هشام عليوان
معنى النكبة عربيّاً
قد يكون قسطنطين زريق (توفّي عام 2000) أوّل من وصف هزيمة العرب في فلسطين عام 1948، بأنّها نكبة، ووثّق الكلمة في نصّ مكتوب. ومن بعده أصبحت الكلمة مصطلحاً سائراً يدلّ على حدث تاريخي بعينه. يقول في كتابه معنى النكبة الصادر في بيروت، عن دار العلم للملايين: “ليست هي بالنكسة البسيطة، أو بالشرّ الهيّن العابر. وإنّما هي نكبة بكلّ ما هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشدّ ما ابتُلي به العرب في تاريخهم الطويل، على ما فيه من مِحَن ومآسٍ”. وصف الحرب بالنكبة، ولم تكن قد وضعت أوزارها بعد. بل كتب كلماته خلال الهدنة الممدّدة من مجلس الأمن قبل استئناف الحرب في منتصف تشرين الأول، من ذلك العام.
وفي الأيام التالية، تمكّنت العصابات الصهيونية التي توحّدت باسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، من تجاوز خطوط مشروع تقسيم فلسطين لعام 1947، وضمّ مناطق شاسعة إلى الدولة اليهودية. كانت أكثر من نكبة، إن كان في المعجم العربي كلمة أكثر تعبيراً منها. تفوّق الجيش الإسرائيلي، عسكرياً على عدّة جيوش عربية، وامتاز عن العرب بوحدة القيادة، وحسن التخطيط، والدعم الخارجي، والزخم الأيديولوجي، وهو ما كان ينقص الجانب العربي، إلا أنّ السلاح الإسرائيلي الأقوى، كان قتل الفلسطينيين العزّل بشكل عشوائي في قراهم وبلداتهم، ولا سيما الذكور منهم، على شكل مجازر وحشية متعمّدة، لتحقيق أمرين: أوّلاً، إشاعة الرعب بين العرب وتفريغ الأرض، وثانياً، ترجيح كفّة اليهود في فلسطين عدديّاً قدر الإمكان، كما ذكر المؤرّخ الإسرائيلي النقدي بيني موريس Benny Morris في كتابه الصادر عام 2008: “1948، A History of the First Arab-Israeli War”.
قسطنطين زريق، وقبل اتّضاح الهزيمة الكاملة للعرب في فلسطين، أرجع أسباب النكبة إلى عدّة عوامل، وأوصى بمعالجتها عن طريق التعبئة الشاملة، وأركانُها: التعبئة الدعائية، والتعبئة المادّية للمجهود الحربي، والتعبئة الاقتصادية. وباختصار، لا يمكن مواجهة مجتمع صهيوني حربي، يجنّد كلّ موارده البشرية والمادّية لاحتلال فلسطين، بمجتمع عربي، مفكّك، جاهل بالخطر الصهيوني، عابث بمتطلّبات الحياة العادية وملاذها. بل إنّ زريق اعتبر أنّ الخطر الأكبر ليس الاحتلال العسكري لفلسطين والاستيطان فيها وحسب، إنّما يكمن الخطر في الصهيونية نفسها. وحتى لو نشأت دولة واحدة في فلسطين التاريخية يعيش فيها العرب اليهود معاً، فسيبقى الخطر قائماً بوجود أقلّية صهيونية نشطة في هذه الدولة الافتراضية.
دور الولايات المتّحدة في النّكبة
مع فداحة الأسباب الذاتية للنكبة، لكنّ الدور الخارجي لا يقلّ خطورة. وهو أيضاً تحوم حوله جملة من الأساطير. قيل إنّ الفلسطينيين فرّوا من بلادهم من دون قتال، أو باعوا أراضيهم للوكالة اليهودية، وهو ترداد للشائعات الصهيونية وحسب، لتبرير الاحتلال وتثبيت شرعيّته. على المقلب الآخر، ليس صحيحاً أنّ الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة آنذاك هم وحدهم من رفض قرار التقسيم، فيما قبِل به الصهاينة، فضاعت الفرصة الذهبية. الصهاينة لم يقبلوا بقرار التقسيم. وعملوا على إسقاطه في الميدان. وليس صحيحاً أنّ بريطانيا هي وحدها وراء النكبة. فالولايات المتحدة ومعها الاتحاد السوفيتي آنذاك كانا متحمّسين جداً لقيام الدولة الصهيونية التي لن تحدّد حدودها النهائية سوى عند استكمال الاستيطان. اعترفا فوراً بها، بل عرض الاتحاد السوفيتي إرسال قوّاته إلى فلسطين لفرض قرار التقسيم، فيما رفضت الولايات المتحدة التدخّل عسكرياً.
الرئيس الأميركي هاري ترومان Harry S. Truman (توفّي عام 1972)، كان واقعاً تحت تأثير الضغوط الصهيونية في بلاده لدعم إسرائيل عندما كان يستعدّ للحملة الانتخابية عام 1948. لذلك، عندما صدر قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني عام 1947، طرح الأميركيون خطّة بديلة عن التقسيم، لأنّها لا تناسب الطموحات الصهيونية، كما ينقل المؤرّخ الإسرائيلي أميتزور عيلان Amitzur Ilan في كتابه The Origin of the Arab-Israeli Arms Race.
لشرح أبعاد الموقف الأميركي الذي أسّس بعد سنوات لدور واشنطن، الراعي الأساسي لإسرائيل، يورد أميتزور الإطار الاستراتيجي الذي نشأ بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، حين جدّدت بريطانيا والولايات المتحدة علاقاتهما الاستراتيجية التقليدية، وهذه المرّة بسبب الخوف من السياسة التوسّعية للاتحاد السوفيتي. لم ينزعج الأميركيون من سعي بريطانيا في تلك الحقبة إلى نسج علاقات الصداقة والنفوذ مع بعض الدول العربية ورعايتها الجيوش العربية في العراق ومصر وشرق الأردن أو حتى منح المساعدة البريطانية في بعض الأحيان إلى جيوش عربية أخرى.
ولمّا نشبت الحرب بين العرب والصهاينة في فلسطين عام 1948، رأت كلٌّ من لندن وواشنطن أنّ هذه الحرب تهدّد مصالح الدولتين كما الاستراتيجية الغربية. من جهة، تفاقمت مشاعر العداء لأميركا وبريطانيا لدى الجمهور العربي. ومن جهة أخرى، تعرّض استقرار أنظمة العالم العربي للخطر، وتلك الأنظمة كانت أساس الاستراتيجية الإقليمية الغربية في المنطقة آنذاك، وبخاصة أنّ هذه الحرب صنعت ظروفاً مثالية لاختراق سوفيتي أو تحرّك عملاء السوفيت. وفي ربيع عام 1948، نظر كبار العسكريين الأميركيين والبريطانيين بجدّية في إمكانية توجّه الاتحاد السوفيتي عسكرياً نحو قناة السويس. وهو ما يعطّل إنتاج النفط في العالم العربي، الذي كان مطلوباً بشدّة لإعادة بناء الاقتصادات في أوروبا الغربية بعد الحرب. كان السيناريو كارثة محتملة.
أمّا الخطّة الأميركية البديلة من قرار التقسيم، فتدرّجت من وضع فلسطين تحت الرعاية الدولية المؤقّتة، وإلغاء قرار التقسيم، على أمل إقناع بريطانيا بتمديد انتدابها على فلسطين. ولما سقط اقتراح الرعاية الدولية، طُرحت فكرة تعيين مفوّض دولي في فلسطين. كانت بريطانيا تريد التخلّص من عبء الانتداب، وتحسين صورتها أمام الدول العربية، حلفائها في المنطقة. أمّا في الولايات المتحدة، فكانت الفجوة تتّسع بين السياسيين في البيت الأبيض، وبين وزارة الخارجية وكبار العسكريين بشأن السياسة المطلوب إنفاذها في فلسطين. فبينما كانت وزارة الخارجية تحاول إقناع الصهاينة بعدم إعلان دولتهم، كانت إدارة ترومان تعمل في اتجاه معاكس، وهو التعامل مع الدولة اليهودية كأمر واقع.
في الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة تحظر تصدير الأسلحة إلى أطراف الصراع في فلسطين، فحاولت رفع الحظر عن إسرائيل لتقديم العون لها. ثمّ فاوضت بريطانيا على الأمر، وفق المعادلة التالية: تتمسّك واشنطن بحظر الأسلحة، على أن توقف لندن إمداداتها العسكرية إلى الدول العربية الحليفة لها، وهي كانت تجري وفق اتفاقات سابقة على الحرب. وبعد مفاوضات شاقّة بينهما، أواخر أيار 1948، طرحت بريطانيا مشروعاً وافقت عليه الولايات المتحدة، وينصّ على:
– فرض هدنة في فلسطين عبر مجلس الأمن، وبمساعدة الوسيط الدولي، ومن يرفض الامتثال له يتعرّض للعقوبات.
– توقف بريطانيا اتفاقات توريد الأسلحة إلى الدول العربية الحليفة، وخاصة إلى الفيلق العربي (الجيش الأردني)، وتسحب الضبّاط البريطانيين من الفيلق المذكور، الذي كان بقيادة الضابط البريطاني غلوب باشا (توفّي عام 1986)، ويتمتّع أفراده بخبرة قتالية، وتسليحه كان الأفضل في معارك فلسطين.
– التخلّي عن كلّ توصيات الأمم المتحدة بشأن مصير فلسطين، لا سيما قرار التقسيم عام 1947، ووضع فلسطين تحت الرعاية الدولية، بوصفها غير عملية وغير قابلة للتطبيق.
– سعي الولايات المتحدة وبريطانيا إلى اقتراح خطّة جديدة للتقسيم تتلاءم مع التطوّرات الميدانية. إذ سيطر الصهاينة على أراضٍ لم تكن محسوبة لليهود في القرار الأصلي للتقسيم، على أن يكون الاتفاق بين إسرائيل والأردن لتحديد الخطوط العامّة، ويبقى وضع القدس قابلاً للنقاش مستقبلاً، وكذلك رسم الحدود النهائية لإسرائيل. وبموجب التسوية، تعترف بريطانيا بدولة إسرائيل.
– كإجراء مؤقّت، ينبغي الحفاظ على خطوط القتال كما تظهّرت قبل إعلان الهدنة، ولا تتغيّر إلا بالمفاوضات.
– على مجلس الأمن فرض حظر شامل على توريد الأسلحة إلى كلّ الأطراف. ولن يكون مسموحاً جلب الدعم الخارجي لأيّ طرف في فلسطين. وتكون بريطانيا والولايات المتحدة من يقود هذه السياسة ويتبنّاها على مستوى عالمي.
بناء على الاتفاق البريطاني الأميركي، حاول مجلس الأمن فرض هدنتين متتاليتين: الأولى في 11 حزيران، والثانية في 18 تموز من عام ١٩٤٨. في هذه الأثناء، أضحى الجيش الإسرائيلي أقوى، والجيوش العربية أضعف، مع نقص الإمدادات بالسلاح والذخيرة. سقط التقسيم، ومعه كلّ المشاريع الأخرى، بما فيها الاتفاق البريطاني الأميركي. وبقيت النكبة.
الآن، ومع تشابه الظروف واستمرار المخاطر، هل تتكرّر النكبة فيكتمل المشروع الصهيوني بطرد من بقي من فلسطينيين في غزة والضفة الغربية؟ المنطقة كلها وليس فلسطين فقط، أمام التحدّي نفسه. ولن ينفع تكرار السياسات والمواقف التي صنعت النكبة الأولى، وإلا لن يمنع شيء تكرار النكبة أو استكمالها.
المصدر: أساس ميديا