د. مخلص الصيادي
خلال يومين متتاليين أنجزت قراءة كتاب الأستاذ عبد الله السناوي “أحاديث برقاش… هيكل بلا حواجز”، الصادر عن دار الشروق في العام 2017، وكنت كلما تقدمت في فصول الكتاب ازداد شغفي به، وإحساسي بأهميته، وتقديري للقدرة الفذة التي يمتلكها السناوي في عرض الوقائع وفي تقديم هيكل الصحفي والمفكر والسياسي والمعلم بما يليق بمكانة هذه الشخصية المتفردة ودورها على مختلف الصعد.
والحديث عن هيكل الذي غادر الحياة قبل ما يزيد عن ست سنوات” 17 / 2 / 2016″ هو دائما حديث عن المستقبل وليس عن الماضي، لأنه إذ يساهم في فهم الحدث وفي الإحاطة به إحاطة متقنة دقيقة وموثقة فإنه يمسك بعقولنا وأنظارنا ويقودنا لرؤية المستقبل الذي ينتظرنا، فما هو يقيني عند كل ذي بصيرة أن المستقبل صناعة الحاضر، وأننا في كل حين نشاهد ونتلمس أثر وقائع التاريخ فيما يجري وفيما سيكون.
وميزة هيكل في كل ما يكتب أنه عينه وقلمه لا يكاد يغادر الوثائق، يعرضها ويحللها ويستخلص منها النتائج ثم يعود مرة أخرى لمحاكمة رؤيته واستخلاصاته استنادا لما أثبتته مجريات الأحداث. ودائما يعمد الى حفظ وثائقه التي اعتمد عليها، وكذلك حفظ الوثائق التي وصل إليها، أو وصلت إليه، باعتبارها حق من حقوق الوطن والأمة لا يجوز التفريط بها أو الاستهانة بأهميتها، لذلك كان الحريق الذي اشعلته قوى الظلام في بيته ببرقاش ظهر يوم 14 / 8 / 2013 حيث كانت هذه الوثائق جريمة بحق الأمة وذاكرتها وأجيالها. جريمة لا يستطيع المدقق أن يستبعد أن تكون متعمدة بسبب ما تحتويه هذه الوثائق من أسرار وما تكشف عنه من أدوار ليس من مصلحة من حرض على هذه الجريمة أن تخلد في ذاكرة الأمة، وأن تكون حاضرة دوما أمام عقلها وضميرها ورؤيتها.
وميزة هيكل أيضا أنه حين يقرأ الأحداث ويتابعها ويتفاعل معها فإنه لا يكتفي بالتوقف عند تفاصيلها، كما يفعل جل المتابعين للأحداث وإنما يحرص على أن يضعها في إطارها العام وطنيا وقوميا وإقليميا ودوليا، لقناعة راسخة وصحيحة بأن الحدث في أي مكان لا ينفصل عن محيطه، ولأن الحدث في وطننا لا يصنع ولا يتأثر بمكوناته المحلية، وإنما هو ـ بحكم عوامل كثيرة تفردت بها أوطاننا ـ تشارك في صناعته قوى الخارج، وفي كثير من الأوقات يكون رصيد الخارج في صناعة أحداثنا أكثر تأثيرا وأبعد أثرا من تأثير قوى الداخل.
ومن هذه الزاوية تأتي رؤيته لمسيرة التسوية مع العدو الصهيوني، ولخطورة الاستهتار بأمن مصر المائي المتمثل بنهر النيل، وخطورة انكفاء مصر عن دورها الذي رسمته الأقدار في محيط امتها العربية وفي أفريقيا وعلى المستوى الحدث الدولي.
في أحاديث برقاش نسترجع كيف أن استلام الرئيس المصري الراحل للسلطة كان بداية الكارثة الحقيقية التي أمسكت بخناق مصر ومن ثم الوطن العربي كله، وكانت الخطوة التي هتكت الستر، وتركت العرب كلهم عرايا تائهين، لا وزن لهم ولا قيمة، يستجدون قيمتهم على موائد الآخرين حماية، وتنمية، وأمنا، وكرامة.
ونسترجع معه في هذا الكتاب كيف أن تخريب مصر مجتمعا واقتصادا ومؤسسات ومصانع كان هدفا رئيسيا لذلك السلام المزعوم، وكيف أن ثمن هذا التخريب دفع من دم الشعب المصري ومن ثرواته ومن قطاعه العام الذي تحمل أعباء الحرب والصراع بنجاح ثم بدأ تفكيكه وتخريبه وبيعه تحت رايات السلام، وتحقيقا لتوجهات القوى الداخلية والدولية التي رفعت هذه الرايات.
كان ما يحدث مشهدا عجيبا، كأنه من الخيال، لكنه كان يحدث، وقد سجله هيكل بدقة بالغة كاشفا من كان وراء هذا التحول، داخل مصر وخارجها، وماذا جر هذا التحول لاحقا على الأمة كلها.
ولا يخفي هيكل في أحاديث برقاش دوره في استلام السادات للسلطة، كما لا يخفي خطأ تقديره لأداء السادات، ولانحيازاته، وهو الخطأ الذي دفعه إلى الخروج دون تأخير من فضاء السلطة إلى فضاء المعارضة، وهو خروج يسمح لكل من يطلع على مسيرة هذا الرجل أن يقرر أنه مثل ولادة جديدة لهيكل، وأتاح له أن يرقى بنفسه وعطائه إلى أفاق لم يستطع أحد أن يصل إليها من قبل، حتى استقر بحق وصفه بأنه “اسطورة حية”، وأن يوضع في مكانه مفردا كما وضع جمال عبد الناصر، وأن تصبح العودة لهيكل، لمدرسة هيكل “الصحفي والسياسي والمفكر والاستراتيجي” ضرورة لازمة لكل من يريد أن يكون له دور حقيقي في صناعة الحدث في وطنه، وكما اكتشف لاحقا أن استلام السادات للسلطة كان كارثة، كشف كيف أن استمرار مبارك في السلطة ثلاثين عاما كان بمثابة إعادة صياغة هذه الكارثة بثوب جديد اكثر تخريبا في جسد المجتمع المصري، وفي قواه الحية، لكنه تخريب لم يستطع أن يمنع حيوية هذا الشعب من أن تبدع أدوات تحرك لقوى شبابية معارضة رسمت اللوحة البارعة للربيع العربي في مصر، وخطت مسار انهاء حكم مبارك وفكرة التوريث التي كادت أن تبسط هيمنتها على البلاد.
ونستعيد من السناوي تفاؤل هيكل بثورة يناير ثم تلمسه بشكل مبكر ما أحاط بها من أخطار، كان جزء مهم منها صناعة خارجية، ثم كيف آلت الأمر الى ما آلت إليه وباتت مصر عاجزة مرة أخرى عن استكمال ثورتها، حتى صار طرح سؤال “لماذا لا تكتمل في مصر ثورة؟” طرحا مشروعا.
كما نستعيد مع السناوي محطات من أحداث مهمة، من ثورة القذافي بأطوارها المتعددة، وصولا إلى النهاية الحزينة والمؤلمة التي جرت في إطار تآمر دولي / أطلسي بشع إلى أجواء ثورة الخميني بأطوارها المتعددة أيضا، إلى غزو العراق وتدميره.
وحين يستعرض السناوي رؤية هيكل للربيع العربي فإنه يشدد على تقديره لهذا الربيع وأنه جاء ردا على تردي الأوضاع العربية الداخلية وانسداد أفق التغيير أو التطوير، وشيخوخة الأنظمة القائمة التي لايبررها شيء، ثم هو يلحظ تسابق الدول الخارجية متعاضدة مع القوى الداخلية سواء تمثلت بالأنظمة القائمة ومؤسساتها، أو بقوى معارضة في استغلال هذا التطلع والتحرك الشعبي، واستغلاله والعمل على حرفه في اتجاهات لا تخدم قوى التغيير ولا تخدم الأوطان، ولا تخدم المستقبل.ولقد نجحت هذه في الوصول الى أغراضها.
ومما يلفت أنه في كل الكتاب لم يأت على ذكر سوريا وما يحدث فيها إلا لماما، إذ ذكر بأنه ضد “فكرة التوريث”، فيكفي البلد ثلاثين عاما من حكم الأب حتى يأتي الابن ليتابع الحكم دونما حق. كذلك ذكر أن التآمر واسع على سوريا يستهدف تعطيل دورها الإقليمي والعروبي، وتخريب بنيها الوطنية.
وفيما عرضه السناوي فإن هيكل الحساس لموقف الجماهير والشباب واحتياجاته على تلك الدموية التي واجه بها النظام السوري الحراك الثوري الذي انطلق من درعا في 18 / 3 / 2011 في تجاوب فذ مع رياح الربيع العربي. وكان هذا الغياب لهيكل مما يلفت النظر، ولعل المدقق بحالة هيكل الصحية، واهتماماته بالحدث المصري في هذا الوقت بالذات، وكان حدثا متسارعا ومرهقا، وتشابك الحدث السوري والمصري من خلال دور الاخوان المسلمين، وأدائهم في الحدث المصري. ويمكن أن نضيف الى ذلك أن مصادر هيكل في التعرف الى مسار الحراك الثوري في سوريا اقتصر ـ على ما يبدو ـ على مصدرين اثنين، أحدهما المصدر الخارجي الغربي الذي تابعه من لندن وما تكشف فيه من أوجه تآمر غربية عديدة على سوريا، وقد كانت هذه المصادر قد كشفت من قبل حجم التآمر الغربي/ الأطلسي على ليبيا وهو تآمر وصل الى حد الغزو، والمصدر الثاني مصدر عربي رسمي عبر الجامعة العربية وعلاقاته بأمينها بالكثيرين من المسؤولين فيها، وهذه المصادر أمدته بلا شك بتحركات وخطط النظام العربي ممثلا بدول الخليج ضد سوريا، وهو يعلم تماما موقف هذه الدول التاريخي ضد الوجود الحيوي لسوريا باعتبارها قلب العروبة النابض.
وهنا لا بد أن نذكر التقصير الكبير لقوى الحراك الثوري السوري في التواصل مع هيكل وتوضح ما يجري في سوريا له، ولعل طرفي الحراك السوري الثوري الداخلي ممثلا بهيئة التنسيق والخارجي ممثلا بالائتلاف الوطني قد ارتكبا خطيئة عدم التواصل مع هيكل ـ ومع آخرين ـ لتوضح تطورات الوضع في سوريا وحجم الجرائم غير المسبوقة وغير المبررة التي يرتكبها النظام السوري لكسر إرادة هذا الشعب “الدم، في الشوارع والسجون، والتدمير، والتهجير، والتفتيت الطائفي”.
لكن رغم ذلك فإن هذه الظروف لا تعفي ” هيكل” من المسؤولية في معرفة حقيقة ما يجري في سوريا، فالرجل ليس ككل رجل، ومسؤوليته تتعدى كل الحواجز، وهو يحمل على عاتقيه بجدارة مرحلة من أخطر وأهم مراحل الأمة في هذا العصر، ويستطلع برؤيته الثاقبة مسار هذه الأمة من التاريخ البعيد الى المستقبل المضطرب، لذلك فإن التماس العذر له، لا يخفف من مسؤوليته.
وقد كنت ممن استشعر أهمية وخطورة ألا يكون للأستاذ موقفا واضحا حاسما مما يجري في سوريا، لذلك وجهت له رسالة نشرتها في حينها عبر مواقع على الشبكة العنكبوتية، وطلبت من أخوة لهم صلة مباشرة به أن يوصلها إليه، وقد أعلمت أنها وصلت.
“أحاديث برقاش” يصطف إلى جانب “أخيل جريحا”، ليكون جزءا حقيقيا من صورة رجل استثنائي بكل معنى الكلمة، أعطى لأمته عطاء استثنائيا يصلح أن يكون تأريخا للأمة، ومدرسة للأجيال في العمل الصحفي والسياسي على السواء، وكذلك في قواعد وأسس التميز الذاتي والمهني وأدواته.
30 / 3 / 2022
نسخة من الرسالة الموجه للأستاذ محمد حسنين هيكل بتاريخ 3 / 5 / 2014
بسم الله الرحمن الرحيم
أستاذنا محمد حسنين هيكل …. كأنك لم تعد أنت
د. مخلص الصيادي
نعم أستاذنا، نون الجماعة هذه تعود علي، وعلى جيلي الذي شكلت كتاباتك ومقالاتك حيزا كبيرا من تكوينه الفكري والثقافي، ومن رؤيته ومواقفه السياسية ازاء مختلف الأحداث والوقائع التي تشهدها أمتنا.
أقول هذا دون أن أغفل أننا لم نكن متفقون حول كل ما قدمت، لكن الحديث هنا يُعنى بالأعم والأغلب، ومعظم الاختلاف في هذه الحدود طبيعي وصحي، لأن الاتفاق في أصول النظرة وفي قواعد التحليل لا يعني أبدا الاتفاق في كل الخلاصات والنتائج.
وعلى مدى تاريخك في العطاء، وتاريخي في التعاطي مع الشأن العام السياسي والثقافي لم أجد نفسي أقف في موقف النقيض معك إلا مرة واحدة، ثم جاء حديثك وموقفك مما يجري في سوريا ليشكل المرة الثانية.
أول الخلافات الجوهرية
وأول خلاف جوهري معك كان من موقفك ودورك ورؤيتك فيما قام به الرئيس المصري السابق أنور السادات وما عرف بحركة “الخامس عشر من مايو”.
يومها رأيت أنت، وعملت على تعميم هذه الرؤية في كل ما كتبت، أن ” مجموعة مايو” كانت تصارع على السلطة، وكانت تشكل خطرا على مسار عبد الناصر وثورته ـ الذي رحل ولم يستكمل مهمته الرئيسية المتمثلة ب”إزالة آثار العدوان” ـ، وخطرا على مصر وهي تتحضر لاستكمال هذه المرحلة، وانجاز هذه المهمة، وأن تلك المجموعة كانت تغامر فيما تقوم به، وأن نوعا من الهرطقة والغيبية كانت تسيطر عليها، وتوجهها، فهي تحضر الأرواح، وتستدعي الجان …. الخ، وقد رأيتَ في السادات الخلف الشرعي والموضوعي والأمين على مسيرة عبد الناصر.
ولم يكن موقفك هذا مجرد موقف لرجل سياسي، أو صحفي له مكانة استثنائية، وإنما كان موقف رجل سلطة، يخطط، ويتصل بمراكز القوة والعمل، ويرتب مع هذا وذاك مواقفهم، ويهيئ مسرح العمليات بما يضمن نجاح الخطوة التي يزمع أن يقوم بها أنور السادات.
أبدا لم تر في السادات نقيضا لعبد الناصر، نقيضا في المشروع والتوجه والالتزام، وحين اكتشفت بعض ذلك، وقررت أن تنأى بنفسك عنه وعن مشروعه وخياراته المدمرة، كان الركب قد مضى إلى مآله، ولم يعد لموقفك أن يغير شيئا مما تم أو حتى يعدله، كان هذا الطريق الجديد الذي اختطه السادات قد استنبت القوى الاجتماعية والسياسية الخاصة به، واستخرج بعضها من السجون، وكان قد أنجز الكثير من عمليات الهدم المستهدفة لمشروع جمال عبد الناصر، وكان قد استثمر في توجهه هذا قدسية دم شهداء حرب أكتوبر، وشغف الأمة في الخروج من ذل هزيمة يونيو.
ولقد كانت شجاعة منك أن تقف أمام السادات ومسيرته لتقول: هنا نختلف، وهنا نفترق، وفي المرحلة التالية لخروجك من البؤرة الساداتية، قدمت وعلى مدى فترة لامست الأربعة عقود أعظم ما قدمت في تاريخك، وقدمت أهم ما قُدم دفاعا عن مصر، وعن مشروع عبد الناصر الوطني والقومي، وقدمت أفضل ما قدم دفاعا عن فلسطين والقضية الفلسطينية، مقالات وكتبا وبرامج تلفزيونية كانت ذخيرة لنا ومرجعا على أعلى مستوى من التوثيق والرؤية المدققة، والقيم الأخلاقية والمهنية.
لقد عدت بما قدمت الى مكانتك في قلب وعقل هذا التيار، تيار ثورة جمال عبد الناصر، وكانت لك الصدارة في هذا المكان، لكن ذلك كله ـ على أهميته البالغة ـ لم يكن في مقدوره أن يصحح تلك الخطيئة، إذ كان خاطفو مصر قد ذهبوا بها بعيدا، وعطلوها، عطلوا دورها وفاعليتها وأثقلوها بالاتفاقات، وبنتائج سياسات النهب، والفساد، والتبعية السياسية، والاقتصادية.
ثاني الخلافات الجوهرية
كانت ثقتنا فيما تكتب، وفيما تستند إليه من “مخزن معلومات، ومصادر معلومات”، تكاد لا تتزعزع، حتى حين نشعر أنك تهمل فيما تكتب تفاصيل مؤثرة، كنا نعتبر ذلك من قبيل اختلاف زاوية النظر، واختلاف مقدار البعد عن بؤرة الحدث، فالأقرب يرى من التفاصيل ما لا يراه الأبعد، والأخير ينظُم رؤيته في إطار رصد لمؤثرات أوسع مدى، وأبعد تأثير.
ومع إطلاله الربيع العربي، كنا ننتظر ونتابع ما تقول عبر محطات التلفزة، وعهدنا فيك الدقة والتوثيق والتوظيف الموضوعي والفعال لما يتاح لك من معلومات، لكن الأمر لم ينتظم على هذا النحو، وظهر أكثر المواقف اختلالا، وتناقضا، حين بدأت التطرق للوضع في سوريا، وللثورة التي تفجرت منتصف مارس 2011 في هذا البلد، ومسيرة الصراع فيه.
ودون الدخول في رصد لكل المواقف، وكل التصريحات، فإن الطابع العام لموقفك كان التقدير الإيجابي للنظام السوري القائم، وكان القبول والتوافق مع النظام على أن ما يجري هو مجرد مؤامرة خارجية، وقوى إرهابية، يقوم هو بما امتلك من قوة وبما له من تحالفات بمواجهتها، والتصدي لها دفاعا عن سوريا الموحدة ودورها التاريخي.
وجاءت آخر هذه التصريحات التي أدليت بها في اللقاء التلفزيوني الأخير مع فضائية “سي بي سي” المصرية لتجزم فيها أن الشعب السوري سوف يختار في انتخابات الرئاسة المعلن عنها بشار الأسد، وأن الأسد سوف ينجح لفترة رئاسة جديدة بنسبة معقولة جدا جدا، لأنه ليس أمامهم غيره، ولأن السوريين لم يعد باستطاعتهم المغامرة بالمجهول، لذا فإن حق البقاء يبقى بالنسبة لهم مقدما دائماً على حق الاختيار، ولقد خلصت إلى هذه النتيجة بعد أن قررت وأنت تتحدث عن انتخابات الرئاسة في أقطار عربية عديدة أنها “استحقاقات ضرورات، وليست انتخابات بالمعنى الحرفي ” للكلمة”، في بلاد تواجه مخاطر الانزلاق إلى المجهول”.
ومن هذه الزاوية استوى عندك الوضع في الجزائر حيث ترشح الرئيس عبد العزيز بو تفليقة لولاية رابعة، مع الوضع في سوريا حيث ترشح بشار الأسد لولاية ثالثة.
ولستُ هنا في إطار كشف الفروق بين وضع البلدين: الجزائر وسوريا ـ وأنت أدرى بالفروق ـ، لكني أجد نفسي أقف موقف المصدوم الحائر والمتألم، أمام هذه الرؤية التي تقدمها للنظام في سوريا، وللمسألة السورية، ولقضية ترشح الأسد لرئاسة جديدة.
ويزيد من ألم هذا الموقف أنك تعيد الاستشهاد بالرواية المنقولة عن الرئيس السوري الأسبق، المواطن الأول شكري القوتلي رحمه الله بعد توقيعه اتفاقية الوحدة، حين قال لجمال عبد الناصر: ” أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس، لقد حصلت على شعب يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المئة من ناسه أنهم زعماء، و25% منهم أنهم أنبياء، وهناك عشرة في المئة على الأقل يعتقدون أنهم آلهة”.
الخطأ والخطيئة
والذي يراجع ما قلته بشأن سوريا يعتقد أنك تتحدث عن زمن يسبق 15 مارس 2011، ذلك أن أثر الأحداث التي تمر فيها سوريا منذ ذلك التاريخ لم يظهر فيما ذهبت إليه وقررته، بل على العكس جعلتك أكثر تفهما وقربا من النظام، وأكثر تقديرا لأهميته.
إن ثلاث سنوات وتزيد من الصراع الدامي جعلتك ترى أن بقاء الأسد بات أكثر حاجة من قبل، إذ صار “ضرورة حتى لا تنزلق البلاد الى المجهول”.
ولا أدري وأنا أمحص في هذه الرؤية، هل نتجت عن قصور في المعلومات، أم عن خلل في المصادر، أم عن تحول في الخيارات والالتزام.
والذي يزيد في حيرتي، وحيرة الكثيرين من جيلي أننا ونحن نتابع هذا الموقف نتذكر موقفك من التدخل السوفيتي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، ووقتها كانت مصر في أمس الحاجة للدعم السوفيتي، وكانت كل كلمة منك محسوبة على عبد الناصر ونظامه، ومع ذلك أبى عليك التزامك الأخلاقي والمهني إلا أن تعارض هذا التدخل، وتنتقده، لأنه جاء ضد إرادة الشعب وخياره في هذا البلد، ولأنه داس على كرامة هذا الشعب واستهتر بدماء أبنائه.
إننا نتساءل، كيف لرجل مثل محمد حسنين هيكل ألا يرصد أثر أكثر من مئة وخمسين ألف قتيل معظمهم من المدنيين سقطوا بفعل جرائم هذا النظام على مدى ثلاث سنوات، وألا يرصد أثر عدد مماثل من المدنيين باتوا مفقودين بعد خطفهم أو اعتقالهم وتغييبهم في أقبية التعذيب والهوان والقتل، وألا يرصد أثر أكثر من مئتي ألف مبنى سكني دمرته أسلحة النظام” القذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة …. الخ”، وألا يرصد أثر أحد عشر مليون مهجر ونازح داخل سوريا وخارجها، خرجوا من ديارهم هربا بحياتهم البائسة من هذه الأسلحة، ومن هذا المستوى من الإجرام!
كيف لهذا الشعب الذي فُعلت فيه كل هذه الجرائم أن ينظر للفاعل “أشخاصا ونظاما” أنه خشبة الخلاص، وأنه رئيس الضرورة، وأنه الربان الذي سيخرج سوريا مما هي فيه، ويحافظ على الوطن موحدا!
ثم ألم يخطر في بالك وأنت تتحدث عن الشعب السوري أن هؤلاء المهجرين والمفجوعين والمفقودين والمطاردين يمثلون ـ وفق أي إحصاء معتمد ـ أكثر من ثلثي الشعب السوري، وإذا اضيف لهم أولئك الموجودون خارج سلطة النظام يصبح من قبيل السخرية الحديث عن الانتخابات أو عمن سيذهب لينتخب الأسد أو غير الأسد، وعن النسبة المعقولة جدا التي سيحصل عليها!
لا يملك الشعب السوري القدرة على ممارسة حق الانتخاب حتى نتحدث عمن سيقع عليه خياره، ولا يتصور عاقل أن يختار هؤلاء المهجرون والمفجوعون والمشردون واللاجئون المتسبب في مصيبتهم رئيسا لهم.
يجب أن نتنبه إلى أن الدعوة للانتخابات بكل أركانها وإجراءاتها تبدو خارج المعقول، ويبدو أن إقدام نظام الأسد على المضي في انتخابات الرئاسة، مظهر جديد من مظاهر الانفصام عن الواقع الذي يغرق به النظام نفسه والوطن، ومظهر من مظاهر رفضه الاعتراف بوجود مشكلة حقيقية في سوريا، مشكلة تحتاج الى طريقة مختلفة في علاجها.
حقيقة الوضع في سوريا
حتى منتصف مارس 2011 كان النظام السوري يوصف بأنه نظام استبدادي فاسد وتمييزي، وكان تطلع الشعب السوري لتغييره تطلعا مشروعا من مختلف الزوايا، كانت الحاجة إلى تغييره حاجة داخلية، تنبع من حق الشعب في أن يعيش حياة طبيعية، إنسانية تتوفر فيها الكرامة، وتتوفر فيها الحياة السياسية الآمنة بدون زعامة تنافس الآلهة وتنتسب إليها، بدون حاجة الى مرجع يحميه من شطط الأمن وتغوله، وبدون أن يكون مضطرا لمشاركة أحد من عتاة السلطة ليحصل على ما يحق له أن يحصل عليه من فرص عمل.
وفي إطار هذا التوصيف كان الشعب السوري وقواه السياسية على استعداد للصبر، وعلى استعداد للمساومة، وعلى استعداد لتأجيل جانب من تطلعاته آخذا في الاعتبار الأولويات الوطنية والقومية التي تفرض نفسها بحكم ظروف كثيرة، لا تغيب عن المراقب، فعل الشعب وقواه السياسية هذا من أجل العراق قبل وبعد احتلال هذا البلد، وفعل هذا من أجل فلسطين، وفعل هذا من أجل المقاومة في لبنان.
إن هذا الشعب بسياسييه، وقادته، وأنصاف آلهته، كان هذا موقفه، حتى أن الجماعات التي تحتفظ بتاريخ صراع دام مع النظام، انضمت إلى هذا الموقف عقب العدوان على غزة “عناقيد الغضب”، وأعلنت تجميد صراعها مع النظام من أجل فلسطين.
هذه هي حيوية الشعب السوري، وعمق انتمائه لأمته، وانحيازه الدائم والأصيل لأولوياتها، حتى على حساب أولوياته الداخلية واحتياجاته للحياة الكريمة.
إن ما قاله الرئيس الراحل شكري القوتلي لم يكن من قبيل “كشف عورة في هذا الشعب”، وإنما من قبيل توضيح مدى حيوية هذا الشعب واستعداده للبذل فيما يعتقد أنه الحق والصواب، هذه الحيوية هي التي ربطت الشعب السوري بجمال عبد الناصر، وربطت جمال عبد الناصر به، وهي التي جعلت صفة هذا الشعب بأنه شعب وحدوي قومي بالفطرة، لا يجرؤ حتى العملاء فيه أن يكشفوا عن عدائهم لهذا التوجه.
هذه الحيوية وصدق الالتزام هي التي جعلت الشعب حين وقعت جريمة الانفصال في 28 ايلول 1961 يختزل كل الانتماءات، وكل التقسيمات، وكل الصراعات، بالموقف من الوحدة، فصار تمييز الناس والقوى السياسية يقع بين وحدوي وانفصالي، وليس هناك تمييز آخر، الوحدوي هو التقدمي، وهو الثوري، وهو الإسلامي، وهو…، والانفصالي هو الرجعي، وهو المتخلف، وهو عدو الله، وهو … الخ.
هذا الشعب بهذه الحيوية والأصالة، تحرك في منتصف مارس 2011 يريد إصلاحا، يريد أن يتحرك بالنظام نفسه الى أفق يحقق في زمن محدد الحياة الحرة الكريمة التي يتطلع اليها.
وبقي هذا الشعب لنحو ستة شهور هذا هو توجهه، وكانت ميادين وساحات المدن والبلدات السورية شاهدة على ذلك، كان رفع المتظاهرين لعلم الجمهورية العربية السورية شاهد على ذلك، وكانت أسماء الجُمع التي تمثل محطات في الحراك الشعبي شاهدة على ذلك،
إذا كنتَ أو كان أحد يريد أن يتعرف على حقيقة ما أشرتُ اليه أو قررتُه، دون كثير بحث، فليرجع الى ما سجلته الأديبة “سمر يزبك” في كتابها ” تقاطع نيران”.
وهو كتاب وصفت فيه يوميات الشهور الأربعة الأولى من الثورة، وهي شهور شاركت هذه السيدة في حراكها قبل أن يضطرها خوفها على ابنتها الوحيدة الصبية على مغادرة سوريا، وهي ترصد فيه ما كان يجري من قمع وقتل وتعذيب، ومن تهييج طائفي من غير سبب حقيقي، وفي مواجهة حراك شعبي سلمي، وتشير في كتابها إلى أنها تنتمي إلى الطائفة العلوية، وكأنها بذلك تريد أن تقدم دليلا إضافيا على صدقية وحيادية ما تسجل.
لكن النظام واجه كل ذلك بما لم يكن يتوقعه عاقل، واستمر في هذا السبيل دون أي مراجعة، بل استمر يوغل في طريق القتل والدمار، ويجر معه سوريا كلها إلى موضع قد لا يبقى بعدها لسوريا التي نعرفها وجود، تماما كما هي الحالة التي آل إليها العراق بعد الاحتلال.
القتل بدون حساب أحد السبل التي اتبعها النظام، حتى أنه في الأشهر التي سبقت تحول المعارضة إلى الدفاع عن النفس بالسلاح، وبدء انشقاقات عناصر الجيش التي رفضت أوامر قتل المدنيين، وصل عدد القتلى المدنيين إلى خمسة آلاف قتيل، وعشرات الآلاف من المعتقلين والمفقودين، ثم استمر هذا الأمر بتصاعد مرعب حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن.
وأضيفَ الى ذلك استخدامٌ مروعٌ لكل أنواع الأسلحة دون استثناء، أسلحة لم نسمع أنها استخدمت في أي حرب سابقة، واستخدمت هذه الأسلحة بطريقة غير معهودة، ومحرمة دولية.
لم يكن القصف عشوائيا، وإنما صار قصف المدنيين وبيوتهم جزءاً من عملية معتمدة في إطار مخطط الأرض المحروقة، وفي إطار رغبة في تحميل المجتمع بكل مكوناته مسؤولية رفضه لهذا النظام، أو احتضانه لقوى الحراك الثوري، أو حتى سكوته عن تواجدها في أوساطه، بغض النظر عما إذا كان هذا السكوت تعبيرا عن تعاطف أو قبول أو سكوت رضوخ وخشية.
صار العقاب الجماعي سمة لسلوك النظام تجاه هذا الشعب، وهو ما خلف هذا الكم الهائل من الدمار.
ولم يقتصر الأمر على ما سبق وإنما امتاز نظام الأسد في هذه المرحلة بثلاث مزايا إضافية كافية لتجعله خارج أي تصور ممكن لسوريا الغد:
** فقد كشف عن وجهه الطائفي بدون ساتر، واستدعى القوى الطائفية الى داخل الصراع في سوريا، وأصبحنا نجد هذه القوى بشعاراتها وراياتها الطائفية قادمة الى الساحة السورية، من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان والبحرين، ومن كل مكان بدعوى الدفاع عن الأماكن المقدسة في سوريا.
وظهر أن ما كنا نعتبره سلوكا تمييزيا في النظام لم يكن غير سلوك طائفي يغطيه ببعض القشور من الشعارات والتحالفات، إن الشحن الطائفي في سوريا بلغ مداه، واستطاع النظام أن يستنبت على أرض سورية المعروفة بالوطنية والقومية قوى طائفية مضادة، بات لها صولة وجولة، وصارت هذه وقيمها المعادل الموضوعي لطائفيته، وسلط عليها الضوء ليغطي بها على طائفيته.
** وتعامل منذ اللحظة الأولى من مسيرة الحراك الثوري مع هذا الحراك بأسلوب العصابات وليس بأسلوب الدولة، إذ أطلق شبيحته لتمارس القتل والاعتقال والتعذيب، وهذه الجماعات بعضها أخرج من السجون، وبعضها الآخر كان من قبل الحراك الثوري يمارس البلطجة في المدن الرئيسية ومنافذ الدولة، ويتاجر بكل أنواع الممنوعات والمهربات تحت سقف الانتماء الطائفي أو التغطية الطائفية.
وبدأ هؤلاء جميعا يقومون بالجرائم والأفعال التي لا تقبل قوى النظام الطبيعية الممثلة بأجهزة الأمن القيام بها نهارا جهارا. فتفوق هؤلاء بعلنية جرائمهم على العصابات السوداء التي أطلقتها ضد المعارضة أنظمة الحكم الديكتاتورية في تشيلي وعدد من دول امريكا اللاتينية في النصف الثاني من القرن المنصرم، والتي كانت تقوم بجرائمها سرا وتحت جنح الليل.
إن السلطة التي تملك كل أجهزة الدولة، والتي من المفترض أن يحكمها القانون، وأن تحتكم إلى القانون وهي تواجه مختلف الظروف، اصطنعت لنفسها عصابات وأطلقت يد هذه لمواجهة حركة الشارع دون ضابط من قانون أو قيم أو سلطة واضحة.
** وارتكب النظام جريمة لا تقل عما سبق حين زج بالجيش العربي السوري في أوار هذا الصراع، وعهد إليه بالتصدي لهذا الحراك الشعبي، وبالقيام بعمليات القصف والقتل والتدمير.
إن ما فعلته سلطة الأسد هنا أنها أخرجت الجيش من عقيدة حماية الوطن والدفاع عنه، وفي هذه العقيدة فإن الوطن وعاء والشعب مادته، أي أن الدفاع عن الشعب يكون المعنى الآخر للدفاع عن الوطن، ويكون الدفاع عن خيارات الشعب، الوجه الآخر لحماية الوطن.
إن إخراج الجيش من هذه العقيدة ـ وهي عقيدة كل جيوش العالم ـ إلى عقيدة حماية السلطة والدفاع عنها، جريمة دونها الكثير من الجرائم، جريمة تجعل الجيش في مواجهة الشعب، وفي مواجهة الحق الطبيعي للشعب في تغيير السلطة القائمة، وفي محاسبتها، وفي القصاص منها.
إن ما فعله النظام هنا أنه وحد بين السلطة السياسية وبالتالي رأس السلطة وبين الوطن، وصار الانتماء الوطني يعني الانتماء إلى السلطة ورأسها، وأصبحت حماية هذه السلطة وهذا الرأس هو جوهر عقيدة الجيش وأجهزة الدولة المختلفة، وعبرت الشعارات المرفوعة من قبل جماعات النظام عن هذا المفهوم بدقة حينما كتبت “الأسد أو حرق البلد”.
لقد قتل في هذا الصراع الدامي حتى الآن عشرات الآلاف من أبناء الجيش السوري وهؤلاء جميعا معلقة دماؤهم برقبة النظام ورئيسه الذي دفع جيشنا إلى غير مكانه، وذهب يعبث بعقيدته ومهمته الأساسية.
حديث عن المخاوف
لا يغيب عنا ونحن نتحدث عن النظام والموقف منه أن نتحدث عن مخاوف القوى المختلفة مما يجري في سوريا ـ مخاوف حقيقية أو مزعومة ـ ولكل جهة أو دولة أو قوة رؤيتها لما يجري وبالتالي مخاوفها.
وإذا كنا نتحدث مع أستاذنا “محمد حسنين هيكل” ومع التيار الذي ينتمي وننتمي إليه، فإننا نكتفي بالوقوف على وجهين من هذه المخاوف التي كثر الحديث عنها، لندقق فيها، ونمحص في عوامل وجودها، وصلة النظام والمعارضة بها.
الوجه الأول: القوى المنعوتة بالإرهابية
وهذه القوى متجسدة في سوريا الآن بجماعتين رئيسيتين: النصرة، وداعش، ودعني أعمم في العرض فأقول إنها القوى المنتمية “لفكر القاعدة”، أيا ما كانت تسميتها، أو الرايات التي ترفعها.
ولا شك أننا نحن العروبيين، نقف من هذه القوى ـ في الصراع السوري ـ موقف المعارضة الحاسمة لأسباب رئيسية ثلاثة:
السبب الأول:
أنها تقيم الصراع في سوريا على قاعدة الكفر والإيمان، وهذه قاعدة غير صحيحة، لأنها قاعدة غير إسلامية أصلا، ثم إنها لا تعبر ولا تتصل بأهداف الثورة السورية.
نحن لا نصارع النظام السوري لأنه كافر، ولا نطلق مثل هذه الأحكام، ولكن نصارعه لأنه ظالم مستبد طائفي ثم قاتل.
ونحن لا ننظر إلى المجتمع السوري، أو بعض مكوناته الدينية ،أو المذهبية، أو العرقية، بأنه مجتمع جاهلي، وإنما هو في طابعه العام مجتمع عربي مسلم، مهما ظهر فيه، أو في سلطته من انحرافات أو تجاوزات. ونحن نعتقد أن كل الخلافات الداخلية أو الصراعات بين مكونات المجتمع الوطني تحل بالعمل الديموقراطي السلمي، وحتى إذا دفع سلوك النظام إلى غير هذه الطريقة، فإن هذا يكون استثناء، يجب تجاوزه بسرعة، ولا يبنى عليه مستقبل.
السبب الثاني:
أنها تقف موقف المعارض بدون حدود لفكرة خضوع السلطة لإرادة الشعب، وبالتالي تداول السلطة، وآليات العمل الديموقراطي، وتعطي نفسها، ومرجعياتها صفة القدسية، لتصبح هي المجسدة للإسلام، وهي الناطقة بلسان الحق. أي أنها تعتبر نفسها المرجع في كل شيء، وعلى الآخرين الخضوع لما ترى، والآخرون هنا تعني كل ما عداها، بما في ذلك التنظيمات أو المراجع التي تأخذ بفكرها نفسه لكنها لا تتبع قيادتها ولا تنتظم في هيكلها.
في هذا المستوى من العرض والحوار، نحن لا نقف من هذه التنظيمات موقف الرفض والمعارضة لأنها تدعو إلى الخلافة الاسلامية ـ فهذا حقها ـ ولا نقف منها موقف الرفض والمعارضة لأنها تريد أن تجعل الشريعة الاسلامية مرجعيتها، ـ فقد يتفق كثير منا أو يختلف معها في هذا الموقف ـ ، وإنما أساس معارضتنا لها أنها لا تقيم اعتبارا لرأي الناس وقبولهم، ولحقهم في اختيار ما يرونه مناسبا لهم ولمجتمعهم وللعصر الذي يعيشون فيه.
ولو أن هؤلاء تحولوا عن هذا الموقف لكان وجودهم في المجتمع طبيعي، وقد يكون ضروري، والخلاف معهم ـ خلاف الناس وخلاف الأحزاب ـ إنما يتم التعامل معه في إطار الحوار، والإقناع، والعمل الديموقراطي.
ثالثها:
أنها تستسهل إراقة الدم الوطني المسلم وغير المسلم، حتى دم المنتمين إلى هذا التيار، وحتى المنتمين إلى الجماعة نفسها، تارة بدعوى أن من يخالفها فإنه يخالف الأمير صاحب القول الفصل، وتارة بفتوى “التترس” التي أباحت لهم المضي على أوسع نطاق في العمليات التفجيرية ” التي يدعوها الإعلام بالعمليات الارهابية”.
إن هذا الموقف من حياة الانسان ودمه، يعارض معارضة تامة موقف أصيل للدعوة الإسلامية يعلي من شأن حياة الانسان، ودمه، وعرضه وماله، ولا يبيح ذلك إلا في حالات محددة تتصل بالصراع مع العدو الخارجي، وتتصل بالعدوان على أرض الوطن.
وهذا الموقف من استسهال إراقة الدماء كان في بعض أوجهه سمة من سمات الخوارج وأمثالهم، الذين لم يخلفوا في حياة المسلمين وتاريخهم إلا صفحات الدم الحمراء، وإلا إهدار الكثير من طاقات المجتمع، وإهدار الكثير من فرص تقدم المجتمع الإسلامي ونموه.
إن وجود هذه القوى في صفوف المعارضة السورية المقاتلة يمثل أحد دواعي التخوف التي قد تبديها أطراف وطنية وقومية وإقليمية ودولية، وهذا تخوف متوقع وإن اختلفت دوافعه، لكن حينما يذهب الطرح في مواجهة هذا التخوف إلى القول بإن بقاء النظام هو الخيار الأفضل، أو أن هذا النظام هو الضامن لعدم وقوع سوريا فريسة هذه التنظيمات، يصبح من الضروري التوقف عند العوامل التي أدت الى وجود هذه الجماعات في سوريا.
عوامل وجود الجماعات المتطرفة في سوريا
وللذين يتخوفون من هذه الجماعات، عليهم ان ينتبهوا إلى الحبل السري بينها وبين النظام وهو حبل قد لا يستطيع الكثير رصده، ولهذا الحبل قصة لابد من روايتها قصة فيها أوجه تشابه مع ذلك الحبل السري الذي كان يربط القاعدة وزعيمها الراحل بالمملكة العربية السعودية، وأجهزتها، ومراكز القرار فيها.
إن النواة المؤسسة لهذه الجماعات لم تكن بعيدة عن النظام السوري وأجهزته، كان يعرفها جيدا، وتعرفه جيدا، كان التعامل بينهما على قدم وساق، وكان العراق ميدان هذا التعامل.
عبر سوريا مرت قوافل هؤلاء إلى العراق لمواجهة الاحتلال الأمريكي، مرت بمعرفة ورعاية أجهزة الأمن السورية، وكان النظام السوري يعتقد ـ وهو محق بهذا الاعتقاد ـ أن من شأن تقوية المواجهة مع الاحتلال أن تتعطل قدرته على التحول إلى سوريا كهدف ثان له، وبالتالي فقد رعت أجهزة الأمن السورية هذه الجماعات التي استطاعت بما قامت به، مع قوى الجهاد العراقية أن تشغل المحتل الأمريكي، وأن تحمي سوريا من المخطط الأمريكي للانقضاض عليها، كانت سوريا في هذه المرحلة معبرا لهذه الجماعات، وكانت قاعدة إسناد خلفية، وكانت مركزا تأوي إليه، إذا اشتد الضغط عليها في العراق، وتخزن فيه أسلحتها، وتدرب فيه عناصرها، وتعالج فيه جرحاها، وكان هذا كله يتم تحت عين وبصر ورعاية الأمن السوري.
وبعد أن انكشف عجز واشنطن عن الاستمرار في العراق، واختارت أن تجعله يستقر طائفيا تحت ظل إيران، وبدأت تضغط على سوريا من أجل وقف تدفق هذه الجماعات، رضخ النظام جزئيا، وقام بحملة اعتقالات للكثير من عناصر هذه الجماعات، ووضعهم في السجون، ويسر خروج غير السوريين من سوريا.
لكن سنوات الجهاد في العراق التي امتدت بضع سنين، مكنت هذه الجماعات من معرفة الجغرافيا السورية، والبنية السياسية والاجتماعية للمجتمع السوري، بكل تفاصيله، ومكنتها من أن تقيم معه وفيه بيئة حاضنة وخلايا نائمة.
وحين بدأ النظام السوري المواجهة الدامية مع الحراك الشعبي، وحين لم تُجدِ محاولاته المستمرة ـ لأشهر عدة ـ في تحويل هذا الحراك عن منهجه السلمي إلى التسلح، أطلق العنان لهذه الجماعات، أخرج قادتها ونواتها من السجون، وغض الطرف عن توافد أنصارها من الخارج، وحرضها لتكون هي النموذج في إدارة الصراع، والنموذج في فاعلية الإنجاز والمواجهة، ولتعجل في عملية عسكرة الحراك الثوري، وتشجيع العسكريين السوريين المنشقين عن الجيش على التحول من حماية التظاهرات إلى تكوين وحدات عسكرية، تصبح لها احتياجاتها، وبالتالي ارتباطاتها الخارجية الحتمية. وتقدم في نهاية المطاف لمنطق النظام ودعايته شاهد صدق على أنه يواجه حركات ارهابية.
نحن لا نذهب إلى القول بأن هذه الجماعات صناعة النظام، كما لم نذهب في السابق إلى القول بأن مجاهدي افغانستان صناعة واشنطن، رغم أن “حي على الجهاد الأفغانية صدرت أولا من مركز القرار بالولايات المتحدة”، ولكننا نذهب إلى اعتبار العلاقة بين الطرفين علاقة اعتماد متبادل في مرحلة معينة، ونفترض ـ وهذا طبيعي ـ أن النظام السوري حقق اختراقات في هذه الجماعات عملت على أن يكون سلوكها لاحقا خادما لاستهدافات النظام ومنطقه، ولمن يتخوف من الإرهاب وقواه أن يعرف الأصل والفرع، وأن يتبين الفاعل والمنفعل، وأن يدرك نظرية الاعتماد المتبادل بين أطراف قد ينظر إليها على أنها متضادة.
الوجه الثاني: الارتباط مع الخارج
ومما يثير المخاوف من المعارضة قضية الارتباط بالخارج، الخارج العربي والإقليمي والخارج الدولي، ومثل هذا التخوف ذو مكانة خاصة عند التيار القومي باعتباره تيار قائم على فكرة الاستقلالية، والمشروع الحضاري للأمة.
وواضح أمامنا مدى ارتباط المعارضة الخارجية والمسلحة بالقوى الخارجية، تسليحا وتمويلا وتدريبا، ولا يخفى على أحد أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة يقوم بهذه المهمة، وهم يعلنون عنها، ويحددون أعداد من يقومون بتدريبهم، ومواقع التدريب، والدول العربية المعتمدة لهذه المهمة.
وقضية التسليح ونوعياتها لا تخفى، وليست بحاجة إلى إثبات، فالحديث عنها يتم بوضوح وبشكل علني في مراكز القرار الغربية، تشريعية كانت أم تنفيذية، كما لا يخفى على أحد أن القيادة السياسية للمعارضة المعترف بها دوليا “قيادة الائتلاف” تطالب وتلح بطلب التسلح النوعي.
لكن ونحن نطل على هذا التخوف المحق لابد أن ننتبه إلى عوامل عدة:
1ـ أن هذا الارتباط واحد من نتائج تحول الحراك الثوري إلى مرحلة المقاومة المسلحة، أي إلى العسكرة، وهو تحول عمل له النظام السوري من خلال استراتيجيته في العنف، وفي استنباته الجماعات المتشددة ونجح في تحقيقه، وكذلك من خلال ملاحقته لقادة دعاة الحل السياسي والنشاط السلمي الذين تختلف انتماءاتهم الحزبية والجبهوية، لكن يجتمعون في حقيقة بقائهم داخل الوطن، وقد قتل بعضهم، ومن أمثلة من قتل الشهيد الطبيب عدنان وهبي والشهيد القائد الشعبي محمد سعيد فليطاني، وسجن وخطف بعضهم حتى أن أحدا لا يعلم مصير هؤلاء القادة المخطوفين أحياء هم أم باتوا في عداد الشهداء، ومن أمثلة هؤلاء عبد العزيز الخير، ورجاء الناصر، وكثير من قادة الحراك الشعبي ـ غير ما ذكرنا ـ بات بين شهيد ومفقود.
2ـ أن النظام السوري نظام فقد الإرادة المستقلة منذ أن رهن وجوده بهذا النوع من الدعم البشري والعسكري والمالي الذي توفره إيران وقواها المحلية، وتظلله روسيا بمواقفها المشهودة، وبالتالي فإن تبعية النظام وافتقاده للإرادة المستقلة، ليست بأقل من تبعية المعارضة الخارجية وأطراف من القوى المسلحة، وتمتاز المعارضة رغم كل ما فيها من عوار بأنها تدفع ظلما وتدافع عن حق، فيما النظام يتمسك بوجود باطل، وبشرعية زائفة، ويرتكب من أجل هذا الهدف كل الجرائم.
3ـ أن بروز الطائفية كمعلم رئيسي من معالم الصراع في سوريا، وكنهج معتمد من النظام وحلفائه، ومن ثم من القوى الطائفية المقابلة التي استنبتها، يعمل على إنهاء فكرة الإرادة المستقلة والقرار الوطني المستقل.
إذ أن مادة هذه الإرادة وهذا القرار المتمثلة بالشعب الموحد، وبالوطنية الجامعة قد جرى تفتيتها، وتحويلها إلى مسارات تقسم الشعب وتخرب وطنيته.
هذه العوامل الثلاثة تجعل النظر إلى النظام كحافظ لاستقلال الإرادة الوطنية نظر كليل، لا مسوغ للبحث فيه، ولا لمناقشته.
إن الحفاظ على الإرادة الوطنية المستقلة، وهو واحد من معاني الوجود الوطني السوري، إنما يحتاج إلى وحدة موقف يصنعها حل سياسي جامع، تلتقي عليه كل القوى السياسية السورية، يعيد وحدة الشعب، ووحدة الوطن، ويستعيد للجيش الوطني عقيدته الصحيحة، بدايته التخلص من هذه القيادة السياسية المدمرة، وقاعدته إعادة السلطة ومؤسسات الدولة إلى الشعب وإرادته الحرة، وملاطه عدالة انتقالية ناجزة تطمئن كل ذي حق بالوصول إلى حقه.
وقبل أن أختم هذا العرض لابد أن أشير إلى أنني وأنا أبسط الوضع في سوريا وصراعاته، لم أتوقف متعمدا بالتفصيل عند موقف حزب الله اللبناني من هذا الصراع ودوره فيه، لاعتقادي أن لهذا التفصيل مكانه وزمانه، لكن لا يفوتني أن أسجل هنا أن فلسطين رفعت هذا الحزب وقيادته إلى مرتبة لم يصلها قبله إلا جمال عبد الناصر، وأن السلوك الطائفي لهذا الحزب وقيادته ازاء الصراع في سوريا هوى بهذا الحزب وقيادته إلى أعماق سحيقة، ما كان يجب أن يهوي إليها.
كذلك أظن أن الحديث عن إيران وروسيا ولهما الدور الذي لا يخفى في سوريا، مما يجد اهتماما خاصا لديك، وتعمل عل التدقيق فيه، لأنه حديث يتصل بالحقائق الجيوسياسية، وبالتطلع المستقبلي لأمتنا، وقد أغفلت هذا الجانب متعمدا لاعتقادي أن هذا ليس مكانه، وأيضا ليس زمانه.
استاذنا محمد حسنين هيكل ……
ما كنت أرغب أن أكتب إليك هذه الرسالة، وقد تهيبتها طويلا، فإنك عندي وعند جيلي في مكان عزيز، لكن دم هذا الشعب السوري، وحقه، وتاريخه، ومستقبله، عندي أعز وأعظم، ويقيني أن ليس في هذا ما يضيرك أو ما تتأذى منه، وأنت ونحن نشترك في إيمان راسخ بأن الحق أحق أن يتبع ….. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشارقة
3 / 5 / 2014
د. مخلص الصيادي