أما وقد تغير زمننا كثيراً، نحن الذين شغلت السياسة جلّ أعمارنا، فقد أصبحت قناعاتنا وتصوراتنا عن دور السياسة في تغيير أوضاعنا العامة، محل شكوك كبيرة تطاول كل مرجعيات وأدوات فهمنا وتعاملنا مع الواقع. فالسياسة كما وعينا عليها وعرفناها، قبل الانتفاضات والثورات العربية؛ تمثلت في قوى وأحزاب لها برامج وشعارات، تتفارق بين الولاء للسلطة ومعارضتها لها، لكنها تتلاقى جميعها بمختلف مسمياتها، على تداول السياسة كشأن ووظيفة نخبوية، لا صلة للشعب فيهما، إلا بكونه الجمهور المُخاطب والمُستهدف بالتعبئة والتأطير. طيلة التجارب السياسة الماضية، كان تبرير العجز في الواقعين السوري والعربي، الأطروحة التي تغطي بها كل الأحزاب السياسية من يمينها إلى يسارها، عجزها التاريخي وفشلها المزمن في التصدي لقضايا وهموم الناس.
رغم تنامي الاهتمام في العقدين الأخيرين، بمسألة الديمقراطية ودورها في العمل الحزبي والسياسي، بقيت مادة للجدل والتنظير أكثر منها ضرورة عملية لبناء حوامل سياسية، تتيح أشكال المشاركة السياسية المُنتجة. كبرنا في سوريا جيلاً بعد جيل على اعتقاد أن الانتماء لجماعة سياسية، يعني في صلبه، الالتزام بكل ما تؤمن وتتبناه وتمارسه تلك الجماعة، والتي تحدد قياداتها المركزية أكثر من أنظمتها الداخلية، مساحات النقد والانتقاد المتاحين ضمن أطرها الداخلية. لم يكن لدى الأحزاب السياسية الدائرة في أفلاك السلطة، مشكلات أو تحديات تؤرق وجودها، فهي مصانع لتدجين منتسبيها على هدى عقيدة الحزب الحاكم، وبما يُساير قيود وضوابط الهاجس الأمني للسلطة. شكّلت الجبهة الوطنية التقدمية منذ تأسيها في بداية سبعينات القرن الفائت، الفهم السلطوي لماهية الأحزاب المرغوبة في سوريا. بالمقابل كانت أزمة العمل السياسي أوضح ما تكون لدى تيارات وأحزاب المعارضة، وأبرز مظاهر تلك الأزمة، ضعف بنيانها الداخلي على مواجهة سلطات مُستّبدة وقوية تحتكر كل حقول الشأن العام، وترفض أصلاً وجود معارضات سياسية في وجهها، ولا تترك أمام من يعارضها من قوى وأفراد سوى خيارين، إما الملاحقة والسجون والتغييب وراء الشمس كما اختبره آلاف السوريين في العقود الأسديّة الماضية، أو الكف عن النشاط السياسي إلا في الحدود الضيقة التي تسمح بها السلطة في أوقات معينة، سرعان ما تتراجع عنها – كما في تجربة ربيع دمشق بداية الألفية الثالثة – والتي لولا قطع سيرورتها بقرار السلطة إغلاق المنتديات، واعتقال رموز الحراك المدني آوانذاك، لكانت البلد أمام آفاق واعدة بإحياء السياسة، وإطلاق ديناميتها المجتمعية.
كانت ردة فعل السلطة تلك، تأكيداً قاطعاً على مفهومها الحصري للسياسة، بوصفها ايديولوجيا جامعة مانعة، تحيل السوريين جملةً وتفصيلاً، إلى جمهور تجديد البيعة الأبدية ” للقائد المؤله والضامن وجود الوطن والدولة والشعب”. ابتلع هذا المفهوم في تطبيقاته السلطويّة الراسخة، كل الظواهر السياسية القائمة في المشهد السوري، لم تنجُ من سطوته حتى التجربتين السياسيتين الفلسطينية والكردية، على اختلاف قضايا وسياق وظروف كلٍ منهما.، فقد شكلتا بدوريهما مثالين بارزين، على محاولات النظام خلال عهدي الأسد الأب والأبن، الاستحواذ والسيطرة على حركات وتيارات وأحزاب كلٍ منهما. وتوظيفها وتدجينها بأشكال متعددة، وفق حسابات النظام الداخلية وصفقاته الخارجية. هكذا كان تجفيف السياسة من خلال السيطرة على قواها وتعبيراتها التنظيمية، هو المعادل الموضوعي لدور السلطة في تصحير سوريا من السياسة، والإمساك بحواملها وأدواتها ومنابرها، ما بين الحظر وتدفيع أثمان كبيرة، لمن يرفض هذه المعادلة القسرية، أو الإباحة المشروطة بتوظيف السياسة لصالح النظام وأجنداته العلنية والمخفية. هكذا انتصبت أيضاً حقائق اختناق السياسة، وهي تحصد تطلعات أجيال بأكملها، فُرض عليها الاختيار بين الاشتغال بالسياسة، كوسيلة لاستنقاع الواقع السياسي وتدوير مياهه الآسنة، بذات المتوالية من الخطابات والشعارات المستهلكة والمتهالكة، أو التصفية المادية والمعنوية لكل من يختار السياسة كأداة كفاحية لتغيير الواقع والانتقال إلى حياة حرة كريمة. لم تترك السلطة خياراً ثالثاً يوحي بوجود فرص وإمكانيات، تحيل السياسة إلى فن الممكن، في ظل قبضة شمولية تقطع بين المجتمع والسياسة. ذاك الاختناق الذي أطبق على الحياة السياسة في سورية لأكثر من أربعة عقود، يفسر المعنى السياسي لاندلاع الثورة السورية، ودلالات غياب قوى سياسة منظمة تقود الحراك الثوري منذ بداياته، لكن التجارب السياسية التي قامت على ضفاف الثورة وخلال محطاتها، فتحت بدورها هموم وتساؤلات وإشكاليات جديدة، لاسيما مع تبلور عاملين حكما أغلب تلك التجارب، وهما:
أولاً: دور الجغرافيا السياسية (داخل / خارج) في تشتيت وتمزيق المجتمع السياسي الناشئ عشية الثورة، لاسيما مع طغيان عسكرة الصراع في الداخل، كنتيجة لبطش النظام في مرحلة مبكرة، ثم وبسبب ضيق هوامش الحراك السياسي في المناطق المحررة، بعد تنامي نفوذ القوى المتطرفة، على حساب تشرذم وضعف فصائل الجيش الحر في تلك المناطق. بينما تصدرت كوادر المعارضة السياسية التقليدية، لمهام بناء مؤسسات الثورة في الخارج، دون امتلاكها رؤية فكرية وتنظيمية، لكيفية تحصين تلك المؤسسات باستقلالية كافية، للحفاظ على هوية مشروعها الوطني. لعل تجارب المجلس الوطني ومن بعده ائتلاف قوى الثورة والمعارضة والهيئة العليا للمفاوضات في نسخته الأخيرة، وجميعها تشكلت في المنافي، تكشف درجات التدخل والضغط والإملاء، للتأثير على توجهات وقرارات تلك الأجسام مع التنويه ” أن المجلس الوطني السوري عكس خلال تجربته القصيرة بعد الثورة، إرادة سورية حرة ومستقلة، قبل ذوبانه في جسم الائتلاف في نهاية عام 2012 “. ورغم احتواء مؤسسات المعارضة القائمة، تشكيلات سياسية نشأت في زمن الثورة، بقيت تفتقر إلى نصاب التمثيل السياسي العادل والمتوازن، ليس فقط بحكم ضعف وأحياناً صورية تلك التشكيلات، وإنما عملياً لأنها افتقدت إلى ثقافة ديمقراطية داخلية، تجعل من تلك المؤسسات، مرجعية تمثيلية حقيقية ومستقلة، لا كما آلت إليه كواجهات تعيد إنتاج نفسها، وفق تبدلات العملية التفاوضية ومهندسي مساراتها، دون النظر إلى أسباب تراجع شرعيتها الثورية، واستحقاقات معالجة مشكلاتها البنيوية. يُعزى إلى هذا العامل الذي يتداخل فيه الذاتي والموضوعي، الإخفاق المتراكم لتلك الحوامل في التصدي للمهام السياسية التي انتصبت في مرحلة الثورة.
الثاني : التأثير السلبي والمتفاقم للمال السياسي، والذي كان يتوقف عليه دعماً أو انقطاعاً، ولادة وموت العديد من الأطر والمبادرات السياسية، حيث شهدت السنوات الثلاث الأولى من الثورة، تضخم ملموس في عقد المؤتمرات، وإحداث الكيانات السياسية، اعتمد أغلبها على مصادر تمويل محلية وخارجية، سواء لدوافع وأهداف سياسية معينة، أو تعبيراً عن طموحات أشخاص لتولي أدوار قيادية، من خلال واجهات سياسية مدعومة من قبلهم. ما أن تقلصت قنوات الدعم والتمويل مع المتغيرات الدولية والإقليمية التي عصفت بالقضية السورية، حتى تفككت وتلاشت العديد من الكيانات السياسية، التي كانت ظهرت على الساحة. ساد بفعل هذه الظاهرة الارتجالية والاستعراضية في التعامل مع فكرة التنظيم السياسي، مناخ من الإحباط لدى قطاع واسع من جيل الشباب على وجه الخصوص، افتقد إلى نموذج سياسي فاعل، ينجذب إليه ويهتدي به كحالة سياسية نشطة ومستقلة من كافة النواحي. بدلاً من بناء روافع سياسية تنمي روح العمل الجماعي والمؤسساتي، وتربط بين أهداف الثورة وطنياً وأخلاقياً، والوسائل والآليات الكفيلة بتحقيقها، تغلغلت ثقافة الفردانية والوجاهة والولاء والمحسوبية، ونبتت الطفيليات المضادة لنهوض وعي سياسي تحرري، في ظل توغل معادلة مجحفة تقوم على شراء الذمم والضمائر، لبيع مواقف سياسية تعكس روح التنازل والمساومة على مبادئ وأهداف الثورة.
سقطت أقنعة سياسية كثيرة، من مختلف التيارات والاتجاهات، واتسعت الهوة بين مجتمع الثورة، والقوى التي تدّعي الدفاع عن حقوقه. وبصورة تراجيدية اعتلى الهواة ونجوم الأضواء المسرح السياسي، فيما توارت السياسة كممارسة عقلانية وأخلاقية، في إدارة شؤون الثورة ومجتمعها المكلوم، واستحالت حلبة للمزايدات المفتوحة، لا نواظم أو معايير تضبط فوضاها العارمة. حتى الأصوات النقدية والرافضة لما أمست عليه الحالة السياسة في حقبة الثورة، شلّها العجز عن ممارسة السياسة في بيئة طاردة للعمل السياسي الخلاّق، بيئة يتنازعها عماء الإسلام السياسي المؤدلج وتجاربه الفاشلة والمريرة، ويضاعف من إملاقها اعتكاف القوى الوطنية، وانشغالها باللطم والندب، عوضاً عن تجميع واستنهاض قواها المبعثرة.
تلك الحقائق المُحزنة لم تتوقف عند حدود اليأس، من ارتكاس الواقع السياسي وحوامله الهشة، إذ تركت آثاراً عميقة على أجيال وأعمار مختلفة أحيت الثورة الآمال لديها، بعودة المياه إلى الحياة السياسية مجدداً بعد انقطاعها عقوداً طويلة، واستيقظت مجدداً على محنة السياسة، ومشكلاتها الشائكة والمعقدة، ومن أشدها خطورةً؛ التسليم بفكرة عجز السوريين سياسياً عن تقرير مصيرهم الوطني بأيديهم، وما ينطوي على هذه الفكرة من تنامي إحساسهم الجمعي بلا جدوى التحرك والنشاط السياسي، بل والتسليم بما هو أكثر من ذلك، حينما يغدو العجز عن مواجهة طبقة سياسية فاسدة تتصدر المشهد بكل جهلها واستلابها وألاعيبها، مؤشراً لافتاً على تأخر ولادة بدائل سياسية، تنقذ مشروع التغيير الوطني الذي حملته الثورة.
يقول ابن الثورة الجزائرية المفكر الراحل فرانز فانون في كتابه معذبو الأرض ” لا بد لكل جيل أن ينتشل رسالته من وسط الظلام، فإما ان يحققها وإما أن يخونها ” وهي مقولة فكرية وصيحة ثورية لكل زمان ومكان، ويبدو أن واقعنا الراهن يستدعيها أكثر من أي وقتٍ مضى، لاسيما أن الظلام الذي داهم رسالتنا السورية من كل صوب، يكاد يغطي على واقع ودروب من ثاروا لأجلها. من أكثر تجليّات هذه الحقيقة المأساوية، غياب رؤية وخريطة طريق للخروج من قلب الظلام، وتكمن المفارقة في التغطية على هذه المهمة الجوهرية، بالإصرار على استعادة تراثنا وتجاربنا السياسية البائدة، مع أن عصر الأفكار وتقنيات تحققها في عالم سريع التدفق والجريان، لا يتسع صدره لهياكل وأطر سياسية غير قادرة، على تحديث أفكارها وبرامجها وأدواتها، حتى ولو اكتسبت مشروعيتها من أنبل القضايا التي تدافع عنها.
مسؤوليتنا كأجيال اختبرت السياسة بين أسوار الحرمان السياسي المزمن، وعايشت تجاربها كصيغ حزبية وتنظيمية مغلقة، أن تحرر عقولها من شرانق الإيديولوجيا وأغلفتها المتصلبة. علينا أن نخرج أولاً من ثقافة إسقاط وعينا السياسي الذي ألفنا يقينياته ومسلماته على الواقع، وتغيير مفاهيمنا عن الجماعة السياسية التي صهرت الفرد في قالبها، فقتلت حيواتها بدواعي الحفاظ على وحدتها الداخلية. لا مناص من امتلاكنا وعي جديد، يحقق التفاعل والتكامل بين ثالوث: الكائن الحر، والجماعة السياسية المعبرة عن حريته، ومعرفة لغة العصر واستخدامها لصالح قضايانا الوطنية والإنسانية.
دون ذلك سنبقى كائنات تتغذى على التماثل والتلقين، حتى وهي تردد رسالة الثورة والحرية، تلوذ إلى اليأس في دورة جديدة كلما أعيتها أسئلة الواقع، وتتوسل جيل النصر كتعويض عن افتقادها لشروط النهوض، وقد لا تدري أنها تخون رسالتها بوهم امتلاك الصواب، بما لا يقل عن أولئك الذين يخونون الفكرة وضحاياها عن سابق عمد، فالتحدي الأكبر في اجتراح أفق من وسط الظلام، كي لا ترث الأجيال الشابة فوات أجوبتنا وانسداد وعينا.