ابراهيم ياسين
مقدمة
منذ أن استخدم النظام السوري السلاحَ والعنف لمواجهة مطالب المحتجين المطالبين بالتغيير عام 2011، عانت سورية سلسلة صدمات متلاحقة، حتى دخلت في أتون حرب متشابكة ومتعددة الأطراف، كان سببها الأساس تعنّت النظام السوري واستعانته بقوى خارجية لمواجهة الحراك الداخلي، وقد أدّت تلك الأحداث إلى مقتل نحو نصف مليون إنسان[1]، وخروج نصف سكان سورية من بلدانهم، واختفاء عدد كبير منهم، وأمسى أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر[2].
ومع هجرة كثير من أصحاب رأس المال برز نشاط اقتصادي مرتبط بالحرب، كتجارة الأسلحة والمخدرات، وتهريب الآثار، وانتشار عمليات الخطف لطلب الفدية، فضلًا عن تهريب الوقود وتجارة المولدات بسبب الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي. ومع تطبيق قوانين العقوبات الغربية على النظام السوري التي تفرض حظرًا على التعامل معه، شملت النتائج السلبية بعض مناحي الحياة، وزاد الوضعُ سوءًا مع جائحة كورونا وما رافقها من إغلاقات وخسائر، ثم تلا ذلك أحداث عالمية وإقليمية تركت أثرًا كبيرًا في الواقع الاقتصادي المتردي أصلًا، منها الحرب الأوكرانية واصطفاف النظام السوري إلى جانب روسيا، ومنها أزمة لبنان وتداعياتها وحجز أموال كبيرة تعود لسوريين قُدّرت بالمليارات، ومنها ما يحدث حاليًّا في غزة من حرب وتدمير ومآس.
كلّ تلك العوامل أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الأولية والأساسية، وما زالت حلقات رفع الأسعار تتواصل من دون هوادة أو مراعاة للوضع المأسوي الذي يعيشه أغلب السوريين. ومع هذا الواقع المؤلم، ما يزال معظم موارد الدولة غير مستثمر أو بعيد عن أيدي حكومة النظام، وتكاد العملية الإنتاجية تتلاشى، مع وجود أربع حكومات تتقاسم سورية وتشكل مناطق نفوذ. وعلى الرغم من ظهور عدد من المبادرات المقدّمة على طاولة الحوار، من آستانة إلى جنيف وصولًا إلى المبادرة العربية، ما تزال نهاية الأزمة السورية، سياسيًا واقتصاديًا، بعيدة المنال.
الأسباب التي تدفع النظام إلى رفع أسعار المواد الأساسية على الرغم من الاحتجاجات والتذمّر الشعبي
بدأت ملامح الأزمة الاقتصادية تظهر جليًا منذ عام 2019، تحت شعارات مختلفة، وقد أصدرت حكومة النظام السوري في 15 آب/ أغسطس 2023 جملة من القرارات التي أدّت إلى ارتفاع أسعار جميع السلع والمنتجات في سورية؛ حيث عدّلت أسعار المشتقات النفطية[3]، وأصبح سعر ليتر البنزين أوكتان 95 يساوي 13500 ليرة سورية، والمازوت الحرّ 11550 ليرة لليتر الواحد، بارتفاع 300% تقريبًا عمّا كان عليه قبل صدور القرار، ورفعت أسعار الإسمنت، فوصل سعره إلى 1760000 ليرة سورية للطن الواحد، بعد أن كان سعره 700000 ليرة سورية[4]، وتبع ذلك ارتفاع في أسعار المواصلات[5] والاتصالات[6] والأدوية[7] وأجور الطبابة، حيث ضوعفت عدة مرات منذ بداية عام 2023، ووصلت نسبة الارتفاع إلى حدود 500%[8]، وكذلك بلغت نسب ارتفاع المياه والمواد الغذائية والملابس والمعاملات الإدارية والضرائب 500%، وهي قابلة للزيادة باستمرار. بالمقابل أصدرت الحكومة قرارات تتعلق بزيادة رواتب الموظفين والقطاع العام، وعددهم نحو مليونين ومئة ألف موظف، تعادل 100%[9]، ليصل متوسط رواتب الموظفين إلى نحو 300 ألف ليرة سورية، أي “25 دولارًا” تقريبًا، وهي زيادة لا تغيّر من الواقع شيئًا، حيث بلغت تكاليف الحد الأدنى للمعيشة لأسرة مؤلفة من 5 أفراد، في شهر آذار/ مارس، بحسب برنامج الأغذية العالمية، نحو 2.750.000[10]، ما يعادل ” 200 دولار” تقريبًا.
ومع كل ما سبق، كشفت اعتمادات مشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2024 أن السوريين في مناطق النظام أمام موازنة تقشفية لا تدعم الإنتاج ولا العاملين، وكانت موازنة العام الحالي 35500 مليار ليرة سورية[11] ما يعادل نحو 2.5 مليار دولار، بحسب سوق الصرف الحالية، أي إنّها أقل من نصف موازنة عام 2023 التي كانت تعادل 5.5 مليار دولار، ولا نعلم مصير هذه الاعتمادات الشحيحة (مقارنة بالأعوام السابقة) هل ستُنفق بكاملها، أم سيُدوّر قسم كبير منها لموازنة 2025؟
وتعددت الأسباب التي تقف وراء سياسة رفع الدعم، ويمكن تقسيمها إلى أسباب داخلية وأخرى خارجية.
أولًا الأسباب الداخلية: منها التي طرحتها حكومة النظام السوري[12]، بحسب ما صرّح به حسين عرنوس رئيس حكومة النظام السوري، كتخفيض العجز في الموازنة العامة، وتحسين مستوى معيشة المواطنين، وتوزيع الدعم على مستحقيه، وتمويل زيادة الرواتب، ومكافحة الفساد والهدر الكبير في المواد المدعومة. وهي أسباب موضوعية، ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسباب آثار الزلزال الذي ضرب شمال سورية في 6 شباط/ فبراير 2023، وتأثرت به مدن حلب وإدلب خصوصًا، إضافة إلى طول مدة الحرب، وتسخير موارد الدولة للآلة العسكرية، وخروج أهم آبار النفط والغاز عن سيطرة النظام، وتحكّم فئة أمراء الحرب الذين جمعوا ثروتهم خلال الحرب -بدعم مباشر أو غير مباشر من الفئة الحاكمة- في مقدرات البلاد وسيطرتهم على كل القطاعات التي تدرّ دخلًا، وانهيار القطاع الزراعي والصناعي نتيجة قلة الدعم وكثرة الإتاوات وضعف الإنتاج وارتفاع الضرائب، وتضرّر القطاع السياحي لانعدام الأمن، وانهيار قطاع المواصلات نتيجة إغلاق أغلب المعابر مع دول الجوار وعددها 19 معبرًا، يسيطر النظام السوري على نصفها تقريبًا، وتعاني جميعها مشكلات مختلفة؛ فمعبر نصيب مع الأردن يواجه إغلاقات متكررة وطول فترة انتظار الشاحنات لتتمكن من العبور، بسبب كثرة تهريب الحبوب المخدرة، ومعبر كسب مع تركيا مغلق أمام الحركة التجارية، ومعبر البوكمال يخضع لسيطرة الميليشيات الإيرانية، ويتعرض لهجمات الخلايا المتبقية من عناصر (داعش) على الطريق المؤدية إليه، أما المعابر مع لبنان، وأبرزها معبرا المصنع والدبوسية، فقد تأثرت بالإغلاق الطويل، نتيجة جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية والسياسية التي يمر بها لبنان.. وغيرها.
ثانيًا: الأسباب الخارجية، ونذكر منها:
- عرقلة التطبيع مع الدول العربية، فبعد عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، كان من المتوقّع أن يتجاوب مع المبادرة العربية، ويقوم بخطوات فاعلة لتنفيذ التفاهمات. لكنّ النظام لم يفعل شيئًا سوى أنه صوّر العودة وكأنّها انتصارٌ لسياسته القائمة منذ عام 2011، وما يقوم به من خطوات لا يتعدّى إطار المراوغة السياسية.
- الحرب الروسية الأوكرانية وما رافقها من فرض حصار قاسٍ على روسيا، الحليف الأقوى اقتصاديًا وعسكريًا للنظام السوري، إذ قلّص ذلك قدرات روسيا، فخففت الدعم.
- الضغوطات الإيرانية لتحصيل مكاسب اقتصادية وسياسية ظهرت من خلال السيطرة المطلقة للميليشيات الإيرانية على بعض المناطق، لا سيّما مناطق شرق سورية التي تحوي عددًا من حقول النفط المكتشفة حديثًا، ومن خلال مطالب إيران بالمبالغ التي دفعتها خلال السنوات السابقة، بالمقابل أوقف النظام السوري أغلب الاتفاقات الاقتصادية، ولم يسمح بتنفيذها.
- الأزمة اللبنانية -إذ يُعدّ لبنان متنفّس الاقتصاد السوري- وما رافقها من حجز مليارات الدولارات يعود أغلبها لأشخاص مقرّبين من رأس النظام السوري كانوا قد نهبوها من السوريين. وندعو المنظمات الحقوقية للمطالبة بها لمساعدة اللاجئين هناك.
- جائحة كورونا وتداعياتها، حيث شملت فترة الإغلاق الطويلة كلّ مناحي الحياة، لا سيّما حركة الملاحة الجوية، وأدّى ذلك إلى خسائر هائلة في الاقتصادات العالمية والمحلية، ولم يسلم منها الاقتصاد السوري المنهار أصلًا.
- العقوبات الغربية -ولعل أشهرها “قانون قيصر”[13]– التي فرضتها دول أوروبا وأميركا وأستراليا وكندا واليابان وغيرها، على النظام السوري والمتعاونين معه، للضغط عليه بغية الوصول إلى حل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254[14].
- عدم رغبة اقتصادات ضخمة كالصين في الاستثمار في بيئة مضطربة مثل سورية؛ لكونها تدرك أن الاستثمار في ظل الوجودين الروسي والإيراني وغياب الحل السياسي ليس له جدوى.
تداعيات القرارات الاقتصادية على المجتمع واستقرار النظام
وفقًا لمؤشر الجوع العالمي، تأتي سورية في المرتبة 100 من بين 125 دولة شملها المؤشر للعام 2023، بدرجة 26.1. وبذلك يكون لديها -إلى جانب اليمن- أعلى مستوى للجوع في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، حيث بلغ متوسط مؤشر الجوع 11.9[15].
شكّلت القرارات الاقتصادية المتعاقبة التي تصدرها حكومة النظام السوري صدمة، وذلك نتيجة الكم الهائل من السلع الأساسية التي رفع عنها الدعم عمليًا، وكلّها تمسّ حياة المواطن مباشرة، وقد أدّت إلى زيادة بؤس الفقراء الذين يزيد عددهم على 13 مليون شخص[16]. ونحن نمضي في وقتٍ تضاعف فيه النفقات على أصحاب الدخل المحدود، من موظفي القطاع العام والعاطلين عن العمل، لذلك فالتبعات الاقتصادية لا تقلّ ضراوة عن الصراعات العسكرية، ولا سيما إذا علمنا أنّ 90% من السوريين هم بالأصل يعيشون تحت خط الفقر[17].
ومن النتائج المباشرة للقرارات الاقتصادية التي أصدرها النظام السوري ورفع بموجبها أسعار المواد، التضخّم المستمرّ، مقابل عدم وجود دخل للمواطنين يمكّنهم من التسوق، فنشهد حالة تكدّس للبضائع وانخفاضًا للعملية الإنتاجية وشللًا لعمليات الاستيراد والتصدير، لعدم قدرة المنتوجات السورية على منافسة الأسواق الخارجية، إذ نالت سورية المركز الثالث عالميًا، من حيث مستوى التضخم السنوي الاقتصادي بنسبة 238 %، بعد كلٍّ من فنزويلا وزيمبابوي، بحسب مؤشر “هانكي” لقياس معدلات التضخم الاقتصادي في العالم[18].
وأدت القرارات إلى زيادة حركة الاحتجاجات والاضطرابات في مدن سورية متعددة، حيث يواصل سكان محافظة السويداء في جنوب سورية تظاهراتهم المستمرة منذ 7 آب/ أغسطس 2023، احتجاجًا على الارتفاع الكبير في تكاليف المعيشة، بعد رفع الدعم الحكومي عن المحروقات، وتحوّلت المطالب الاقتصادية سريعًا إلى مطالب سياسية تدعو إلى رحيل بشار الأسد عن السلطة، وأدّت إلى إغلاق مكاتب حزب البعث في المحافظة، والسيطرة على مكتب مجلس الشعب، وأضيفت إلى مطالب المحتجين في سورية، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 -تاريخ بدء حرب الإبادة التي يقودها الجيش الإسرائيلي الغاصب على الشعب الفلسطيني صاحب الأرض- شعارات تدعو لوقف العدوان ورفع الظلم وإنهاء الاحتلال، رافعين أعلام فلسطين مع أعلام الثورة السورية. ومن انعكاسات الحرب على غزة، تجميد المناورات السياسية التي يجريها المبعوث الدولي غير بيدرسون ووزراء خارجية الدول العربية، خصوصًا الأردني والمصري، لمحاولة الوصول إلى حل سياسي بالتوافق مع النظام السوري، حيث صارت الأولوية الآن، عربيًا أو دوليًا، تتمحور حول محاولات إنهاء العدوان على غزة.
ودفعت تلك القرارات إلى مزيدٍ من التدخلات الإقليمية والدولية مع ارتفاع خطر التقسيم، حيث تزداد حالة الاستقرار في المناطق الرئيسة الثلاث الخارجة عن سيطرة النظام؛ فلكلّ منطقة خصائصها الاقتصادية والتجارية، ففي شرق الفرات، حيث تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية/ قسد مدعومة بالتحالف الدولي، تشكل الثروة النفطية وحقول الغاز أهم الموارد، وفي شمال غرب سورية الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”، تأتي كثافة السكان وحركة التبادل التجاري الضخم مع تركيا بموارد مهمة للجهات المسيطرة على المنطقة، وفي مناطق الشمال السوري (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام) التي تسيطر عليها فصائل مدعومة من تركيا، أقيمت مشروعات خدمية تشمل إعادة تأهيل البنية التحتية بحيث تجذب اللاجئين الذين على أراضيها. ومن جانب آخر تزيد إيران من حجم دعمها للميليشيات الموالية لها، وتقوم بعمليات تغيير ديموغرافي تتركز في مناطق دمشق ومناطق شرق الفرات الممتدة من مدينة البوكمال حتى الرقة وحلب.
من جانب آخر، أدّى تدهور الوضع الاقتصادي في سورية إلى حدوث حركة نزوح جديدة إلى لبنان، وبحسب التقديرات الحكومية يوجد في لبنان 1.5 مليون لاجئ سوري[20]، ويعد لبنان ملاذًا آمنًا نسبيًا مقارنة بسورية، مع وجود فرص عمل بدخل أفضل، ولا توجد إحصاءات رسمية “للنازحين الاقتصاديين”، ولكن أعدادهم تُقدّر بعشرات الآلاف. وفضلًا عن ذلك يُعدّ لبنان أيضًا مقرًّا للراغبين في السفر إلى دول ثالثة كأوروبا أو إحدى الدول العربية. ومن النتائج المباشرة للتصعيد على الحدود اللبنانية الفلسطينية، نزوح كثير من أبناء القرى المتاخمة للحدود التي تشهد قصفًا إسرائيليًا متواصلًا نحو منطقة صور والمناطق الشمالية من البلاد، ومن بين النازحين عشرات السوريين المقيمين في تلك المناطق.
آفاق الأزمة الاقتصادية والسيناريوهات المتوقعة
تمرّ مناطق سورية اليوم -لا سيّما المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري- بأزمة اقتصادية منقطعة النظير، ويمكن اختصار موارد حكومة النظام الحالية بما يأتي:
أولًا: المساعدات الإنسانية عن طريق الأمم المتحدة والمنظمات المرتبطة بها وبرامج التعافي المبكر[21].
ثانيًا: نظام الحوالات المالية المرسلة من سوريين يعيشون في الخارج إلى أهاليهم ومعارفهم في الداخل.
ثالثًا: تجارة الكبتاغون والحبوب المخدرة الأخرى، وهي تجارة مربحة، وتُصدّر إلى الأردن ودول الخليج ومصر، وقد وصلت شحنات عدة إلى دول أوروبا.
رابعًا: نظام الضرائب والإتاوات، سواء على المنشآت الصناعية أم الشركات أم المعاملات الإدارية، فرسوم الحصول على جواز سفر فوري من أي سفارة تتجاوز 800 دولار، ورسوم الإعفاء من الخدمة الإلزامية للمقيمين في الخارج تصل إلى أكثر من 10000 دولار.
خامسًا: لا يمكن إغفال بعض موارد الدولة المحلية، مثل معامل الفوسفات التي تستثمرها شركة روسية، لكنها تعمل بالعجز وتتكبد خسائر فادحة لعدم توفر كميات كافية من الغاز لتشغيل المعامل، وهناك أيضًا حقول النفط والغاز الواقعة في مناطق نفوذ النظام السوري، لكن أغلبها تخضع لسيطرة الميليشيات التابعة لإيران، ويوجد بعض الصادرات لا سيّما الزراعية التي توفر جزءًا من احتياجات النظام، إلا أنّ كل هذه الموارد لا يفي بالحاجة، إنما يساعد في البقاء لا النهوض.
تعيش سورية حالة دائمة من عدم الاستقرار، وترتفع توقعات عودة النزاع العسكري في أماكن مختلفة، وبناء على ذلك، تتعدد السيناريوهات التي من الممكن أن تصل إليها الأزمة الاقتصادية، ونذكر منها:
استمرار ارتفاع الأسعار: من المرجح أن تستمرّ سورية في تلقي المساعدات والتحويلات المالية من الخارج، فالبنية التحتية مدمرة، ويزداد العجز لدى الشركات والمؤسسات بمختلف تخصصاتها الإنتاجية. ومن دون ضخ استثمارات جديدة لا يمكن لسورية أن تخرج من مأزقها، ومن الواضح أن سياسة النظام القائمة على رفض تقديم أي تعاون أو تنازل لإنجاز الحل السياسي ستؤدي إلى توسع الأزمة وزيادة إفقار الشعب، إلا في حال حدوث متغيرات غير متوقعة، وبحسب هذا السيناريو، سنشهد تضخمًا جديدًا في الأسواق، وانهيارات متتالية للعملة المحلية، كما يحصل في لبنان.
انتشار الفوضى والفلتان الأمني: تشهد مناطق سيطرة النظام، في ظلّ الغلاء المعيشي واليأس من الوصول إلى حلول سياسية، حالات انتشار لعصابات الخطف والسلب والسرقة، وباتت تأخذ أشكالًا أكثر تنظيمًا وأكثر قوة، ومن المتوقّع أن تزداد وتيرة هذه العمليات، سواء أكانت فردية أم جماعية، لعدم رغبة الأجهزة الأمنية في توقفها، وذلك لوجود مصالح مشتركة، أو لعدم قدرتها على ذلك.
انحسار الأزمة والسيطرة عليها: وذلك من خلال تسريع تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وهذا الأمر ما زال ممكنًا، ولا سيما مع تعالي أصوات الاحتجاجات ونشاط حركات المعارضة الداخلية والضغط من أطراف المبادرة العربية، وفي حال وجود إرادة سياسية حقيقية لدى جميع أطراف النزاع المتداخلة في سورية لإنهاء العنف والمعاناة والدمار، على أن هذا السيناريو يتطلب توافقًا بين الدول الإقليمية والدولية لتوحيد المساعي في سياق تعزيز احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي، والالتزام بالمبادئ الديمقراطية والشفافية والمساءلة، وكذلك يمكن المضيّ قدمًا في تنفيذ مبادرة “خطوة مقابل خطوة” التي قدّمتها المجموعة العربية، وهي تضم إضافة إلى دول الخليج العربي كلًّا من مصر والأردن. وهي مبادرة جادة بدأت خطواتها بإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية، إلا أنّها لم تحظَ بعدُ بالتجاوب المطلوب من النظام السوري لتنفيذ باقي الخطوات، وفي حال التجاوب سيكون هناك ضغط لتجميد العقوبات، وستُفتح فرص العمل والاستثمار، وتبدأ عملية إعادة الإعمار، وتزداد الرواتب طردًا مع عودة اللاجئين، ما يشكل بداية الازدهار والنهوض.
خيارات النظام في مواجهة أزمته الاقتصادية
تتعدد الحلول والمبادرات التي من الممكن أن تُخرج سورية من أزمتها حاليًا منها:
أولًا: لعلّ الحلّ الأمثل لما يجري هو المضيّ قدمًا في تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، فالمبادرات المقترحة من جنيف إلى المبادرة العربية جميعها تدور حوله، وكلّ اللاعبين الإقليميين والدوليين يرهنون إعادة العلاقات مع النظام السوري ودعم آلية إعادة الإعمار بالمضي قدمًا بالحلّ السياسي[22]. لكن يبدو أنّ النظام السوري لديه حسابات مختلفة، وهو لا يرغب في تقديم أي شكل من أشكال التنازل أو المصالحة مع شعبه، ويرى في دعم حلفائه -ولا سيما روسيا وإيران- مخرجًا لأزماته؛ فإيران التي صدّرت على مدى سنوات النزاع الطويلة النفطَ إلى سورية عبر الخط الائتماني ما تزال مستمرة في دعمه، وإن تقلصت قدراتها نتيجة الأوضاع الداخلية في إيران والضغط من الدول الغربية والعربية التي بدأت تعيد علاقاتها معها، وروسيا التي دخلت معه الحرب بشكل مباشر، وكان سلاحها الجوي العامل الحاسم في هذه المعركة، ومكّنته من المناورة على منصات التفاوض في آستانة وجنيف، احتفظت لنفسها بقاعدة حميميم شرق اللاذقية، واستأجرت ميناء طرطوس لنصف قرن، وهي اليوم تعاني تبعات الحرب في أوكرانيا وما رافقها من قطيعة غربية أميركية مزدوجة، أدت إلى تقلص دورها وإن نسبيًا في سورية.
ثانيًا: العودة إلى المحيط العربي من خلال المضي قدمًا بتنفيذ خطوات المبادرة العربية التي تهدف -بحسب وثائق- إلى محاربة تجارة الكبتاغون وتحديد طبيعة العلاقة مع إيران، وتحجيم دور الميليشيات الأجنبية وتهيئة ظروف مناسبة تسهم في إعادة اللاجئين. ومن خلال تنفيذ ما سبق، يمكن للشركات العربية أن تستثمر أموالها في مشروعات إعادة الإعمار.
ثالثًا: الحصول على دعم أطراف أخرى مثل الصين، لكن لا يمكن لأحد أن يستثمر أمواله في بيئة غير مستقرة وآمنة، ولكلّ لاعب دولي أو إقليمي حساباته، وما دام الوضع الراهن في سورية قائمًا، فمن المستبعد أن تخاطر الشركات الصينية باستثمارات ضخمة.
خاتمة
يعيش أغلب السوريين في الداخل حالة فقر وعوز شديدة، نتيجة انهيار القطاعات الإنتاجية وندرة فرص العمل وتدني مستوى الأجور، مع ما يرافق ذلك من فلتان أمني ويأس وفقدان للأمل وضياع لمستقبل فئة الشباب، ولم يبقَ في جعبة النظام سوى الاستمرار في رفع الدعم حتى رفعه نهائيًا، مع فرض مزيد من الضرائب والإتاوات، لتمويل حاشيته وإسكات المتنفعين من بقائه. وعلى الرغم من استمرار الاحتجاجات، وازدياد حالة التذمّر الشعبي من القرارات الاقتصادية السلبية على المجتمع التي تهدد بعودة النزاع العسكري أو تقسيم سورية إلى كانتونات، فإنّ خيارات النظام لمواجهة تلك العقبات محدودة، ولا سيما مع تقلص قدرات داعميه، ورفضه المضي قدمًا في أي من مبادرات الحل السياسي.
[1] ما وراء البيانات: توثيق الخسائر في صفوف المدنيين في سوريا، الأمم المتحدة، 11/5/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/44FmagW
[2] Briefers Stress to Security Council Syria’s Worsening Situation Needs Fully Funded Humanitarian Response Plan, 12-Month Extension of Cross-Border Aid Mechanism, United Nations, 29/6/2023, accessed on 14/5/2024, at: https://bit.ly/4akfFBe
[3] التجارة الداخلية وحماية المستهلك تعدّل أسعار المشتقات النفطية، وكالة سانا، 15/8/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/3JZpr0X
[4] رفع سعر الإسمنت في سوريا إلى مستوى التعادل مع السوق السوداء، وكالة أوقات الشام، 10/10/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/3wxOg16
[5] تحديد تعرفة الركوب لوسائط النقل العامة بدمشق، وكالة سانا، 16/8/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/4bwYBcg
[6] تعديل أسعار خدمات الاتصالات اعتبارًا من بداية تشرين الثاني القادم، وكالة سانا، 25/10/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/3K752XP
[7] دون إعلان رسمي.. النظام السوري يرفع أسعار الأدوية بنسب تصل إلى 100%، تلفزيون سوريا، 7/12/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/4bwBHT7
[8] حسام قره باش، رفع أسعار الأدوية بنسب تتراوح بين 70 إلى 100٪ وإنتاج 14 ألف صنف، صحيفة تشرين، 6/12/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/3WJS6if
[9] الرئيس الأسد يصدر مرسومين بزيادة الرواتب والأجور المقطوعة للعاملين المدنيين والعسكريين وزيادة المعاشات التقاعدية بنسبة 100 بالمئة، وكالة سانا، 15/8/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/4aiDOs3
[10] Syria – Market Price Watch Bulletin, March 2024, WFP, 9/5/2024, accessed on 14/5/2024, at: https://reliefweb.int/report/syrian-arab-republic/syria-market-price-watch-bulletin-march-2024
[11] مجلس الوزراء يوافق على تحديد الاعتمادات الأولية لمشروع الموازنة العامة للدولة للعام 2024 بمبلغ 35500 مليار ليرة، وزارة المالية، 23/10/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/4an9Djk
[12] المهندس عرنوس للوطن: هيكلة الدعم ضرورية لأسباب اقتصادية واجتماعية وتخصيص كتلة مالية لدعم الأسر الأكثر فقرًا ودعم الإنتاج، وزارة المالية، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/4asnfKw
[13] وقع الرئيس الأميركي على “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا عام 2019” ليصبح نافذًا بتاريخ 20 كانون الأول/ 2019، يحمل القانون اسم المصور السوري الذي شارك آلاف الصور التي توثق التعذيب في سجون النظام السوري، وهو يهدف إلى تعزيز المساءلة عن أعمال العنف والتدمير التي يرتكبها النظام السوري التي تسببت في مقتل مئات آلاف من المدنيين واعتقال آلاف تعسفيًا، يتضمن حظر السفر إلى الولايات المتحدة، والعزل عن النظام المالي الأميركي للأجانب الذين يموّلون أو يشاركون في نشاط عرقلة التوصل إلى وقف إطلاق النار أو منعه أو تعطيله أو حلّ سياسي للصراع في سورية؛ ولأفراد عائلاتهم، إضافة إلى إجراءات أخرى، تستهدف من ييسرون استحواذ نظام الأسد على سلع أو خدمات أو تقنيات تدعم نشاط النظام العسكري وصناعاته في مجال الطيران والنفط وإنتاج الغاز، والمستفيدين من إعادة الإعمار.
Office of the Spokesperson, U.S.Department of State, Caesar Syria Civilian Protection Act, 17/6/2020, accessed on 14/5/2024, at: https://bit.ly/4bc4fAW
[14] قرار صوت عليه مجلس الأمن في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2015 ينص على بدء محادثات سلام في سوريا برعاية الأمم المتحدة اعتمد بيان جنيف وبيانات فيينا الخاصة بسورية أرضية لتحقيق عملية انتقال سياسي بهدف إنهاء النزاع المستمر في سورية؛ على أن يكون الشعب السوري هو من سيحدد مستقبل سوريا. المكتبة الرقمية للأمم المتحدة،
Resolution 2254 (2015) / adopted by the Security Council at its 7588th meeting, on 18 December 2015, accessed on 14/5/2024, at: https://bit.ly/3UY0JV9
[15] تُحسَب درجة المؤشر العالمي للجوع لكل دولة بناء على 4 مؤشرات فرعية، وهي: نقص التغذية، تقزم الأطفال، هزال الأطفال، وفيات الأطفال
Global Hunger Index, Syrian Arab Republic, accessed on 14/5/2024, at: https://bit.ly/4bfoRsd
[16] ثماني سنوات من الأزمة في سوريا، أوكسفام، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/4dB0gzr
[17] United Nations, MEETINGS COVERAGE SECURITY COUNCIL, 9363RD MEETING (AM), 29/6/2023, accessed on14/5/2024, at: https://bit.ly/4akfFBe
[18] Prof. Steve H. Hanke, Hanke’s Inflation Dashboard, 23/3/2023, accessed on 14/5/2024, at: https://bit.ly/4aiRa7J
[19] كان سعر صرف العملة المحلية في سورية عام 2011 يعادل 50 ليرة مقابل الدولار الواحد، وبات اليوم يعادل 15000 لكل دولار أميركي، ورفعت حكومة النظام السوري دعم مادة المازوت عن عدد كبير من المركبات والقطاعات الصناعية والحيوانية، وخفضت كميات مازوت التدفئة إلى 50 ليترًا لكل بطاقة عائلية غالبًا ما تصل إلى العائلات بعد انتهاء الحاجة إليها، ويباع ليتر المازوت الحر بسعر 12000 ل.س تقريبًا.
[20] لبنان، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئيين، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/4dCPHMn
[21] Middle East and North Africa, Syrian Arab Republic, Overview of the humanitarian response in the Syrian Arab Republic , OCHA, accessed on 14/5/2024, at: https://bit.ly/4bEXQhl
[22] جوزيف بوريل، لم تتحقق الشروط لتغيير سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا، بعثة الاتحاد الأوربي إلى سوريا، 20/6/2023، شوهد في 14/5/2024، في: https://bit.ly/3WGFGHZ
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة