حسن النيفي
لعله بات من المألوف أن تكون المنابر التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي هي الأقرب منالاً للتعبير وإبداء الرأي ليس لدى العامة من الناس فحسب، بل لدى العديد ممّن هم في عداد النخب أيضاً، كالشخصيات السياسية والثقافية والفنية وكذلك الشخصيات العامة الأخرى، إلّا أن وفرة هذه المنابر غالباً ما كانت تؤدي إلى افتقاد المعايير وتفاوت مستوى الخطاب وتباين مستويات الوعي واختلاف الثقافات، الأمر الذي يتيح للمتابع تكوين رؤية تنطوي على مزيد من الاتساع والإحاطة (الأفقية) إزاء أي موضوع من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك بين الناس.
كما تتيح تلك المنابر التي يشتبك فيها الرفيع مع المتواضع من الخطاب للمتابع الوقوف على بعض المعايير والنواظم التي باتت تتسيّد المشهد الثقافي والاجتماعي للمفاضلة بين الأفكار والقيم وحتى الأشخاص أيضاً، ولا نرى أدلّ على ذلك من ظهور مفاجئ لنعوة أحد المبدعين (سواء أكان مفكراً أو سياسياً أو فناناً) لنجد بموازاة تلك النعوة اشتباكاً حامي الوطيس بين الجمهور حول من ينتصر لهويته الإبداعية فحسب، وبين من يبحث في موقفه السياسي ممّا يجري في سوريا، كيف لا والسوريون في نزيف مستمر منذ ثلاثة عشر عاما، وربما من الصعب أن ينظروا إلى الآخر بمعزل عن مناظير مأساتهم العظيمة، وبالطبع يستدعي هذا التباين في المعايير أحاديث أكثر تشعّباً تطول قضايا فكرية وفلسفية لعله من العسير تقصّيها في هذا السياق، كالعلاقة بين الإبداع والسياسة أو بين الفن والجوانب الإنسانية أو بين الأخلاق والإبداع إلخ.
في الثاني من شهر نيسان الجاري غيّب الموت الفنان العراقي الكبير كوكب حمزة (1944 – 2024) الذي صاغت ألحانه الوعي الفني لأجيال متعاقبة سواء لدى العراقيين أو غيرهم، وباتت بعض ألحانه التي غنّاها كبار المطربين العراقيين أيقونات فنية لا يمكن تجاوزها في تاريخ الغناء العراقي، إلّا أن الأصوات السورية التي نعت بمزيد من الأسى هذا الفنان الفقيد واجهتها العديد من الأصوات السورية أيضاً والتي تنعى عليه انحيازه إلى نظام الأسد في حربه الإبادية على السوريين، وكذلك موقفه المادح لبوتين في حربه على أوكرانيا، غيرَ عابئة بقيمته الإبداعية العرجاء ما لم تقترن ببعدها الإنساني الذي يمنحها أصالتها الإبداعية والإنسانية معاً. بالطبع لم يكن كوكب حمزة وحده من بين الفنانين العراقيين الذين اختلفت حولهم الآراء في المشهد السوري، بل سبقه جدل كثير حول شخصيات أخرى سواء توفيت أو ما تزال على قيد الحياة، وهي ممّن أظهرت انحيازها إلى نظام الإجرام الأسدي (الجواهري ومظفر النواب وسعدي يوسف مثلاً).
ربما يبدي شطرٌ من السوريين عذراً لهذه الشخصيات الإبداعية، ويعزو تناقض مواقفها إلى أن نظام الأسد قد وفّر لها الملاذ الآمن نتيجة فرارها من سلطات نظام صدام حسين، وهي بانحيازها اليوم إلى نظام الأسد إنما تردّ الجميل وتُظهر الوفاء لمن منحها الرعاية والاحتفاء.
وعلى أيّة حال، وبعيداً عن ردّات الفعل التي يمكن تفهّمها دون اعتمادها مرجعاً صارماً في الحكم، لا بدّ من الوقوف ولو بإيجاز شديد على بعض المسائل التي لا يمكن تجاهلها، لعل أبرزها:
1 – إن معظم الشخصيات الإبداعية التي غادرت العراق إبان حكم حزب البعث كانت تنتمي إلى الأحزاب الشيوعية، وقد عزتْ مناهضتها لنظام الحكم في العراق إلى كونه نظاماً رجعياً فضلاً عن ديكتاتوريته وبطشه ومصادرته للحريات وممارساته الأمنية الموغلة في التضييق والإقصاء وغياب الديمقراطية وفقاً لتلك الشخصيات أو الأحزاب، وخلال عقود من الزمن استطاعت تلك الشخصيات من خلال إبداعاتها الشعرية والفنية أن تترك أثراً لدى قطاعات واسعة من القراء يوحي بمزيد من التعاطف، إلى درجة بات ينظر فيها الكثير من الناس إلى أشعار مظفر النواب – على سبيل المثال – على أنها تختزل النزوع إلى الحرية والتحرر ورفض الطغيان بكل أشكاله، ولعل ما عزّز هذا الاعتقاد لدى الأغلبية هو نزعة (الشتم إلى حدّ البذاءة) لبعض الحكام العرب، الأمر الذي تستجيب له النفوس المقموعة بعيداً عن أي معيار أو ناظم فني، وهكذا تكوّن انطباع في المشهد الثقافي العام بأن جميع المبدعين العراقيين الشيوعيين الذين ناهضوا نظام البعث هم دعاة إلى الحرية وحقوق الإنسان ومناصرون لقضايا الشعوب المقموعة باعتبارهم ضحايا للقمع والتسلّط. ولكن الأمر الذي لا يمكن تجاهله أيضاً، بل يتوجب الوقوف عنده هو أن البلدان التي لجأت إليها تلك الشخصيات الناشدة للحرية، واعتبرتها فضاء بديلاً، وهي على الأعم الغالب إما سوريا، أو دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، لم تكن تختلف بنيتها الأمنية وطبيعة أنظمة الحكم فيها عما عليه الحال في العراق، إن لم يكن بعضها أكثر سوءاً، ومع ذلك لم تتوقف عجلة الإبداع عند هؤلاء في المنافي البديلة، بل ربما حظي بعض الحكام الطغاة بمديح وتمجيد لم يجدوه عند أبناء بلدانهم، فالقصائد التي مدح بها الجواهري حافظ الأسد (دمشق يا جبهة المجد – سلام أيها الأسد) لم يحظ بأمثالها كبار الفاتحين العرب.
2 – لقد أظهرت الوقائع على مرّ التاريخ أن الأقنعة الإيديولوجية يمكن أن تصمد حقباً زمنية عديدة وتحافظ على وقارها وهيبتها طالما بقيت تستمدّ مقوّمات وجودها من خطاب إيماني أو عقدي جارف لا تتيح صرامته وصلفه المجال لأيّ اختراق معرفي أو ثقافي ذي قيمة جوهرية، ولكنها كانت تتداعى بسرعة مذهلة وتتشظّى حين تجابه الواقع كما ينبغي أن يعيشه البشر العاديون، بل غالباً ما كان يكشف انهدامها عن رواكم ومحدّدات غاية في البدائية، هي أشدّ حضوراً وديمومة من القناع الإيديولوجي، لذلك لا غرابة أن تكشف وقائع الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، ومن ثم الاحتلال الأميركي للعراق (2003) عن أن الولاء الطائفي كان لدى العديد من المثقفين والنخب الإبداعية أكثر تماسكاً وحضوراً وصلابة من الولاء للإيديولوجيا. لذلك – أيضاً – لا نستغرب شيوع بعض العبارات التي باتت تنطوي مضامينها على مفارقات طريفة من مثل: (الشيوعي العراقي لا يؤمن بالله ولكنه يلطم من أجل الحسين. والقائد الحزبي ذو التوجه القومي تنكّر لوحدة الأمة وتحوّل إلى شيخ عشيرة إلخ).
يمكن التأكيد على أن مجمل التناقضات التي يعيشها الكثير من الشخصيات الإبداعية سواء في العراق وسوريا ومعظم البلدان الأخرى، لم تكن لتظهر بهذا الوضوح قبل موجة ثورات الربيع العربي التي يمكن الذهاب إلى أنها – وبغض النظر عن النتائج السياسية التي انتهت إليها – أرستْ معالم خطاب سياسي جديد يستلهم هموم الناس ومشكلاتهم الحياتية ويعبر بصدق عن تطلعات المواطن الذي تقهره السلطات الحاكمة وتسلبه مجمل حقوقه تحت سطوة خطاب سلطوي شعاراتي استعلائي غايته على الدوام إعادة إنتاج السلطة وتبرير سلوكها، وربما أضمرت فداحة المأساة في الحالة السورية جانباً من الكشف الثقافي أتاح للسوريين أن يشهدوا خيبة الإيديولوجيا وخذلانها في مقاربة أيّ من مشكلاتهم المصيرية، وافتقارها إلى البعد الإنساني الكوني الذي ربما كان السمة الأبرز في تعزيز مشروعية ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجهه الخصوص، وربما كان العديد من المثقفين والمبدعين الذين فشلوا في تجاوز تخوم الإيديولوجيا هم قرابين هذا الخذلان والافتضاح.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا