ناحوم برنياع
تجري في البيت الأبيض منذ أسابيع مداولات على الخطة الأمريكية – السعودية للسلام في الشرق الأوسط. اتفق على المبادئ منذ زمن بعيد. أما النقاش فيتركز على ما سمّته “واشنطن بوست” أمس “الفيل الذي في الغرفة”: كيف تسوق الخطة للإسرائيليين. منشورات عن تفاصيل الخطة كانت بوفرة، في الولايات المتحدة وفي إسرائيل على حد سواء. قراء هذه الصفحات تعرفوا عليها بضع مرات. كما اطلع القراء على تصريحات في واشنطن حول كل ما يتعلق بالتسويق لإسرائيل.
سجلت الحرب على الخريطة الكثير من النقاط: كل منها عالم بأسره. وتمثلت الصعوبة في مد الخيوط فيما بينها. فما العلاقة بين تحرير المخطوفين ومسألة دور السلطة الفلسطينية في حكم مستقبلي في غزة؛ ما العلاقة بين الارتفاعات والهبوطات في غزة وفرص إعادة السكان إلى بلدات الشمال؛ ما العلاقة بين حملة عسكرية محتملة في رفح واستمرار السلام مع مصر ومصاعب بايدن في التصويت الديمقراطي في الانتخابات بولاية ميشيغان.
إلى أين نرفع وجوهنا – إلى القاهرة، إلى واشنطن، إلى رام الله أم إلى رفح؛ كيف تؤثر هذه القصة المركبة على قوة نتنياهو السياسية وحالته النفسية؛ كيف تؤثر على علاقاته مع بن غفير وسموتريتش وغانتس وآيزنكوت وقادة الجيش والأمريكيين.
كل شيء مترابط. القرارات الحاسمة الكبرى أمامنا: فعدم الحسم حسم. المسيرة أبطأ مما اعتقدنا، لكن الاتجاه واضح؛ نتنياهو يفهم عظمة الساعة: مثله كمثل البدوي الذي خاف صافرة القطار. حين يسمع القمقم يصفر يخبطه بكل قوة ويقول ينبغي قتلهم وهم صغار.
الفريق الذي من مهمته التفاوض على صفقة لتحرير المخطوفين سافر هذا الأسبوع إلى القاهرة بتركيبة جزئية: فضل اللواء احتياط نيتسان ألون، البقاء في الخلف. كان هذا هو احتجاج ألون الصامت على ترك نتنياهو التفويض للفريق: مسموح لهم سماع ما يقترح عليهم ومحظور عليهم الرد. ربما يسمح ألون لنفسه؛ فهو يترأس الهيئة التي تعالج شؤون المخطوفين تطوعاً في إطار خدمة الاحتياط. أما زميلاه، رئيس “الشاباك” رونين بار ورئيس الموساد دادي برنياع، العضوان في الفريق بحكم منصبيهما، فهما مرؤوسان لرئيس الوزراء.
مسألة التفويض مشوقة. ظاهراً، من حق رئيس وزراء أن يقصر الحبل الذي يعطيه للمفاوضين عنه. ربما يأمل تلطيف مواقف الطرف الآخر بهذه الطريقة. لكن بكل صدق، على من كنتم تثقون بأن يأتي بنتائج في المفاوضات، على من كنتم تثقون في جلب مخطوفين ويهتم أيضاً بالأمن – ببرنياع، بار وألون، أم بنتنياهو.
نتنياهو لم يبلغ غانتس عن تقليص التفويض للوفد. بعد ذلك، كما سرب، قال له: حدث خلل ما. كان يفترض بالوفد أن يعود إلى القاهرة الخميس. قرر نتنياهو إبقاءه في البيت، وذلك دون أن يبلغ غانتس. وهذه المرة لم يقل “حدث خلل ما”.
في محيط غانتس وآيزنكوت يفسرون هذه الإهانات على خلفية نفسية وحزبية. في بداية الحرب، عندما انضما إلى الحكومة، التقيا رئيس وزراء في حالة اكتئاب: مصدوم بالكارثة، شاحب، فزع. مر 130 يوماً فإذ بنتنياهو على الحصان مرة أخرى: دعوته للنصر المطلق، الدعوة العليلة كما هي، التقطت لدى شرائح معينة في الجمهور. لم يتكبد أحد حتى عناء إنتاج قبعات بيسبول مع الشعار، تماماً مثل ترامب وشعاره العليل لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. لم يعد بحاجة لرئيسي الأركان السابقين. يمكنهما أن يبقيا، يمكنهما أن يرحلا. كما أنه ليس بحاجة حتى لغالنت: فهو يعلن بأنه هو، وليس غالنت، من يوجه التعليمات للجيش. مناحيم بيغن عانى كل حياته من حراكات حادة بين الجنون والاكتئاب. أما نتنياهو فينجو بمعونتهما. وفي 7 أكتوبر كان هو الضحية؛ أما الآن فهو البطل.
عندما أيد آيزنكوت دخول المعسكر الرسمي إلى الحكومة، كانت كلمته الأساسية هي التأثير: ندخل كي نؤثر. هو يؤمن بأن دخولهم منع إقرار خطة غالنت لعملية بعيدة الأثر في لبنان وغيرها من الأعمال. في “الكابينت الموسع” ثرثروا، وسرقوا العناوين الرئيسة وسربوا؛ أما في “الكابينت الضيق” فعملوا.
هل يمكن أن يمتلك هو وغانتس التأثير الآن؟ ثمة شك. المشكلة ليست الإهانات التي يتعرضان لها بين الحين والآخر، بل كيف يمكن أن يسمح نتنياهو بها لنفسه.
في نظري، الخطة الأمريكية – السعودية هي المفتاح. حجرها الأساس هو إقامة دولة فلسطينية. رؤيا الدولتين تسمح لبايدن لدخول كل الدول السُنية تحت مظلة واحدة، وكذا الجناح التقدمي في حزبه والناخبون الشبان الذين ملوا المرشحين للرئاسة. مع هذه الرؤيا، سيحقق أغلبية في الكونغرس لحلف دفاع مع السعودية وتأييد الناخبين بتشديد الإجراءات ضد إيران. بدون هذه الأمنية، وهذا الأمل، فكل شيء ينهار.
فرصة بايدن هي أيضاً فرصة نتنياهو. الصراع ضد دولة فلسطينية يتيح له أن يعيد إليه قسماً من الناخبين. أنتم لا تريدون 7 أكتوبر في “كفار سابا”، سيقول لهم نتنياهو. أنا الوحيد الذي سيوقف الانجراف.
عندما ادعى أعضاء طاقم المفاوضات لدى عودتهم من القاهرة بأن الشروط قاسية مع بقاء فرصة يمكن الحديث بشأنها، سد نتنياهو أفواههم: هم يذكرون الثمن بالمفرق؛ أما هو فينظر إلى الحساب بالجملة. إذا ما وافق على التفاوض على دولة فلسطينية، أي على شيء ما كان قد روج له في الماضي، فلن تكون له حكومة، ولا إرث، ولا رؤيا. لقد ألقى التاريخ عليه مهمة إحباط الخطة. ليس وحده مصير المخطوفين يتقزم أمام الدور الذي كلفه به التاريخ، بل مستقبل الإسرائيليين في الشمال وفرصة تفكيك حكم حماس في غزة، والصراع الطويل ضد النووي الإيراني، كلها على حد سواء. نتنياهو هو رجل هذه المهمة.
يدرك البيت الأبيض الدور الذي أخذه نتنياهو على عاتقه. ثمة من يؤمن، عن حق أو عن غير حق، بأن نتنياهو ليس المقرر الوحيد في إسرائيل، والدليل: بايدن، وخصوصاً هو، منعه من توسيع الحرب في لبنان؛ وفرض عليه، بخلاف تصريحاته، مد المساعدات الإنسانية للسكان في غزة، وفتح المعابر، ونقل الغذاء، والمشاركة في محادثات القاهرة، لأنهم يعولون على قيادة الجيش وأذرع الأمن وغانتس وآيزنكوت ودرعي وجنود الاحتياط، وعلى حركة الاحتجاج. الصراع يبدأ.
بحاجة ماسة إلى المواساة
كانت هذه إحدى اللحظات المحرجة في تغطية حرب غزة. فعلى مدى يوم كامل أطعموا الإسرائيليين قصة عن شريط مسجل يكشف عن يحيى السنوار في النفق الذي اختبأ به في مكان ما في القطاع. نحن في بطولتنا؛ نقترب من السنوار؛ صورة النصر قريبة. ليس الجبان من يفر وهو يتلبسه الرعب من جنازير الدبابات التي تحرث الأرض من فوقه، بل يبعث أيضاً بزوجته وأطفاله أمامه، ليموتوا هم. هو يجري نظام الجار داخل عائلته.
في النهاية، عرض الناطق العسكري شريطاً من بضع ثوان، ثمرة كاميرا حراسة ركبتها حماس في أحد أنفاقها. نرى فيه عائلة تسير بهدوء، بدون فزع داخل نفق، يسير رجل بنعل بيتي ويحمل حقيبة – ربما السنوار، ربما شخص غيره. تاريخ التصوير 10 أكتوبر، قبل 17 يوماً من بدء الخطوة البرية. السنوار لم يهرب؛ لا سبب لذلك.
“الشريط ليس مهماً”، أجمل الناطق العسكري دانييل هاغاري، رجل ممتاز، الحدث. هو محق (خسارة أنه لم يشرح في تلك المناسبة لماذا أحدث هذا الشريط كل هذا الضجيج منذ البداية).
الفضائح شيء جيد: يمكن للمرء أن يتعلم منها. فالدرس الذي تعلمته من فضيحة الشريط هو أن الإسرائيليين عطشون الآن جدا لبشرى طيبة، بحيث إنهم مستعدون لتبني بشرى هزيلة أيضاً. “أحياناً أنا وأحيانا أنت، بحاجة ماسة للمواساة”، كتبت راحيل شبيرا وسارة ايلانيت. لم يسبق أن كانت هذه الكلمات أكثر صواباً.
الحرب التي يديرها الجيش الإسرائيلي في غزة عادلة، وعادلة أيضاً في نظرة إلى الوراء، إلى أحداث 7 أكتوبر، وكذا في نظرة إلى المستقبل، إلى مكاننا في الشرق الأوسط. فيها مزايا قاسية: أطفال، نساء، مدنيون، يقتلون، يجرحون ويقتلعون من بيوتهم؛ مدن وقرى تصبح جزر خرائب؛ عدد كبير من السكان يتعرضون لسوء التغذية، والأوبئة، والمخاوف. مع كل الأسف على معاناة غير المشاركين، فإن لهذه الخطوات الوحشية جانباً إيجابياً: فهي تجسد للعدو مدى سيرنا كي نضمن أمننا. هذه هي طبيعة الردع: أن يروا ويخافوا.
في بداية الحرب أمسك بي في حديث ما ضابط كبير، يعتمر “كيبا”، قائد قوات قاتلت في القطاع، وقال لي، أخشى أن يكون الضرر الأكبر من أحداث 7 أكتوبر هو المس بقيم المجتمع الإسرائيلي، وأنماط سلوكه. حماس ستفسدنا. هذه الحرب ستولد إسرائيل أخرى، سائبة، محبة للثأر، عنيفة، متزمتة، قال. في المرات التي دخلت فيها إلى القطاع التقيت مقاتلين مصممين، فخورين، مدربين، بمعنويات عالية ومستعدين للسير حتى النهاية. وجدت صعوبة في الربط بين مخاوفه والواقع في الميدان.
ذات يوم، روى لي ضابط التقى لدى الخروج من القطاع بمركبة كانت عليها أربع شاشات تلفزيون كبيرة. ما الذي تعتقد أنك فاعله؟ سأل الجندي. ماذا يؤلمك، أجابه الجندي. على أي حال، كانوا سيدمرون البيت، فإذا بي أنقذها.
السلب والنهب موجودان في كل حرب، فهما مبرران في قسم منهما: جندي يأخذ كرسياً ليجلس عليه، وبطانية يتغطى بها في الليل، وعاء يغلي به القهوة. بشكل عام، هذا يتوقف بنا. لكن الغريزة تطلب المزيد: آباء آبائنا كانوا لاقطين، جامعين، مراكمين. في اليوم الثامن من حرب الأيام الستة أخذنا قائد سريتنا، الراحل حاييم سيبوري، إلى تل أريحا. تلا علينا إصحاح ج في سفر يهوشع، الإصحاح عن عكن بن كرمي، السالب الناهب العبري الأول: خطيئة إسرائيل… أخذوا، سرقوا، نهبوا وجمعوا أيضاً… لن أبقى معكم إذا لم تكبحوا غريزتكم”.
بعد ذلك أمرنا قائد السرية أن نسحب ما سلب من المركبة. لا يصدق ما الذي خرج من هناك، ما الذي نجحوا في إنقاذه من الأكواخ الهزيلة لقرى الجولان: دراجة قديمة، ماكينة خياطة، راديو من خشب، حقائب، كراسي، أدوات عمل وغيرها. كل شيء جمع في كومة واحدة. أخذ قائد السرية وعاء وقود وصبه على الكومة. كتبت في حينه أقول: عندما انطفأت النار انطلقنا من هناك بسرعة، كأناس يفرون من خطيئتهم، كأناس تواقين للكفارة”. الاحتفال في أريحا كان علامة انعطافة في حياتنا.
المصدر: يديعوت أحرونوت /القدس العربي