سمير صالحة
تحولت الانتخابات المحلية في تركيا إلى منعطف مصيري بالنسبة للرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية وتحالف الجمهور بعد الخسارة الموجعة على أكثر من جبهة: انخفاض في نسب الدعم الشعبي، فقدان العشرات من بلديات المدن والأقضية، وتراجع “العدالة” إلى الحزب الثاني في البلاد للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين على تفرده في الزعامة الحزبية بفارق لم يقل عن 10 نقاط عن أقرب منافس له.
المنتصر هو حزب الشعب الجمهوري ربما، لكن الذي وفر له ذلك هو خليط من الأصوات في الحكم والمعارضة على السواء. بطاقة صفراء تتحول تدريجيا إلى حمراء إذا لم يتدارك أردوغان وحزبه الموقف عبر نقلات إستراتيجية حاسمة للالتفاف على ما جرى.
قد لا يكون لهذه الانتخابات تأثيرها المباشر على سياسة حزب العدالة في التعامل مع الملفات الخارجية، لكن فشل قيادات الحزب في الداخل قد لا يضمن له البقاء لأربع سنوات أخرى إذا ما تزايدت الضغوط الاقتصادية والمعيشية على المواطن التركي وعندئذ سيفقد الداخل والخارج معا.
المؤكد هو أن السياسة الانفتاحية التي بدأها أردوغان وحزبه في العامين الأخيرين باتجاه التهدئة والتنسيق مع العواصم، وخصوصاً العربية منها، ستبقى على ما هي عليه، هو سيبحث عن مزيد من الدعم الإقليمي والدولي والاستثمارات في هذه المرحلة لإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية. هذا ما ردده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد فوزه في الجولة الثانية من معركة الرئاسة في أيار المنصرم. وهذا ما كرره خلال الحملات الانتخابية مؤخرا بأن أنقرة ستبدأ مسارا جديدا في سياساتها الخارجية نحو العواصم الغربية والإقليمية. لا بل هو شرع في تنفيذ ذلك من خلال العديد من الزيارات واللقاءات الانفتاحية على مصر والعراق ودول الخليج.
من المقرر أيضا أن تبدأ القيادات التركية اعتبارا من الأسبوع المقبل حراكا دبلوماسيا وسياسيا واسعا باتجاه أكثر من عاصمة غربية وإقليمية. بعد أسابيع يتوجه أردوغان إلى واشنطن بدعوة من نظيره بايدن. ثم يستقبل الرئيس الألماني والرئيس المصري وبعدها يقصد بغداد والخليج من جديد. شكل الحوار بين الرئيسين التركي والأميركي مهم هنا على ضوء نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا، خصوصا أن الرئيس بايدن سبق أن دعا قبل سنوات لدعم المعارضة في تركيا “بالوسائل الديمقراطية” لإزاحة حزب العدالة عن السلطة. هناك تقارب تركي أميركي في الأسابيع الأخيرة تُرجم عمليا على خط التوسعة الأطلسية وصفقة المقاتلات إف 16. فأيّ تحوّلٍ في شكل العلاقة أو محاولة الاستقواء بنتائج الانتخابات التركية الأخيرة خلال التفاوض مع أردوغان سيقابله على الفور تحرك تركي باتجاه معاكس لما تبحث عنه واشنطن في الإقليم وهو مزيد من الانفتاح التركي على موسكو وبكين وطهران مثلا.
محاولة البناء على نتائج الانتخابات المحلية من قبل بعضهم للتأثير على قرارات وسياسات أنقرة في ملفات إقليمية حساسة بالنسبة لها، كما تفعل تل أبيب المنزعجة من الموقف التركي في غزة، سيقابله تحريك تركيا لكثير من الأوراق التي تملكها للرد والمواجهة. وهو ما يعني تعريض كل جهود التقارب والانفتاح للخطر.
أردوغان على رأس السلطة حتى العام 2028 دستوريا وقانونيا فلماذا يتسرع بعضهم في محاولة البناء على ما جرى يوم الأحد المنصرم؟ تعيش تركيا أجواء الحرب في أوكرانيا شمالا، ومن الجنوب أجواء الحرب في غزة. هي قلقة أيضا حيال تعقيدات الوضع في القوقاز والبلقان وهما ساحتان مهمتان للامتدادات الجيوسياسية لنفوذها. الغرب والشرق يحتاجان إليها على هذه الجبهات، فمن الذي سيغامر مُحاولا تهديد علاقاته ومصالحه مع أردوغان وحزبه بناء على نتائج انتخابات محلية؟ وحيث يعرف الجميع أن ما جرى لم يكن سوى عبارة عن وصول حزب الشعب الجمهوري إلى ميدان “قزل آي” في أنقرة على صهوة جواد حزب العدالة الذي فقده في الطريق. إلا إذا قرر حزب العدالة طرح بدائل خيارات دستورية جديدة بالتنسيق مع المعارضة تحت سقف البرلمان. والمقصود هنا انتخابات مبكرة تستدعي توافقا “صوتيا” لا بد منه بين الجانبين.
هناك صعود وهبوط دائم في العلاقات التركية الإسرائيلية. قبل أسابيع من انفجار الوضع في قطاع غزة كانت الأمور تسير باتجاه التهدئة والتطبيع والتمهيد لزيارة مرتقبة لأردوغان إلى تل أبيب، التي تعرف أن البعض في تركيا اختار لعب ورقة العلاقات التجارية بين البلدين لإضعاف أردوغان وحزبه أمام الصناديق. ستطرح تل أبيب اليوم موضوع البحث عن فرص إضعاف يد أنقرة في الخارج على ضوء نتائج انتخابات الأسبوع المنصرم. ترحيبها السريع بنتائج الانتخابات التركية وتهنئة وزير خارجيتها قيادات حزب الشعب الجمهوري على ما حققته لن يقدم ويؤخر كثيرا بالنسبة لقيادات العدالة والتنمية.
داخليا سيبحث حزب العدالة عن وسائل رفع الأنقاض التي تسببت بها هزة 31 آذار المنصرم. ومراجعة المواقف والسياسات وبحث سبل امتصاص الهزيمة وإعطاء الناخب ما يريد. خارجيا سيواصل سياسة التحولات التي بدأها في العلاقة مع أكثر من عاصمة.
الرهان على حزب الشعب الجمهوري الذي سيواصل سياسته الكلاسيكية في العلاقة مع الغرب والتقرب أكثر من تل أبيب وسيراجع سياسة تركيا الإقليمية بناء على زيارات رئيس الحزب أوزغور أوزال الأخيرة وتصريحاته حول الملف السوري، ومؤشر اعتذار كمال كيليتشدار أوغلو العام المنصرم عن قبول الدعوة الروسية، يعني أن حزب الشعب سيكون له خيارات وتوجهات تتعارض مع ما اختاره حزب العدالة باتجاه العالمين العربي والإسلامي.
ارتدادات نتائج الانتخابات المحلية على السياسة الخارجية التركية ستكون ضعيفة جدا وهذه هي قناعة كثير من العواصم التي ستختار البقاء على الحياد في مواجهات سياسية وحزبية داخلية ضيقة تدفعها نحو المجهول، خصوصا أن طروحات الحزب الأول في المعارضة مغايرة في معظمها لما تقوله قيادات حزب العدالة والتنمية. يتطلع حزب الشعب الجمهوري صوب فتح مكاتب له في أكثر من عاصمة غربية وفي موسكو. هو يريد أن يكون جاهزا لأي سيناريو داخلي وخارجي. لكن مشكلته هي عدم وضوح رؤيته حيال كثير من الملفات والقضايا الدولية وإهماله للشق الخارجي لسنوات طويلة والتمسك برؤية أن الحل هو عند الغرب وحده.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا