أحمد مظهر سعدو
تمر هذه الأيام الذكرى الأولى للإعلان عن التفاهم والاتفاق الذي جرى بين المملكة العربية السعودية وإيران برعاية صينية، حيث تم الإعلان في 10 آذار /مارس 2023 في بكين عن هذه التفاهمات، التي كانت نتيجة حوارات كثيرة وطويلة، جرت في بغداد، ثم في الصين، وأدت إلى إنجاز اتفاق لم يكن أحد يتوقعه أن يأتي بهذه السرعة، ولا إلى أي مآلات يمكن أن يؤدي، في وقت شهدت فيه المنطقة صراعات عسكرية وسياسية كثيرة ومريرة، بين الطرفين، أو عبر الوكلاء والحلفاء إن صح التعبير.
ولعل هذا الإعلان قد ترك آثاره وذيوله على المنطقة برمتها، من خلال ما أحدثته تلك الاتفاقات أو (الصفقة) في ملامح المشهد السياسي و(الجيو سياسي) والإقليمي بمجمله.
وإذا كان فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي قد آثر قبل ذلك أن يصف الحوار بينهما بأنه حالة استكشافية ليس إلا، لكن هذا الاستكشاف (وكما يبدو) أريد له أن يكون الهدف بعينه، من منطلق أنه لا ثقة مطلقًا بالطرف الآخر الإيراني، الذي كان ومازال يلعب في كل ملفات المنطقة وفق الرؤيا النفعية المصلحية للمشروع الفارسي الطائفي، الذي يحاول إعادة بناء صرح الإمبراطورية الفارسية، وأطماعها في الإقليم.
وقد تبين في مجمل ما جرى بعد ذلك أن مشروع ورؤية 2030 التي يرفع لواءها ويمسك بها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تَعتبر أن العلاقة مع إيران، ومن ثم (تصفير مشكلات) معها ضرورة أساسية لإنتاج وإنجاح الرؤية المشار إليها. ومعها بالضرورة جل مسارات “المصالحة الخليجية” منذ بدايات 2021، والتي ساهمت هي الأخرى في إنتاج حالة (تصفير مشكلات) كلية، ليس مع إيران فحسب، بل مع دول المنطقة برمتها، ودفعت نحو هذا الاتجاه الضروري لإنجاح سياسات الأمير محمد بن سلمان، ومنها أيضًا مسألة المصالحة وطيّ كل صفحات النزاع مع تركيا/ أردوغان.
وهناك من يرى أن إيران قد حاولت إظهار تحوّلات حقيقية لكنها كانت شكلية، وذلك منذ استلام إبراهيم رئيسي مقاليد الرئاسة في إيران مع دخول سنة 2021، وطبعًا بموافقة ورعاية من الحاكم الفعلي في إيران، وهو المرشد الأعلى علي خامنئي، حيث أُريد إعادة فتح صفحات وسياسات جديدة مع المملكة العربية السعودية، لأن إيران تفهمت ووعت أن الولوج عبر بوابات العاصمة الرياض، قد يفتح بجواره كل أبواب الخليج العربي الموصدة، وأيضًا أبواب شمال إفريقيا وجمهورية مصر العربية، وهو ما تأمله إيران منذ زمن بعيد، وبالضرورة لا بد أن يساهم ذلك في أن يشرّع لها أبواب المنطقة.
لقد كان القرار في إنجاز التفاهمات ومن بكين قرارًا سياسيًا بامتياز، من قبل طهران والرياض على حد سواء، قبل أن يكون أمنيًا أو اقتصاديًا، ولو لم يكن هذا القرار سياسيًا، لما كان بالإمكان احتضان الاتفاق رغم كل تعثراته، ولما تمكن من الصمود في ظل وجود الأعاصير الكبرى، التي عصفت بالمنطقة، وذلك منذ 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023، وما قبلها وما بعدها، من عثرات ومعوقات في دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء.
في سياق تفاعلات وارتدادات ما جرى في غزة فصولًا وما زال، وكان من الممكن أن يُحدِث ذلك نكوصًا وتراجعًا عن الاتفاق بين السعودية وإيران، على أساس تباين المسارين الظاهري، لكن الإيرانيين حاولوا أن يحافظوا وألا يتجاوزوا بعض الخطوط الحمر أو “المحرمات” التي يمكن أن تودي بالاتفاق السعودي الإيراني.
واقع الحال يشير إلى تمكن الطرفين من تجاوز تبعات وتداعيات حدث “الطوفان” وقدرتهما معًا، على حسن وحنكة ودراية عملية “إدارة الخلاف” بينهما إن صح التعبير، حيث مازال كلاهما متمسكًا بـ “المصالحة” الكبرى التي جرت منذ عام في بكين، باعتبارها خيارًا نهائيًا لا مناص منه، ولا ضير أنه يخدم الطرفين وسياساتهما في المنطقة. وقد تمظهر بوضوح ابتعاد المملكة العربية السعودية وكل دول المنطقة في الخليج العربي وخارجه، وخاصة في سياق ما يجري في البحر الأحمر، بعد تلك المناكدات وإطلاق المفرقعات من قبل الحوثيين المدعومين إيرانيًا، والذين هم أدوات واضحة للسياسات الإيرانية، فقد ابتعدت هذه الدول عن الدخول في أي من أحلاف دولية ضد جماعة الحوثي، حتى لا يشكل ذلك أي إزعاج جدي للتفاهم السعودي الإيراني.
وإذا كان كثير من المتابعين يعتقدون أن الاتفاق الإيراني السعودي ما يزال في مهب الريح، وأن جملة ديناميات وتغيرات وانزياحات كبرى يمكن أن تترك الأثر، وتؤدي إلى تداعي الاتفاق وكل التفاهمات التي رعتها الصين، ثم قام بمداهمتها على حين غرة “طوفان الأقصى” وأن كثيرا من هذه الارتدادات والتداعيات ما برحت تنفث نيرانها على كثير من أوراق بكين الموقعة في 10 آذار/ مارس 2023، إلا أن هناك كثيرا من النقاط والمرتكزات مازالت هي الأخرى تحول دون القدرة على تأثيرات الواقع الدراماتيكي، من أن يترك نتائجه السلبية على الاتفاق، أو أن يؤدي إلى انهياره، حيث ما زالت المملكة العربية السعودية تتمسك به، وتعمل على أساسه، من دون ثقة كاملة بالطرف الآخر، فهي تؤخر بعض المسائل التنفيذية فيه، نتيجة تملص وتهرب إيران، ومعها دول (الممانعة والمقاومة) المفترض أنها تابعة لها، من تنفيذ أي من الخطوط الكبرى التنفيذية للاتفاق، ومنها أن النظام السوري ما زال يتهرب من الولوج في الحل السياسي الذي نصت عليه القرارات الدولية، وأكدته المبادرة العربية، وما زال بشار الأسد غير قادر على إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، رغم أهمية ذلك بالنسبة لدول الخليج، وما زال (الكبتاغون) يتم تهريبه إلى دول الخليج، من خلال ميليشيات إيرانية، ولبنانية موجودة في سوريا، وبدعم وتغطية من نظام بشار الأسد، وما زال حزب الله اللبناني يعبث في الواقع الاقتصادي والسياسي في لبنان، ويمنع قيام وانتخاب رئيس جمهورية، أو قيام حكومة لبنانية قوية خارج سيطرته، وما زالت إيران تدير أوضاع البحر الأحمر عبر الحوثيين، حيث يتم توريطهم أكثر وأكثر في كل إشكالات المنطقة، وما تزال إيران تتاجر بفكرة وحدة الساحات، من دون قدرتها على التصدي للعدوان الإسرائيلي المباشر على الأراضي السورية، وما انفك الحشد الشعبي في العراق المدعوم إيرانيًا يحول دون سيطرة الحكومة المركزية على مجمل الجغرافية العراقية، حيث تنفذ إيران مصالحها وأجنداتها عبر الحشد، بعيدًا عن جغرافية إيران، وضمن لعبة التفاهمات الدولية مع الأميركيين.
وما تزال إيران تمنع النظام السوري من إجراء أي تفاهمات مع المعارضة السورية، أو مع الدولة التركية، وهي التي فرضت نفسها كشريك مباشر في اجتماعات تطبيعية، مع النظام السوري وتركيا وروسيا، لتكون اللاعب الأهم في ذلك ووفق أجنداتها هي، قبل أجندات نظام المقتلة الأسدية.
من هنا كانت الضرورة لكلا الطرفين للاستمرار بالاتفاق الذي جرى في الصين على علاته وعثراته، حيث يساهم على الأقل بالنسبة للسعوديين في لجم الحوثيين من انتهاكات عسكرية ضد الأراضي السعودية وهو الأهم بالنسبة للسياسات السعودية في المنطقة، ولكي يكون المجال رحباً وميسرًا أمام إنجاز رؤية وخطة الأمير ولي العهد محمد بن سلمان 2030، التي يعول عليها كثيرًا في إنجاح دوره الخليجي والوطني، وقيام دولة قوية سعودية منفتحة، وتلعب في سياساتها ضمن مصالحها هي أولًا، قبل أي مصلحة عربية أو إسلامية، أو إقليمية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا