د- عبد الله تركماني
يبدو أنّ فرصة السير في طريق المعالجة السياسية للصراع السوري لم تعد مُلكاً لجهة واحدة، بل تحكمها ارتباطات ومصالح متداخلة، زادها تعقيداً طول أمد الصراع وما كرَّسه من نتائج مؤلمة يصعب تجاوزها راهناً، وقد يقود تفاقمها إلى مسار خطير يصل إلى إطاحة أبسط الحقوق الإنسانية، وتدمير مقوِّمات الحياة المشتركة والمعايير الوطنية الجامعة.
وفي هذا السياق هل ثمة فرصة حقيقية لتقدم حل سياسي ينقذ المجتمع والدولة من براثن التفكك والضياع؟
ثمة عدة متغيِّرات حصلت في المشهد السوري وجعلته أكثر استعداداً للتسويات السياسية عما كان عليه طوال ثلاثة عشر عاماً، من أهمها: أولاً، تنامي الحاجة لدى حلفاء النظام لتمرير حل سياسي يخرجهم من حالة الاستنزاف المنهكة، فموسكو التي تتحمل المسؤولية الأكبر في إدارة الملف السوري، تبدو أقل قدرة على تحمُّل مزيد من أعباء استمرار الصراع وأكثر ميلاً لمعالجته سياسياً، للتفرغ لتداعيات غزوها لأوكرانيا. في حين تزداد الضغوط على إيران بعد تفاعلات حرب غزة، ومحاولة منعها من استثمارها لتمدد نفوذها. وثانياً، تزايد الضغط الإقليمي لإطفاء بؤرة التوتر السورية، بعد أن أضحى التخوُّف على أشده مما تخلِّفه هذه البؤرة من استقطابات حادة واحتقانات مذهبية وطائفية، ومن أخطار اجتماعية واقتصادية على بلدان الجوار نتيجة الازدياد المتواتر لأعداد اللاجئين السوريين على أراضيها، والأهم تراجع العرب عن تعويم بشار الأسد، بل مطالبته بالانخراط في تطبيق متطلبات القرار 2254. وثالثاً، تزايد موجة اللجوء السوري نحو أوروبا. ورابعاً، تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية وشيوع رغبة عارمة وضاغطة لدى السوريين بضرورة الخلاص من هذا التردي المريع في شروط حياتهم وعيشهم وأمنهم، ربطاً بتنامي استعدادهم للتوصل إلى حلول تخفف من دوامة العنف وتحفظ وحدة البلاد. ولعلَّ استمرار الحراك الشعبي في السويداء، وتوسع دائرة العمل السوري انطلاقاً من المطالب الخمسة لبيان المناطق الثلاث، يساعدان على الضغط من أجل الانخراط في عملية الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق والقانون، دولة كل مواطنيها الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.
إذ لا تتطور المجتمعات إلا في كنف الدولة، حيث لا سبيل للجماعات لكي تتقدم وتنتج وتراكم وتنظِّم كيانها الداخلي إلا بأن تتحول إلى جماعات سياسية تنشأ الدولة عن اجتماعها السياسي. وتتفاوت الدول في درجة قيمتها وتطور نظمها بتفاوت مستوى التنظيم الذاتي للجماعات السياسية التي تكوِّنها، وبتفاوت درجة نضج فكرة الدولة في وعي تلك الجماعات.
وفي سياق الدولة لا تكتمل السيادة الوطنية من دون تمتُّع كافة المواطنين بالحريات غير منقوصة: حرية الرأي والتعبير، حرية التجارة والتنقل، حرية تشكيل أحزاب وروابط مدنية وسياسية. أي لابدَّ أن تتأصل الديمقراطية في مفاصل الحياة السياسية، بحيث لا تبقى مجرد آلية لانتخابات شكلية، وبالتالي توظف لخدمة الفئات الحاكمة. كما أنّ ممارسة السيادة الوطنية، من قبل سلطة الدولة الحاكمة، تستدعي وجوب وجود معارضة سلمية منافسة تضبط الحكم، من خلال تطلعها للحكم مستقبلاً، واستعدادها للمنافسة في الانتخابات المقبلة الدورية.
وهكذا، فإنّ السيادة الوطنية تتحدد بمدى احترام سلطة الدولة لحقوق المواطنين، وضرورة إشعار الفرد بأنّ الدولة هي الحصن لحمايته، وهي بناء مستقبل زاهٍ لأبناء الوطن كلهم دون استثناء، وما من عوائق دون ترقية الاندماج الوطني، بما يقتضيه من جهود فكرية وسياسية واجتماعية وقانونية كبيرة.
ولأنّ الدراسات المستقبلية تعني القدرة على التحكم في المستقبل من خلال الاستعداد، بمجموعة من المبادرات والخطط، لمواجهة الاحتمالات المختلفة، فإنّ اللامركزية الإدارية الموسّع ليست شراً في حد ذاتها، ولا خيراً في المطلق أيضاً، إن ارتضتها مكوِّنات الشعب السوري واعتمدتها سبيلاً لاحتواء تمايزاتها القومية والطائفية. هي هنا أداة تدبير للاختلاف وضمانة للحد الأدنى من القبول بالعيش المشترك، في ظل دستور عادل ودولة لا مركزية تتخذ من المناطق الجغرافية عنصراً للتنمية وتقوية لمقوِّمات الجامعة السورية الموحدة.
وبعد أن أكدت تجارب الدول الآخذة بنظام الدولة العصرية والتي نجحت في تحقيق طفرات اقتصادية ملموسة ومتميزة، تبين أنّ تنمية العنصر البشري وإتاحة الفرصة له للإبداع والمشاركة الواعية هي في حقيقة الأمر العنصر الحاكم وراء إنجازها وتميُّزها. إذ إنّ الموارد البشرية تحتل المرتبة الأساسية في الاهتمام، على مستوى العالم المعاصر، باعتبارها أهم عنصر من عناصر التنمية. فقد تركزت القناعة بأنّ أي تحوُّل أو تغيير في الحياة لن يكون له تأثير إلا إذا استند على قاعدة إنسانية شاملة، مشاركة واعية وواسعة للبشر في الحكم السياسي، لأنّ التنافس السياسي السلمي هو المقوِّم الفعلي للحياة المدنية الحديثة.
كما أنّ ترسيخ قيم الموطنة، فكرياً وعملياً، لدى أفراد المجتمع ومؤسسات الدولة، أصبحت من واجبات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، هذه القيم التي يأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور، وبالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد والمجتمع، وبمهام الفرد، ومدى الحريات الممنوحة له وأنواعها، وبكيفية تشكيل القرارات السياسية، وكيفية تنفيذها، وبنمط الحكم السائد، وبنظم الحكم العالمية، وبشروط التمثيل النيابي، وبكيفية المشاركة في الانتخابات النزيهة، وتشكُّل المجالس النيابية، وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سوية المواطنة ذاتها، وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقلية وثقافة الراعي والرعية، وكل ما يعيق تحقيق دولة القانون. هذه الدولة، التي إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها ستشكل الرافعة العملية والفكرية لاستمرار الدولة وقوتها من جهة، وترسيخ القيم الإنسانية لشعبها ومكانته بين شعوب العالم من جهة ثانية.
ولا مناص من الاعتراف أنّ الخيار الوحيد الناجع، لوأد الفتن المحتملة في سورية بعد التغيير السياسي، هو تقوية حضور المجتمع المدني بكافة هيئاته كي يقول كلمته لصالح وحدة المجتمع ولحفز روح التفاهم والتعاون بين مختلف الأطراف ولتأكيد الثقة بالدولة ومؤسساتها ودورها العمومي كخير ضامن لوحدة البلاد ومسار تطورها وتقدمها، فالدولة الديمقراطية هي المكان الأمثل لإدارة الخلافات والصراعات سلمياً، مثلما لا يمكن الحديث عن الوحدة الوطنية ووقف مظاهر التفكك وأسباب الفتنة عندما تنحسر أو تنعدم المساعي لتثبيت دور الدولة وتأكيد شرعيتها وعموميتها.
وهذه الأمور المهمة لتطور ونهضة المجتمع السوري لا يمكن تحققها إلا من خلال وعي وتطبيق الديمقراطية، كآلية لإدارة شؤون الناس والمجتمع بصورة مؤسساتية عادلة وصحيحة. والقناعة لدى الغالبية أصبحت راسخة بأنّ الوقت قد حان لإحداث تغيِّرات رئيسية وجوهرية على طريق الإصلاح وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، إيماناً من الجميع بأنّ سنَّة الكون تقتضي التغيير.
والنتيجة إنّ قابلية الدولة لاستعادة دورها التوحيدي لا تزال قائمة ومطلوبة، وما يزيد من فرص النجاح أن يحضر المجتمع المدني بمختلف فئاته وفعالياته ليمارس دوره في حماية الوحدة والتلاحم، وطبعاً كلما تفاقم مأزق القوى المتصارعة وازداد عجزها عن التوصل إلى التوافق، تزداد الأعباء والمسؤولية التي تقع على عاتق قوى المجتمع المدني وأصحاب مشروع الدولة الديمقراطية كي يتجاوزوا ترددهم وسلبيتهم، ويسارعوا إلى تنظيم صفوفهم على قاعدة خط إنساني عريض يدعو إلى تغليب السلم الأهلي على ما عداه.
لقد مرَّ الشعب السوري، خلال الثلاثة عشر عاماُ الماضية، بدروس قاسية، فشبابنا أراد التغيير ويريده، لكنّ أحداث السنوات الماضية بعثت على مخاوف كبيرة. فقد قوبل الكثيرون من مريدي التغيير بالإقصاء والتهميش وبالعنف المفرط. وقد أدى ذلك كله إلى انهيار كيان الدولة، وتقاسمها بين قوى الأمر الواقع.