انطوان شلحت
شهد الأسبوع الذي مضى مناسبة مرور 200 يوم على الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، والتي تدخل اليوم (29/4/2024) يومها الـ206 وجرى شنّها في إثر الهجوم المباغت لحركة حماس على مواقع عسكرية في منطقة الحدود مع قطاع غزة، وعلى ما يعرف باسم “بلدات غلاف غزة”، يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ومثلما سبق لي أن كتبت في مقام آخر، بدأت تتبلور في أوساط عدد كبير من المحللين والمراسلين الصحافيين الإسرائيليين السياسيين والعسكريين فئة تحمل شعار: يجب قول الحقيقة إلى الجمهور العريض. وتنطوي كلمة الحقيقة على مدلولاتٍ ومعانٍ كثيرة، ولكن في ما يرتبط بما ننوي التوقف عنده يمكن أن نُعرّف الحقيقة اصطلاحًا بأنها الاتفاق مع ما هو قائم في الواقع فعلًا لا افتراءً. وأبرز ما تهدف إليه هذه الفئة هو أن تقول الحقيقة وبالأساس حيال ما حققته هذه الحرب وما لم تحققه، من جملة الأهداف التي وضعت لها منذ البداية.
وكي لا نغرق في وهج التعميم، سنتوقف عند بعض النماذج ونورد ما هو مطلوب من مواقف ومقاربات.
بداية يمكن القول إن ما دجّج بلورة هذه الفئة هو ما آلت إليه الحرب في خانيونس تحديدًا من نتائج. ووفقًا لما أكده عضو الكنيست الإسرائيلي السابق عوفر شيلح، وهو باحث كبير الآن في “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب، فإن إعلان خروج آخر فرقة عسكرية- الفرقة 98- من منطقة خانيونس في الأسبوع الأول من شهر نيسان/ أبريل الحالي هو بمثابة إقرار لِما كان معروفًا من الجميع منذ فترة، ومؤداه أنه منذ أكثر من شهر، لا يخوض الجيش الإسرائيلي “عملية حسم” في قطاع غزة، ولا “عملية تقويض”، ولا كل الكلمات الأُخرى التي ليس لها مغزى عسكري (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 7/4/2024). وبرأيه انتقل الجيش الإسرائيلي فعليًا، منذ نحو شهر من تاريخ مقالته هذه، إلى ما وصفها بأنها “المرحلة ج” (أو المرحلة الثالثة) في معظم مناطق القطاع، ومنذ بداية آذار/ مارس الماضي بقي عدد قليل من القوات، وفي المقابل جُمعت معلومات استخباراتية، وجرى الإعداد للعملية في مستشفى الشفاء. وخروج الفرقة الأخيرة جعل القوة العسكرية الباقية في القطاع بحجم لواء فقط، وذلك في المحور الذي يفصل شمال غزة عن جنوبها، وهذا إقرار رسمي بأن “المرحلة ج” باتت هناك بعد تأخُّرها مدة شهرين.
وبموجب ما يشدّد شيلح، وغيره من الخبراء في الشؤون الأمنية ومنهم رون بن يشاي من صحيفة “يديعوت أحرونوت”، فإن الجيش الإسرائيلي بات يشعر باليأس من المؤسسة السياسية الإسرائيلية التي يقف على رأسها بنيامين نتنياهو، وذلك لسببين رئيسيين: الأول، رفض نتنياهو وحكومته تقديم ما ينعته بأنه “غلاف سياسي” للحرب، والذي من دونه يصبح العمل العسكري بلا معنى حقيقي. والثاني، رفض الحكومة، لأسباب سياسية، أن تأمر بالانتقال إلى “المرحلة ج” المذكورة أعلاه، والتي تنص من بين أمور أخرى على إقامة خطوط دفاعية والانطلاق منها للقيام بعمليات موجهة استخباراتيًا لضرب مساعي حركة حماس الرامية إلى إعادة تنظيم نفسها من جديد.
ولا يضنّ هؤلاء المحللون بانتقاداتهم الموجهة أيضًا إلى قيادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ويتوقف بعضهم عند الأكاذيب التي تروّجها هذه المؤسسة. وهي أكاذيب متعلقة على نحو خاص بمسألتين ذات صلة:
المسألة الأولى، عدد الذين تمكّن الجيش الإسرائيلي من قتلهم أو اعتقالهم بين صفوف المقاومين الفلسطينيين، والذي تنفيه مثلًا حقيقة أن حركة حماس تمكنت من إعادة تنظيم نفسها بسرعة في منطقة شمال قطاع غزة التي أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قام باحتلالها وتدميرها، وهي اليوم بمنزلة الجهة الأقوى بالنسبة إلى سكان هذه المنطقة. وفي هذا الصدد ينبغي أن ننوّه بأنه حتى صحيفة “يسرائيل هيوم” التي هي بمثابة بوق لرئيس الحكومة نتنياهو عنونت أحد تقاريرها الأخيرة التي تناولت بيانات الجيش، وإن لدوافع حزبيّة سياسية محضة، بالعبارة الآتية: “يجب قول ما يلي: أرقام الجيش الإسرائيلي تخفي الحقيقة”.
والمسألة الثانية هي حجم الخسائر البشريّة التي تكبّدها الجيش الإسرائيلي والتي لا تنحصر في عدد القتلى بين صفوفه، بل تشمل أيضًا عدد الجرحى وحالات الإصابات ونسبة الإعاقات الدائمة والإعاقات في مجال الصحة النفسيّة، بما في ذلك القلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، وصعوبات التكيّف والتواصل، وحالات الهلوسة والذهان وغيرها.
غير أنه لدى محاولة الخروج بإجمال عام وباستنتاجات رئيسة لمآلات 200 يوم من الحرب، ولا شك في أنها مآلات مرتبطة بأداء المؤسستين السياسية والعسكرية بدون أن نسقط من الحساب أيضًا أداء المقاومة الفلسطينية، ينبغي أن نشير إلى ما يلي، بالاستناد إلى الملاحظات المتضمنة في التحليلات الإسرائيلية:
أولًا، إسرائيل عالقة في قطاع غزة. والجيش الإسرائيلي خرج، تقريبًا، من كافة مناطق القطاع، وسلطة حماس لم تتفكك، والأميركيون لا يسمحون لإسرائيل بالدخول إلى رفح، كما ازداد الضغط الدولي من أجل منع عملية كبيرة في رفح وعمليًا لإنهاء الحرب في شكلها الحالي. ويعتقد رون بن يشاي أنه من دون تعاوُن فوري واستراتيجي مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لن تبقى إسرائيل عالقة في طريق من دون مخرج وقتًا طويلًا فحسب، بل أيضًا ستُهزم في الحرب (“يديعوت أحرونوت”، 21/4/2024).
ثانيًا، اتضح أكثر فأكثر كذب الحجة الإسرائيلية القائلة إن الضغط العسكري وحده سيدفع حماس إلى عقد صفقة تبادل أسرى، وهي الحجة التي كررها رئيس الحكومة ووزير الدفاع وغيرهما من كبار المسؤولين الإسرائيليين السياسيين، وكرّرها كبار القادة في الجيش، بمن فيهم رئيس هيئة الأركان العامة نفسه. ويلاحظ أن ثمة إجماعًا في التحليلات الإسرائيلية التي نُشرت خلال الأيام القليلة الماضية على أن المخطوفين سيعودون فقط ضمن إطار صفقة ستُنهي الحرب الحالية في نهاية المطاف.
ثالثًا، تورد هذه التحليلات أنه في الحدّ الأقصى تم تفكيك نحو 75 بالمئة من قوة حماس العسكرية، ولكنها في الوقت عينه تؤكد أن الحركة لا تزال تسيطر مدنيًا في القطاع، وبرأي بن يشاي وشيلح ما دامت السيطرة المدنية لا تزال قائمة فإن أهداف الحرب لم تتحقق، ولا يمكن إعلان الانتصار وإعادة النازحين إلى “غلاف غزة”.
رابعًا، تناول الكثير من التحليلات الإسرائيلية وقائع الحرب على غزة منذ بدايتها وصولًا إلى يومها المئتين من منظور الردع العسكري، نظرًا إلى واقع أن هذا الردع العسكري الإسرائيلي انهار كليًا في هجوم طوفان الأقصى يوم 7/10/2023، على ما ينوّه كثيرون أبرزهم الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (“أمان”) والرئيس الحالي لـ”معهد أبحاث الأمن القومي” تامير هايمن. وبموجب ما يؤكد البعض (ومنهم ليئور أكرمان، أحد كبار المسؤولين السابقين في جهاز “الشاباك” والباحث في جامعة رايخمان حاليًا) فإن الجيش و”الشاباك”، قاما باستعادة السيطرة بسرعة والعودة إلى القتال، ونجحا في تحقيق إنجازات ملفتة جدًا وفكّكا معظم القوة القتالية لحماس، بالإضافة إلى الأنفاق ومخازن السلاح، في معظمها، وجزء كبير من الهيكلية القيادية للحركة والبنية التحتية لحكومتها، وعلى صعيد الإنجازات تلقّت البنية التحتية القتالية لحزب الله في لبنان وبعض قياداته ضربات كبيرة جدًا. ولكن في مقابل هذا كله، بات من الواضح أن إسرائيل فشلت كليًا في استعادة ميزان الردع، فحماس لا تزال موجودة، وكبار قيادييها ما زالوا في قيد الحياة، والمخطوفون ما زالوا في أسرها، وقدرتها على إطلاق القذائف لا تزال قائمة، وقوات الأمن التابعة للحركة لا تزال تسيطر على الشارع الغزّي، والحرب في غزة لم تُحسم بعد. وفي منطقة الشمال، لا يزال حزب الله يضغط ويزيد في حدّة ووتيرة إطلاق القذائف والمسيّرات، في الوقت الذي لا تزال إسرائيل تمارس سياسة الاحتواء، وتتمسك بقواعد اللعبة. كما أن إيران قامت بعد أن أدركت أنه لا يوجد قائد في إسرائيل، وأن حكومتها غير فعالة، بضرب إسرائيل للمرة الأولى في تاريخها من أراضيها بمئات الصواريخ البعيدة المدى والمسيّرات، وتلقّت ردًا ضعيفًا جدًا مع أنه يمرّر رسالة واضحة.
خامسًا، على المستويين السياسي والدبلوماسي يشير كثيرون من المحللين في إسرائيل إلى أن الفشل هنا لا يقلّ خطورة على أكثر من صعيد. فانعدام التنسيق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مثلما كتب أكرمان (“معاريف”، 24/4/2024)، دفع بإسرائيل إلى حالة عزلة سياسية غير مسبوقة منذ إقامة الدولة. وسبب ذلك هو أن إسرائيل لا تمتلك أي استراتيجيا بشأن “اليوم التالي للحرب”، والإدراك بأن مَن يقود سياسة الحكومة الحالية هي جهات متطرفة، مثل الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، الأمر الذي غيّر في سياسة الولايات المتحدة، على الرغم من أنها لا تزال ترسل مساعدات دفاعية لإسرائيل. أمّا على صعيد بقية المجالات، فإن التراجع كبير جدًا: إدانات في الأمم المتحدة؛ احتمال إدانة في المحكمة الجنائية الدوليّة؛ تأجيل إرسال أسلحة؛ مشاريع قرارات خطِرة في مجلس الأمن؛ فرض عقوبات على شخصيات من اليمين المتطرف، وتلميح بفرض عقوبات على وحدات عسكرية، وغير ذلك.
سادسًا، لا يغفل المحللون في إسرائيل موضوع إيران. وفي هذا الشأن يلفت بعضهم إلى أن طهران لا تزال تبني وتطوّر ترسانتها النووية ومنظومة الصواريخ لديها، من دون أي إزعاج، ولا تزال تفعّل القوات الداعمة لها في المنطقة ضد إسرائيل. وهذا ما يجري في لبنان والعراق واليمن. و”الخطوات الدبلوماسية الوحيدة التي تقوم بها إسرائيل هي تغريدات وزير الخارجية واحتجاجات سفيرنا في الأمم المتحدة”، مثلما كتب أكرمان، في حين أشار هايمن (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 25/4/2024) إلى أن إيران دولة على عتبة امتلاك السلاح النووي، ونجت من الضغوط القصوى التي مارستها الولايات المتحدة عليها، فتراجُع هذه الأخيرة عن الاتفاق النووي أوصل إيران إلى عتبة التسلح النووي. والواقع اليوم هو أن إيران تفهم بصورة ممتازة جدًا أن العالم بأسره عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا، يعترفان بحقها في تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60 بالمئة، وما دامت لم تقُم بتخصيبه إلى المستوى العسكري (90 بالمئة)، فالوضع على ما يرام. ويعتقد هايمن أن إيران تمكنت من تحقيق هدفها الاستراتيجي، وعلى ما يبدو، خططت للوصول إلى الحالة الراهنة، وعدم شقّ الطريق بأكملها نحو القنبلة النووية، ومثل هذه المكانة توفّر لإيران ثقة كبيرة بالنفس، وتتيح لها أن تكون أكثر جرأةً، حتى على مستوى الهجوم بالأسلحة التقليدية.
سابعًا، لدى التوقف عند التداعيات الاقتصادية للحرب يذكر أغلب المحللين أن العجز في الميزانية العامة بات كبيرًا جدًا ووصل إلى ذروة جديدة خلال أشهر الحرب بسبب التكلفة المرتفعة والمستمرة للحرب. وتراجع تصنيف إسرائيل الائتماني في وكالتَيْن دوليتيْن، بالإضافة إلى تحذيرات من المستقبل. ومعنى هذه الخطوة، مثلما تجمع معظم التحليلات الاقتصادية، هو زيادة الضرائب، وازدياد القروض الدولية التي ستطلبها إسرائيل مستقبلًا. وهذا العبء سيكون كبيرًا على أكتاف الأجيال المقبلة في إسرائيل. ويجري هذا كله في الوقت الذي تمرر الحكومة الحالية مليارات من أجل تمويل طلاب المدارس الدينية ومن ضمنهم الحريديم الذين يتهربون من الخدمة العسكرية والقومية، كما تموّل المستوطنات غير القانونية في مناطق الضفة الغربية.
ثامنًا، لدى تطرّق التحليلات في إسرائيل إلى ما توصف بأنها “الحصانة القومية” يجري التنويه بأن هذه الحصانة تقاس بحسب قدرة الدولة ومنظوماتها المدنية وقدرة مواطنيها على التعامل مع الأزمات والتغلب عليها. وهنا أيضًا، كانت نقطة البداية سيئة جدًا. ووفقًا لأكرمان وشيلح وبن يشاي، لم يكن هناك أي شيء فعّال في يوم هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ولا بعد أشهر أيضًا. فالآلاف من العائلات وعشرات الآلاف من المواطنين في منطقتي الجنوب والشمال ما زالوا عالقين خارج منازلهم، من دون أيّ حل سياسي من أجلهم، وهناك 133 مخطوفًا ما زالت حكومتهم تهملهم، وأنظمة التربية والتعليم والصحة دخلت الحرب في حالة أزمة، وما زالت في حالة انهيار، والحكومة لم تنجح في وضع حدّ لهذا الانهيار، وهي المسؤولة عن هذه المجالات. وفي خضم ذلك كله، وبشكل لا يقلّ أهميةً، هناك محاولة تجري على نار هادئة لاستغلال غطاء الحرب بغية الدفع قدمًا بالتغييرات القضائية والانقلاب الدستوري. وكان هذا الانقلاب والاحتجاجات الواسعة عليه جزءًا من عدة عوامل تسببت بالإيحاء بأن قوة الردع الإسرائيلية قد تآكلت، بحسب ما يؤكد البعض.
[يُنشر أيضًا في موقع المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله]
المصدر: المدن