راشد عيسى
بات إعلان شركة “زين للاتصالات” السنوي في شهر رمضان طقساً رمضانياً مثله مثل الدراما ومختلف البرامج التي تبث في الشهر الكريم. إعلان بات يترقبه المتابعون لأنه انطوى على الدوام على إشكالية ما، أو جهد بصري وموسيقي طَموح، أكبر من أن يكون مجرد إعلان.
أدركَ صنّاع الإعلان هذا العام بأن لا مفرّ من التطرّق للحدث الفلسطيني، الذي يكاد يشغل الناس عن أعزّ ما ينتظرون في الشهر الفضيل: المسلسلات، وربما يشغلهم عن الصيام نفسه. وعلى هذا الأساس حمل الإعلان عنوان “مرافعة زين لرمضان 2024.. سنعود”، ويرد في التقديم: “لأن الكبار سَكَتوا، سيترافع الصغار، وستنصفنا الشعوب إذا ميزان الساسة مال”.
الإعلان إذن يجري على لسان أطفال، ويصوّر أطفالاً على رأسهم حنظلةُ ناجي العلي، على كتفيه كوفية، يقتحمون مجلس الأمن مترافعين غناءً: “توقفي عن التصوير توقفي/ لنكتفِ بهذا القدر لنكتفِ/ أنا حنظلة الصغير/ وخلفي طابور أطفال بلا عمر/ جئت أقول ما لكم أمام الله مِن عذر/ يا مجلس أمن هذا العالم كلّه/ أستخدم حق الفيتو لأضيف كلمة إلا/ لأنكم لما أمطرت صواريخٌ علينا/ ركنتمونا خارج المظلة..”.
فيديو الإعلان مشغول بأقل الجهود والإمكانيات، وليس من الواضح أبداً أنه يطمح لأن يبقى ويؤثر ويرافِع ويحاكِم
الجزء الأكبر من الفيديو الغنائي هو تقريع للعالم، ممثلاً بمجلس الأمن، والجزء المتبقّي يميل إلى لحن آخر فَرِح مع تكرار كلمة “سنعود”، وهنا سيتراكض الصغار ويتقافزون، وستحضر الدبكة الفلسطينية (يقال: ما اجتمع فلسطينيٌّ بفلسطيني إلا وكانت الدبكة ثالثهما)، لأن أيّ عمل فني، على ما هو رائج، يجب أن ينتهي إلى خاتمة سعيدة، مهما كانت الظروف والأحوال مفجعة!
ومع كل تقدير للنوايا الطيبة، في حال كانت هي المحرك في صناعة هذا الفيديو، لا الإستراتيجية التسويقية، ولا نملك بالطبع أن نشقّ على قلوب مشتغليه، فقد بدا الأضعف تماماً بين ما شاهدنا من فيديوهات سابقة لـ “زين”، الكلمات هزيلة، واللحن، والتصوير الذي يكون عليه كل الاعتماد عادةً في عالم الإعلانات. كأن “المرافعة” صُنعت لتُنسى على الفور، صُمِّمت كي لا تَترك أثراً يُذكر.
يَذكُر الفيديو قصصاً باتت أيقونات من حرب غزة، أعيدت، ورُسمت، ولهجت بها الألسنة والصحف والمؤتمرات: روح الروح، ويوسف، وكمال، وهند،.. ولعل مشتغليه شعروا بأن مجرد الذكر والاستعادة والكلمات الغاضبة يمكن أن يضمن تأثيراً، وعدداً كبيراً من المشاهدات.
وفي الواقع يُملّ على الفور، لا لأن التحدي كبيرٌ عندما يحاول المبدع أن يقارب حدثاً كبيراً مثل غزة، فالفيديو مشغول بأقل الجهود والإمكانيات، وليس من الواضح أبداً أنه يطمح لأن يبقى ويؤثر ويرافِع ويحاكِم، كما يزعم. في وقت نجد اليوم حول العالم، في التظاهرات والفعاليات الطوعية لمسات عظيمة في مقاربة الحدث، لا تقلّ تأثيراً عن الأصل.
بإمكان الإعلان أن يكون ثورياً أيضاً، حتى من باب التسويق، ولطالما شاهدنا إعلانات عالمية من شركات كبرى تحمل قيماً عظيمة، على نفس المستوى من التعبير الفني، بل إن مغامرات من هذا النوع كانت دائماً تحمل خطر مواجهة محتدمة مع جمهور ودول قد تمنع وتحجب وتقاطع الشركة المنتجة.
“مرافعة زين” ليست سوى محاولة رفع عتب.
العالم قبنض
ذات سنة من سنوات العشرية السورية الدامية، وقف نائب برلماني سوري، ومنتج تلفزيوني معروف (هو محمد قبنض)، على أحد مداخل غوطة دمشق الشرقية أثناء تهجير سكان تلك المنطقة، التي كانت حتى ذلك الحين تحت سيطرة المعارضة، وقُصفت بالكيماوي وحوصرت وجُوعت، فقضى من قضى، ومن تبقى أُجبر على العبور من بوابة قبنض، أو ما شابهها.
بعد خمسة أشهر من أفظع ألوان التنكيل، والحصار والتجويع، يحلو للولايات المتحدة، ومن يدور في فلكها، إلقاء المساعدات الغذائية من الجو لأهل غزة، بعضها قتل الغزيين بالمعنى الحرفي
وقف قبنض على ظهر شاحنة صغيرة ليوزع قوارير الماء والسندويشات على الخارجين، لكن ليس قبل أن يهتفوا بحياة رئيسه (بشار الأسد)، كان هذا شرطه على المجوّعين بلا هوادة.
ومثل قبنض، وقف مقاتلٌ أَسَديّ على حاجز دوار البطيخة على مدخل مخيم اليرموك لصق دمشق، ليذيق الخارجين والداخلين الفلسطينيين (وهم غالباً من أبناء جلدته، إذ كان تنظيم الجبهة الشعبية- القيادة العامة على رأس محاصري المخيم) مرارة الذلّ، عندما راح يشترط على من يحمل الخبز لعياله أن ينبح، قبل أن يسمح له بتمرير الخبز .
يبدو أن دول العالم الحرّ تلعب اليوم دوراً مشابهاً لقبنض على تخوم غوطة دمشق الشرقية، فبعد خمسة أشهر من أفظع ألوان التنكيل، والحصار والتجويع، يحلو للولايات المتحدة، ومن يدور في فلكها، إلقاء المساعدات الغذائية من الجو لأهل غزة، مساعدات بعضها قتل الغزيين بالمعنى الحرفي، عندما هبط بعضها من دون مظلة.
ألقوا مساعدات من الجو كما لو أنهم المنقذ، فيما هم أساس المحنة، وهم من منعوا وقف إطلاق النار، وكان بإمكانهم فتح المعابر والسماح بدخول المساعدات الاعتيادية، بل ومرور المدنيين كما يحدث في كل حروب الدنيا.
فوق ذلك، لم يَخفَ الاستعراض الهوليوودي لبعض من صوّروا أنفسهم كمنقذي ومخلصي اللحظة الأخيرة، وكان بأيديهم موقفٌ ضاغط منذ البداية، من قبيل طرد سفير، وإغلاق سفارة، وقطع علاقات أو إلغاء معاهدات.
العالم لا يخجل في صمته، كما لا يخجل في مزاوداته.
* كاتب من أسرة تحرير “القدس العربي”