتحالف الذي يدعمها.
ويؤدي الاستياء من الحرب، على الدوام، إلى تقويض دعم القيادة الروسية والشعب الروسي لها، على رغم المحاولات من أجل احتواء السخط بواسطة القمع والدعاية الحكومية. وهذا التيار المكبوت من الاستياء الذي قد لا يتكرر فرصة مؤاتية لتجنيد عاملين مع وكالة الاستخبارات المركزية. ونحن لن ندع هذه الفرصة تذهب سدى.
وفي حين أن روسيا قد تكون التحدي الأكثر إلحاحاً، تبقى الصين التهديد الأكبر، على المدى الطويل. وعلى مدار العامين الماضيين، أعادت وكالة الاستخبارات المركزية تنظيم نفسها لكي تستجيب لتلك الأولوية. وقد بدأنا بالاعتراف بحقيقة تنظيمية، تعلمتها منذ مدة طويلة، تذهب إلى أن الأولويات لا تصبح حقيقة ما لم تُترجَم إلى موازنات. وبناءً على ذلك، خصصت وكالة الاستخبارات المركزية مزيداً من الموارد لجمع المعلومات الاستخباراتية على الصين، وصوغ محاكاة وتحليلات عن بكين في جميع أنحاء العالم. فضاعفت الموازنة الإجمالية المخصصة للصين في السنتين الأخيرتين. ونحن نوظّف وندرّب مزيداً من المتحدثين بلغة الماندرين، بينما نكثف الجهود، في أنحاء العالم، لمنافسة الصين، من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ولدى وكالة الاستخبارات المركزية ما يقرب من 12 “مركز مهام”، وهي مجموعات متخصصة في قضايا محددة، تجمع ضباطاً من مختلف مديريات الوكالة. وفي عام 2021، أنشأنا مركز مهام جديداً يركز حصرياً على الصين. وهو مركز المهام الوحيد الذي يُعنى بدولة واحدة، ويوفر بنية مركزية تتولى تنسيق العمل في شأن الصين. وتشمل اليوم كل ركن من أركان وكالة الاستخبارات المركزية. وعلاوة على ذلك، نعمل على تعزيز القنوات الاستخباراتية بصمت مع نظرائنا في بكين. وهي وسيلة مهمة لمساعدة صناع السياسات على تجنب سوء الفهم والصدامات غير المقصودة بين الولايات المتحدة والصين.
وفي الوقت الذي تستحوذ فيه الصين وروسيا على قدر كبير من اهتمام وكالة الاستخبارات المركزية، لا يسع الوكالة تجاهل تحديات أخرى، من مكافحة الإرهاب إلى عدم الاستقرار الإقليمي. وقد أظهرت الضربة الناجحة التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان، في يوليو (تموز) 2022، على أيمن الظواهري، المؤسس المشارك والزعيم السابق لتنظيم “القاعدة”، أن وكالة الاستخبارات المركزية لا تزال تركّز بشدة على التهديدات الإرهابية، وتصرف موارد كبيرة على مكافحتها. وتكرس وكالة الاستخبارات المركزية موارد كبيرة للمساعدة على مكافحة انتشار الفنتانيل، المادة الأفيونية المصنعة التي تقتل عشرات الآلاف من الأميركيين كل عام. وتلوح في الأفق تحديات إقليمية مألوفة، ليس في الأماكن التي اعتبرت لمدة طويلة ذات أهمية استراتيجية، وحدها، مثل كوريا الشمالية وبحر الصين الجنوبي، بل في أجزاء أخرى من العالم لن تتعاظم أهميتها الجيوسياسية إلا في السنوات المقبلة، مثل أميركا اللاتينية وأفريقيا.
جواسيس أذكى
وفي الوقت نفسه، نحن نحوّل نهجنا ونوجهه صوب التكنولوجيا الناشئة. وتعمل وكالة الاستخبارات المركزية على مزج أدوات التكنولوجيا الفائقة مع التقنيات القديمة لجمع المعلومات الاستخبارية من الأفراد، أي الاستخبارات البشرية. والتكنولوجيا، بطبيعة الحال، تجعل جوانب كثيرة في مهنة التجسس أصعب من أي وقت مضى. في عصر المدن الذكية، مع كاميرات الفيديو في كل شارع، وانتشار تقنية التعرف إلى الوجه في كل مكان، أصبح التجسس أصعب بكثير. وتهدد المراقبة المستمرة عنصر الوكالة العامل في الخارج، في بلد معاد، ويلتقي بعاملين يخاطرون بسلامتهم لتقديم معلومات، تهديداً بالغاً. ولكن التكنولوجيا نفسها التي تلحق الضرر أحياناً بوكالة الاستخبارات المركزية، سواء من خلال التنقيب في البيانات الضخمة لكشف أنماط أنشطة الوكالة أو شبكات الكاميرات الهائلة القادرة على تتبع كل حركة يقوم بها عميل الوكالة، توفر كذلك الاستفادة منها، وتعمل في خدمة الوكالة وضد الآخرين. وفي هذا الإطار، تتسابق وكالة الاستخبارات المركزية مع منافسيها على استخدام التقنيات الناشئة. وقد عينت الوكالة أول رئيس لقسم التكنولوجيا فيها، وأنشأت مركزاً جديداً آخر للمهمات يركز على بناء أفضل شراكات مع القطاع الخاص، حيث يتمتع الإبداع الأميركي بميزة تنافسية كبيرة.
والمواهب العلمية والتكنولوجية داخل وكالة الاستخبارات المركزية، مذهلة. لقد طورت الوكالة كميات كبيرة من أدوات التجسس المبتكرة، بما يعادل حجم مستودعات على مر السنين. والأداة المفضلة لدي هي كاميرا الحرب الباردة المصممة لتشبه اليعسوب وتحوم مثله. وهذه الثورة في الذكاء الاصطناعي، والسيل من المعلومات المشرعة المصدر، إلى ما نجمعه سراً، تخلق فرصاً تاريخية جديدة لمحللي وكالة الاستخبارات المركزية. ونحن نعمل على تطوير أدوات جديدة من الذكاء الاصطناعي تساعد على استيعاب كل هذه المواد بشكل أسرع وأكثر كفاءة، ما يتيح للعناصر التركيز على ما يبرعون فيه: تقديم تقويمات منطقية وتفاصيل حول أكثر الأمور أهمية في نظر صناع السياسات والمصالح الأميركية. إلا أن الذكاء الاصطناعي لن يحل محل المحللين البشر، لكنه بدأ بالفعل يحسّن قدراتهم.
ومن أولويات “سي آي أي” الأخرى في العصر الجديد، تعزيز شبكة الشراكات الاستخباراتية التي لا مثيل لها في أنحاء العالم كلها، وهي ميزة يفتقر إليها منافسو الولايات المتحدة المعزولون حالياً. فقدرة وكالة الاستخبارات المركزية على الاستفادة من شركائها، من خلال جمعهم للمعلومات، وخبراتهم، وآرائهم، وقدرتهم على العمل بشكل أسهل وأفضل منها في كثير من الأماكن، أمر أساسي في نجاحها. وتماماً مثلما تعتمد الدبلوماسية على تنشيط الشراكات القديمة والجديدة هذه، ينطبق الأمر أيضاً على الاستخبارات. فمهنة الاستخبارات، في جوهرها، تدور حول التفاعلات البشرية، وليس هناك بديل عن الاتصال المباشر من أجل تعزيز العلاقات بأقرب حلفائنا، والتواصل مع ألد خصومنا، وتنمية العلاقات مع جميع القوى الوسطية التي لا تعد حليفة ولا عدوة. وخلال ما يقرب من ثلاث سنوات، في أكثر من 50 رحلة إلى الخارج قمت بها بصفتي مديراً للوكالة، تعاملت مع مجموعة واسعة من تلك العلاقات.
وفي بعض الأحيان، في مواقف قد يفسَّر فيها الاتصال الدبلوماسي بالأعداء التاريخيين اعترافاً رسمياً بهم، من الأفضل أن يتولّى عناصر الاستخبارات التعامل معهم. لذا أرسلني الرئيس إلى كابول، في أواخر أغسطس (آب) 2021، للتواصل مع قيادة “طالبان”، قبل الانسحاب النهائي للقوات الأميركية. وفي بعض الأحيان قد توفر علاقات وكالة الاستخبارات المركزية في أجزاء معقدة من العالم احتمالات عملية، كما هي الحال في المفاوضات الجارية مع مصر، وإسرائيل، وقطر، و “حماس”، في شأن وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، وإطلاق سراح الرهائن في غزة. وأحياناً، يمكن أن توفر مثل هذه الصلات توازناً سرياً في العلاقات السياسية المليئة بالتقلبات. وأحياناً أخرى، يمكن للدبلوماسية الاستخباراتية أن تشجع على تقريب المصالح وتدعم بصمت جهود الدبلوماسيين وصانعي السياسات الأميركيين.
في الخفاء
ويومياً، عندما أقرأ البرقيات الواردة من المراكز المختلفة حول العالم، أو أسافر إلى عواصم أجنبية، أو أتحدث مع زملائي في المقر الرئيسي، أتذكر مهارة عناصر وكالة الاستخبارات المركزية وشجاعتهم، فضلاً عن التحديات العسيرة التي يواجهونها. إنهم ينفّذون مهام صعبة في مواقع صعبة. ومنذ 11 سبتمبر، بشكل خاص، هم يعملون بوتيرة سريعة للغاية. وفي الواقع، يعتمد ضمان نجاح مهمة وكالة الاستخبارات المركزية، في هذا العصر الجديد والمرهق، على رعاية موظفينا. ولهذا السبب عمدت الوكالة إلى تحسين مواردها الطبية في المقر الرئيس وفي الميدان، وعززت البرامج الأسرية، والعاملين عن بعد، والأزواج الموظفين في مهنتين. وبحثت في مسارات وظيفية أكثر مرونة، لا سيما مسارات المتخصصين في مجال التكنولوجيا، لكي يتمكن العناصر من الانتقال إلى القطاع الخاص والعودة لاحقاً إلى الوكالة.
لقد عملنا على تبسيط عملية تعيين العناصر الجدد. فأصبح الأمر يستغرق الآن ربع الوقت الذي كان يستغرقه قبل عامين للانتقال من مرحلة تقديم الطلب إلى العرض النهائي، والحصول على التصريح الأمني. وأسهمت هذه التحسينات في استقطاب المرشحين إلى العمل في وكالة الاستخبارات المركزية. وفي عام 2023، استقبلت الوكالة عدداً هائلاً من المتقدمين للانضمام إليها، أكبر مما شهدته في أي عام منذ المدة التي تلت حوادث 11 سبتمبر 2001 مباشرة. ونحن نعمل بجد على تنويع القوى العاملة لدينا، وتحقيق مستويات قياسية في عام 2023 في توظيف النساء والأقليات، فضلاً عن العدد الذي نال ترقية إلى أعلى الرتب في الوكالة.
وبحكم الضرورة، يعمل عناصر وكالة الاستخبارات المركزية بشكل خفي. وعادة ما يكونون بعيدين من العين، وبالتالي بعيدين من البال. ونادراً ما تكون المجازفات التي يخوضونها، والتضحيات التي يقدمونها مفهومة جيداً. وفي وقت تتراجع الثقة في المؤسسات العامة في الولايات المتحدة، في كثير من الأحيان، تظل وكالة الاستخبارات المركزية مؤسسة خالية من الطابع السياسي، وملزمة بالقسم الذي أديته وزملائي في سبيل الدفاع عن الدستور، والوفاء بواجباتنا القانونية.
وتربط ضباط وكالة الاستخبارات المركزية روح الجماعة، والالتزام العميق والمشترك بالخدمة العامة، في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ الأميركي. وهم يدركون تمام الإدراك حقيقة النصيحة التي أسداها إلي والدي منذ سنوات طويلة، وهو الرجل الذي تمتع بمسيرة عسكرية فذّة. فبينما كنت متخبطاً فيما عليّ أن أفعله في حياتي المهنية، أرسل لي رسالة مكتوبة بخط اليد: “ليس هناك مصدر فخر أكبر من خدمة وطنك بشرف”. وقد ساعدتني هذه النصيحة على الانطلاق في مسيرة مهنية طويلة وميمونة في الحكومة، أولاً في الشؤون الخارجية، والآن في وكالة الاستخبارات المركزية. ولم أندم قط على اختياري، وأنا فخور جداً بأنني خدمت جنباً إلى جنب الآلاف من ضباط وكالة الاستخبارات المركزية الآخرين الذين يشاركونني شعور الفخر بخياراتهم، ويرتقون إلى مستوى تحديات العصر الجديد.
*ويليام ج. بيرنز هو مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)
مترجم من فورين أفيرز، 30 يناير (كانون الثاني) 2023
المصدر: اندبندنت عربية
s8a7mc
Your article helped me a lot, is there any more related content? Thanks!
Your point of view caught my eye and was very interesting. Thanks. I have a question for you.