نبيل عبد الفتاح
إنّ نظرة على حالة الانقسامات البينية العربية والداخلية، وتفكك هذه المجتمعات وصراعاتها، أدت إلى هيمنة بعض دول الجوار العربي على أمنها ومساراتها، ومن ثَمَّ تحوّلت المنطقة لمجال حيوي لإيران وإسرائيل وتركيا، وقبلهما الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الداعمة والمساندة لإسرائيل تجاه المسألة الفلسطينية، ومحاولة تصفيتها عبر ضغط “حلّ الدولتين” الغامض، والاستيطان وتمزيق وحدة الأراضي الفلسطينية وتفريغها وحصارها من خلال أفكار غائمة تطرحها الولايات المتحدة والدول الغربية وآخرون، حول دولة منزوعة السلاح وممزقة الأوصال على بعض من الأراضي الفلسطينة المحتلة منذ 5 يونيو/حزيران 1967، على نحو ما طُرح في اتفاقية أوسلو، وخاصة في ظل بقاء بناء المستوطنات، وإقامة عاصمة للدولة الهشة المأمولة في منطقة أبو ديس، وليست القدس الشرقية المحتلة، وهو ما يشكل حال تنفيذها نهاية المسألة الفلسطينية.
الانسداد التاريخي العربي ومشروع بناء الدولة الفلسطينية
لا شك أنّ هذا الحل الغائم الذي تلوح به الولايات المتحدة ودول داخل الاتحاد الأوروبي، لا تقبل به الاتجاهات اليمينية المتطرفة داخل الأحزاب السياسية الإسرائيلية وبعضها في الحكومة الحالية الموسعة وحكومة الحرب المصغرة.
وقد ساعد التفكك العربي ومنظومته وتضامناته الغاربة على توظيف إيران السياسي للمسألة الفلسطينية، واحتلال إسرائيل الأراضي في الضفة عبر الاستيطان، وحصار قطاع غزّة كغطاء وقناع رمزي لتمددها في الإقليم، ودعم الجماعات السياسية المناصرة لها ولسياستها الإقليمية، بما فيها “حماس” و”الحوثيون” و”حزب الله” في لبنان وبعض الميليشيات في العراق، ووجودها العسكري في سوريا من خلال النظام الحاكم.
تعاملت المقاومة الفلسطينية مع إيران وتحالفت معها، في ظل إعطاء بعض الدول العربية ظهرها لخيار المقاومة، واتخاذ سياسة العداء مع جماعات الإسلام السياسي الأصولية والراديكالية، ومن ثَمَّ ترمي لتصفيتها سياسيًا وعسكريًا، كجزء من تغيّرات سياسات هذه الدول لا سيما النفطية بعد دعمها السابق لبعض هذه الجماعات في سوريا والعراق ومصر، ثم رفضها بعد عمليتها العسكرية في 11 سبتمبر 2001 في أمريكا، وبعد ذلك في بعض الدول الأوروبية كفرنسا وبلجيكا، ناهيك عن العمليات الإرهابية في بعض الدول العربية.
وظّفت دول الجوار الإقليمي العربي- إيران- عسكريًا، و-تركيا- سياسيًا وخطابيًا، وذلك كغطاء للتمدد في الإقليم العربي. ووظّفت من قبل “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في صراعاتهما السياسية مع قوى السلطة الفلسطينية الهشة التي تفتقر إلى الكفاءة والإنجاز منذ اتفاقية أوسلو (1 و2)، وفشلها في وقف الاستيطان والوصول عبر المفاوضات إلى إنهاء المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي، وإقامة الدولة المأمولة على مجمل الأراضي الفلسطينية التي احتلت بعد عدوان 1967، وعاصمتها القدس الشرقية المحتلة.
استطاعت حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” أن توظّفا الدعم الإيراني بالأسلحة والتدريب والتنظيم العسكري، ومراكمة خبراتها العسكرية والميدانية من خلال المواجهات العسكرية مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته تطوير بعض الأسلحة والأنظمة التسليحية وتوظيف الذكاء والرقمنة لدى بعض الشباب الفلسطيني النابه، على نحو ما ظهر في عملية “طوفان الأقصى”، بالإضافة لبنية تحتية من الأنفاق ومخزون تسليحي متراكم استعدادًا لها، والتي تم التخطيط والإعداد لها منذ عامين قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفق بعض التقديرات.
تمكنت “حماس” من توظيف قيم وتقاليد النظام الاجتماعي للعائلات الكبرى والأسر الممتدة في القطاع في دعم دور الدين كسند وأيديولوجية للمقاومة ودعمه للتعاضد والتضامنات الاجتماعية ودور العائلة والأُسر في بناء المكانة، ومن ثم استطاعت نشر خطابها الأيديولوجي والإسلامي، وتحوّلت إلى فكرة أيديولوجية مقاومة للاحتلال الاستيطاني، وجزءًا رئيسًا في تكوين ثقافة المقاومة لدى سكان القطاع.
في السياق ذاته أزاحت “حماس” تنظيم “فتح” وقامت بتهميش دوره ومعه بعض مكونات فصائل المنظمة في القطاع، وتمكنت من التمدد النسبي في الضفة الغربية، ونجحت في الحصول بانتخابات المجلس التشرعي عام 2006، على 76 مقعدًا من بين 132 مقعدًا، وبلغت نسبة المشاركة حوالى 77%.
وظّفت إسرائيل التناقضات والصراعات بين “حماس” والسلطة الفلسطينية لا سيما حركة “فتح” وذلك لإجهاض فكرة “حلّ الدولتين” وإعاقة الوصول لمسار سياسي وتفاوضي يؤدي إليها.
لا شك أنّ عمليات المقاومة والمواجهات المتعددة بين “حماس” و”الجهاد” وغيرهما مع الاحتلال ساهمت في تكريس ثقافة المقاومة لدى بعض السكان المدنيين في القطاع، إلا أنّ كل مواجهة عسكرية خلفت ضحايا من القتلى والجرحى والمنازل المهدمة والمباني العامة على نحو يتسم بالتلاحق دونما مراجعات في نمط السلطة المسيطرة على سكان القطاع.
في ذات السياق كان الاعتماد في إعادة بناء وترميم المنازل والأبنية العامة على الدعم والمساعدة من بعض الدول العربية التي يطرح بعضها الآن شروطًا على دعمهم لإعادة بناء القطاع في أعقاب اليوم التالي للحرب.
هذه السياسة أدت إلى زعزعة مفهوم البيت ومعناه ودلالاته في الثقافة الفلسطينية التقليدية وارتباط الأُسر والعائلات الممتدة دلالة عليها وعلى مكانتها الاجتماعية، وهو أمر ربما يكون مؤثرًا في أعقاب الحرب الحالية على القطاع.
من ناحية أخرى أدت بعض الممارسات القمعية للحركة إلى بعض الفجوات بينها وبين بعض ممن ينتمون للفصائل الأخرى وعلى رأسها “فتح” وبعض السكان ممن يرنون لبعض الحريات العامة والشخصية، من ثم يشكلون بعضًا من المعارضة النسبية والجزئية للسلطة الحمساوية، وهو ما قد يظهر بعد مآلات وقف إطلاق النار أيًا كانت نتائجها على حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.
صدمة “طوفان الأقصى” أحدثت إحياءً للمسألة الفلسطينية في الوعي العربي المأزوم، وخاصة لدى الأجيال الشابة لا سيما جيل “زد” في مواجهة سياسات بعض الدول العربية الميسورة والمعسورة معًا بشأن التطبيع مع إسرائيل والنظرة إليها كأحد مراكز التقدّم العلمي والتكنولوجي والعسكري في المنطقة، وذلك بعد سقوط قناعها الأخلاقي أمام العالم، وبروز وجه اليمين الديني المتطرّف وخطابه السياسي الداعم للإبادة الجماعية للمدنيين في القطاع.
يمثل السلوك الحربي والوحشي للجيش الإسرائيلي جرائم في قانون الحرب والقانون الدولي الإنساني، وقرارات الشرعية الدولية 242، و238 والقرارات ذات الصلة. إلا أنّ جريمة الإبادة الجماعية تشكل ذروة هذه الجرائم الإسرائيلية المكتملة الأركان التي نصت عليها المادة الثانية من اتفاقية عام 1948، والتي نصت على أنّ في هذه الجريمة تعني الإبادة الجماعية أيًا من الأفعال التالية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية:
أ- قتل أعضاء من الجماعة.
ب- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ج- إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا.
د- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
ه- نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعات أخرى.
المادة السابقة تكاد تنطبق على عمليات الإبادة الجماعية في تفاصيل المجازر الوحشية المستمرة في قطاع غزّة حتى كتابة هذه السطور.
إنّ الحرب على قطاع غزّة أيًا كانت نتائجها ستؤدي لإعادة طرح التقدّم والتخلّف ومعها الثنائيات المتضادة حول الحرية والاستبداد، الاستغلال والعدل الاجتماعي، ونحن والغرب، والإسلام والآخر، وغيرها من الثنائيات الضدية الموروثة، وهو ما سوف يشكل في الغالب إعادة مسارات الدوائر المغلقة والعقل النقلي المسيطر مع بعض الاستثناءات.
لا شك أنّ هذه المقاربات التاريخية وطرقها التي بدت مسدودة في محاولة نقل الدول والمجتمعات العربية للحداثة هي علامة انسداد تاريخي لا نزاع حوله، خاصة أنّ عالمنا يعيش تقلصات عنيفة داخل غالب الدول الأكثر تطورًا على صعد الثورة الرقمية والانتقال إلى عصر الإناسة الروبوتية في الطريق إلى مرحلة ما بعد الإنسان بكل ما تطرحه من تحديات على الشرط والوجود الإنساني ذاته في الطبيعة، وعلى معارفنا وعلومنا الإنسانية ولغاتنا وذاكرتنا الجماعية وثقافاتنا المتعددة.
في ظل هذه التحولات العاصفة تبدو حرب الإبادة الإسرائيلية واحدة من أخطر الحروب ضراوة ووحشية، ومعها تجلت ثقافة المقاومة الساعية للحرية والتحرر والاستقلال الوطني علامة على هذه المرحلة الانتقالية التاريخية جسارة في سردياتها المشهدية المرئية والمكتوبة، وربما ستكون المقاومة طريقًا لإحداث تغيّرات جيوسياسية وثقافية في المنطقة في أعقاب نهاية الحرب.
المصدر: “عروبة 22”