أحمد مظهر سعدو
تعتبر أهمية وجود وانطلاق تلفزيون وفضائية سورية تعبر عن السوريين، وتعيد إنتاج الإعلام المتلفز، على أسس جديدة، من أساسات وضرورات، كانت وما زالت، دافعًا مهمًا، تلبية للمتطلبات الكبيرة التي يحتاجها الواقع السوري المتغير.
وبعد أن عاش الشعب السوري عقودًا طويلة متوالية، ضمن سياسات الإعلام البعثي السلطوي الموجه، حيث يقبض على مفاتيح الإنتاج الإعلامي، ويمنع أية حالة إبداعية، ويعوق أي فكر حر، من الممكن أن يؤدي وجوده إلى وعي مطابق حداثي يحرك المياه الراكدة والآسنة.
ولقد دأبت الدولة الأمنية في سوريا، ومنذ أن تسلم حزب البعث الحكم على خطف ونهب الحالة السورية بقضها وقضيضها في 8 آذار/ مارس 1963. حيث تم كم الأفواه، ولجم أية رؤية سياسية، أو معرفية حرة، واشتغل حثيثًا على إنتاج إعلام متلفز أو مكتوب، أو إذاعي، وفق توجهات أهل الحكم، دون السماح بأي وجود حقيقي للإعلام الحر. حتى يوم حصلت هزيمة حزيران/ يونيو 1967 على يد تلك السلطات القمعية، كان الكبت وكم الأفواه أكبر وأوسع، وأدى إلى اعتقالات كثيرة ومريرة، لكل من تجرأ حينها ونقد واقع الهزيمة الكبرى، التي ذهبت بمرتفعات الجولان وهضبته بكليتها.
ثم جاء حكم آل الأسد في شهر تشرين الثاني /نوفمبر 1970 الذي كان بمثابة إلغاء للسياسة في المجتمع السوري، وتجيير الإعلام جميعه، بما فيه المتلفز، لصالح المحسوبيات و(المطبِّلين) وماسحي الجوخ، ضمن سياسات تحريرية قامعة خانقة، يحاسب فيها الصحفي أو الإعلامي على الحرف وعلامات الترقيم والحركات.
ثم انطلقت الثورة السورية ثورة الحرية والكرامة، أواسط شهر آذار/ مارس 2011 وسط هذه الحالة من فقدان الإعلام البديل، المعبر عن الناس كل الناس، ومن خلال ظروف قمعية في غاية السوء، وبداية لم ينتبه الكثير من الإعلاميين في حينها إلى أهمية وضرورة إنتاج الإعلام البديل خارج سيطرة النظام السوري المستبد، ثم كان التحرك بعدها عبر عشرات من المنصات والصحف، وبعض التجارب الفضائية، التي لم يكتب لها النجاح لأسباب كثيرة.
من هنا فإن الانطلاقة الأولى، ثم بعدها الجديدة هذه الأيام لتلفزيون سوريا، باتت ضرورة بمكان، وأهميتها تنبع من حجم ومساحة الفراغ الكبير، حيث كان لا بد من ملء الفراغ، وهو عمل ضروري من أجل سوريا الحرة الموحدة المتكاملة، وهو أيضًا ما يدفعنا للقول إن هذا البناء الصعب اليوم والجهد الكبير المعمول به، يفترض بالضرورة وكي يستطيع المضي قدمًا نحو فضاءات أرحب، أن يلبي الطموح، فإنه لا مناص من ذكر العديد من المحددات نذكر منها:
– استدامة الدعم المالي وقدرته على توليد فرص العمل، ومن ثم أهمية العمل الربحي حتى تكون الاستدامة حقيقية، وليست وهمًا، ومن ثم لا تكون مرتبطة بالتمويل الخارجي فقط، بل تعيد توليد نفسها بنفسها.
– التعويل على الكفاءات العلمية المتدربة وصاحبة المهنية العالية، تهيئة لإنتاج إعلام يستطيع المنافسة، في ظل وجود كم كبير وممول، من الإعلام المتلفز والقادر على الاستمرارية، ومواكبة التطور والحداثة والاستمرار، عبر الاستفادة من التقانة العصرية، والتغيرات الكبرى اليومية في عالم الإعلام التي يتم إنتاجها عالميًا في ظل العولمة والقرية الواحدة.
– أهمية وضوح الخطاب الإعلامي الذكي، الذي يعتمد على أرضية معرفية واعية، وخطة طريق راقية ورصينة، لا تسمح بسيل وتدفق الأمواج وتلاطمها، أن تؤثر عليها، بل تكون لديها القدرة على الدفع قدمًا بجدية حقيقية، لإنتاج المتطلبات والضرورات.
– بناء سياسة تحريرية بمساحات كبيرة وحرة، دون أي تقييد للفكر، ودون لجم للكلمة الحرة، وتؤسس لعمارة إعلامية سورية، خالية من أمراض أنظمة القهر والقمع، ومتمكنة من أدواتها كلها، بحيث تنتج الإعلام الذي يصل للجميع، ويؤكد أن حالة الوصول الجدي لابد لها من المصداقية أولًا.
– الخروج كليًا من حالة الإعلام البديل السابق، المعتمد على الوضع الشللي، أو المحسوبية، أو الأسرية، أو صيغة (الحجي)، كما يسمونه في حلب.
– مخاطبة كل الشعب السوري، بكل تلوينات الطيف السياسية، والإثنية والطائفية على امتداد جغرافية سوريا، بسوية واحدة، لأن تلفزيون سوريا لابد أن يكون لكل السوريين، وليس لقسم محدد بعينه منها.
– أهمية فضح وكشف سوءات الدكتاتوريات، والاستبداد المشرقي (القروسطي) الذي ابتليت به سوريا، والمنطقة، وكان ومازال من أكثر المعيقات على طريق نهضة سوريا المستقبل.
– التنوع والتعدد في إنتاج البرامج الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى العسكرية، ومخاطبة العقل السوري، وليس العواطف فقط، وخلق حالة حوارية واسعة وضرورية على مساحة الوطن السوري.
– الجرأة والجدية الواعية في طرح الأفكار، وإفساح المجال لكل المسائل الفكرية والقضايا الإشكالية ذات الطابع الفكري، أن تعبر عن نفسها بصراحة وروية، وإفساح المجال وترك مجالات الرد مفتوحة للجميع. وتأكيد أهمية البحث في كل ما هو “تابوه”، حيث لا ضرورة بعد اليوم “لتابوه” ما، وهي التي تمنع الإنسان السوري المتطلع للمستقبل، من إبداء رأيه الرحيب عبر فضاءات واسعة وممكنة.
– القدرة الدائمة والمنتجة للفكر على الاعتراف بالخطأ، ومن ثم التمكن من التغيير المستمر، بدون الحاجة بين الفينة والأخرى، إلى الاستمرار بالأخطاء تحت أي ظرف وضمن أية حيثيات.
وفق هذه الأسس والمحددات وغيرها الكثير، وعلى هديها وفي أتونها المتواصل، والمولِّد للعمل الجدي الإعلامي المتنور، يمكن أن تكون محطة فضائية سورية متلفزة وقادرة على سد الفراغ، وبناء وعي إعلامي حر وعميق، ينتج نفسه، ويعيد إنتاجها بالضرورة، ثم يترك الباب مواربًا دائمًا كي يتمكن الآخر من الدخول، مهما اختلف ذاتيًا أو موضوعيًا مع القائمين على العمل، أو كذلك مهما تعرضت المحطة إلى الانتقادات لأن (النقد المزدوج طريق للاستيعاب) كان ومازال، وسوف يبقى، وَعَينا ذلك أم لم نَعِه، أدركنا ذلك أم لم ندركه. حيث (لا مطلق ولا أزلي إلا إياه، ماعدا ذلك فنسبي وتاريخي، نحن منه حركة وعي إنساني يتقدم، ونحن فيه حركة جدال).
المصدر: موقع تلفزيون سوريا