جمال فهمي
هذه الجريمة المتفوقة في البشاعة التي تتتابع فصولها الدموية على أرض فلسطين حالياً حاصدة عشرات الآلاف من أهلنا هناك، بينما النظام العربي الرسمي، بغالبية مكوّناته البائسة، صامتاً صمت القبور، لكن عيون أهل الأمّة سواء في فلسطين أو في غيرها تنظر إلى حيث تقف مصر بالذات من هذه المحرقة، وربما جهر الكثيرون منهم بكلمات حائرة تتراوح معانيها بين الاستهجان والعتب، والدهشة والغضب، ليس فقط لأنّ مصر هي أهم وأقوى أقطار العرب وأشدهم بأساً وتأثيراً ، وإنما ايضاً لأنّ ما يجري في فلسطين عمومًا وفي غزّة خصوصاً ، لصيق بمصالحها الاستراتيجية العليا ويهدد أمنها الوطني تهديداً فادحاً ومباشراً ، مما لا يليق معه هذا الارتباك البائس في المواقف، بل وتناقضها احياناً ، لا سيما في ظل تهديدات العدو باجتياح وشيك لمنطقة رفح حيث ينحشر هناك الآن ما يقارب مليون ونصف المليون فلسطيني لاذوا بهذه المنطقة التي لا تبعد سوى أمتار قليلة عن حدود مصر، هربًا من المحرقة .
إذن ما الأسباب والكوابح التي تمنع القاهرة من اتخاذ موقف أكثر قوة ووضوحاً وأقل ارتباكاً تجاه ما يجري على مرمى حجر من أراضيها ؟ !..
السطور المقبلة سترصد هذه الأسباب التي يمكن وضعها كلها تحت عنوانين اثنين، أولهما؛ نوع وطبيعة حكم مصر الحالي وعقيدته السياسية، وثانيهما؛ أوضاع البلاد التي أفضت إليها سياسات هذا الحكم .
نبدأ بطبيعة النظام، وهي باختصار لا تختلف في جوهرها – دعك من التفاصيل – عن طبيعة أغلب نُظُم الحكم العربية، خصوصاً من حيث ضعف اتصالها بشعوبها من لحظة الوجود في ظل انعدام أي مظهر لديمقراطية حقيقية، ثم يظل هذا الضعف حاضراً طوال سنين أعمارها الطويلة جداً ، كما يبقى فاعلاً ومجسّداً في سياسات اقتصادية واجتماعية عقيمة وخائبة تتبعها هذه النُظُم وقد تتسم، كما في الحالة المصرية، بفوضى عارمة في الأولويات تؤدي حتماً إلى سلسلة متتابعة الحلقات من أزمات وتشوهات بنيوية خطيرة تؤثر سلباً على جودة حياة الأغلبية الساحقة من أعضاء المجتمع، وترفع مناسيب الفساد والنهب إلى درجات عالية من شأنها إصابة مبدأ نزاهة الحكم إصابة قاتلة، ما يؤدي بدوره ومع مرور الزمن إلى شيوع حال من اليأس والقنوط تعصف بالمجتمع كلّه .
هنا لا بد من الإشارة إلى أنّ النظام المصري الحالي يعاني بالإضافة لكل ما فات، انخفاضاً مريعاً في الكفاءة إذ يسد أذنيه عن أية نصيحة مخلصة مهما كان علم وخبرة مصدرها، ما يفاقم علله وأمراضه ويجعله في مرات عدة مثيراً للدهشة والسخرية ربما أكثر من الغضب .
غير أنه يبقى ضمن عنوان طبيعة النظام في مصر ما ذكرته عن عقيدته السياسية، وبداية لا بد من الاعتذار عن استخدام هذا التعبير، فالحكم القائم في القاهرة الآن يصعب أو يستحيل العثور على عقيدة سياسية ما يتبناها، وإنما الأمر كلّه لا يخرج عن اختيارات عشوائية لا يجمعها رابط وإنما يختارها، أو بالأحرى ربما تختار هي نفسها، كيفما اتفق وعلى نحو لا يشي بأنّ خلف انتقائها أي تفكير أو تأمل، إذ تبدو تجسيداً لفقر الكفاءة المدقع !!.
أما العنوان الثاني الذي تتراكم تحته كوابح وأسباب موقف مصر الرسمي البائس من الجريمة الرهيبة التي يرتكبها العدو في غزّة، أي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ترسم ملامح صورة مصر حالياً ، فإنها ملامح يمكن للمرء أن يراها جلية بغير أدنى عناء ولا تدقيق .
لقد أدت سياسات الحكم إلى كارثة حقيقية على كل الأصعدة خصوصاً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي .
فاقتصادياً صارت مصر على عتبة الإفلاس بعد سنين طويلة من هدر وتبذير خرافيين لمقدرات البلاد والتوسّع على نحو تجاوز عدم الرشد، في الإقدام على الاستدانة من الخارج حتى تضخم الدين الخارجي بشكل غير مسبوق في كل مراحل تاريخ البلاد الحديث – قفز في أقل من عشر سنوات من نحو 40 مليار دولار إلى ما يقرب من 170 ملياراً حالياً- وتستنزف خدمة هذه الديون سنوياً نسبة كبيرة جداً من مداخيل الدولة المصرية، وقد أنفقت كل هذه الأموال المهولة في مشروعات تتراوح أوصافها ما بين قليلة أو معدومة الأهمية تماماً ، ولا يستند معظمها إلى أي دراسات جدوى جدية .
إنّ آثار هذه السياسات الكارثية على الصعيد الاجتماعي باتت أكثر من رهيبة، ففي ظل حال غلاء منفلت تجاوز كل الحدود وطال كافة السلع والخدمات الحيوية، تتردى الآن نسبة كبيرة من المجتمع في ضيق وبؤس يقرّبهم في كل يوم من حال مجاعة حقيقية !.
وبعد..
لكن رغم كل هذا الفيض من البؤس والخراب، هل مصر لا تملك الآن أية قوة تجعلها تقف بصلابة ضد إجرام العدو وتردعه عن التمادي والإضرار بمصالحها وأمنها، على الأقل ؟.
إنها تملك فعلاً.. وإلى المقال المقبل .
المصدر:( “عروبة 22”)