راشد عيسى
فَتَحَ زعيم «حزب الله» اللبناني صنبور اللاجئين، الصنبور الذي طالما فُتِح لا كرمى لعيون اللاجئين، بل لابتزاز الغرب لأغراض سياسية أو اقتصادية.
التعبير معروف وأقرب إلى اصطلاح سياسي. إنه شكل من أشكال الابتزاز؛ نفتح الصنبور على قدر الاستجابة للمطالب، وهنا، في حالة حسن نصر الله، آخِرِ الواصلين إلى الصنبور، فلا يخفى أن الرجل ناطقٌ باسم النظام الممانع، وهو يرمي إلى رفع العقوبات عن نظام دمشق، حيث وطن اللاجئين المعتقل الذين يعنيهم بخطابه الأخير.
قال نصر الله في خطابه: «لنكن أمام قرار وطني يقول: فتحنا البحر».
ويتابع، مخاطباً السوريين مباشرة: «أيها النازحون السوريون، الإخوة النازحون (استدرك فقال «الإخوة»، ليؤكد أنه إنما يحدب عليهم)، كل من يريد أن يغادر إلى أوروبا، إلى قبرص هذا البحر أمامكم، فاتخذوه (وهنا ضحك) سفناً، واركبوه. غادروا هاجروا».
وفتح ذراعيه على اتساعهما كما لو أنه يمنح اللاجئين البحر هبةً من لدنه.
لكن يظل يحيّرني لماذا ضحك أمين عام «حزب الله»، هل تذكرَ مثلاً وهو يقول «اتخذوه» نكتة لعادل إمام وهو يقول في إحدى مسرحياته «خلّلوه»!
لماذا ضحك، وهو المعروف بتجهمه وغضبه، فيما يتحدث عن احتمال مأساة كبرى، فما يكون البحر بالنسبة لعموم اللاجئين المقهورين سوى تلك المقبرة الهائلة اللانهائية التي التهمت على مرّ السنين عدداً كبيراً (مهما صغر) من المستضعفين والمطرودين (بهذه الطريقة أو تلك) من أوطانهم.
انظروا كم هو رجل دولة من يقترح المقبرة طريقاً للابتزاز، ويعطي الإشارة عبر ذلك لشبكات تهريب قد تحوّل السواحل اللبنانية إلى شبكة استثمارية على نحو ما كان معبر رفح، فجميعنا نعرف أن المعبر لم يكن مغلقاً تماماً، إذ كانت عشرة آلاف دولار كفيلة بفتحه، تزيد كلما أحكمت إسرائيل الحصار والقصف، وكلما تحكّمت المجاعةُ واقتربت رائحةُ الموت.
إنها تجارة مافيوزية، قد تكون حلاً، بنظرهم، لبلد منهار، لبلد بات أكثرُ زعمائه «حكمة» يطالب بطرد اللاجئين وتسليمهم إلى أكثر الديكتاتوريات توحشاً، إلى أعدائه هو بالذات.
قال نصر الله: «البحر أمامكم»، مستلهماً المقولة التاريخية «أيها الناس، البحر من ورائكم، والعدو أمامكم فأين المفر؟»، المنسوبة إلى القائد العسكري المسلم طارق بن زياد بعدما أحرق سفنه لمنع المسلمين من التراجع عن القتال، والمخْتَلَف على صحة انتسابها له.
اكتفى الزعيم اللبناني من المقولة التاريخية بشقها الأول، لكنه يعرف جيداً، كما نعرف، أن «الوراء» بات محكماً تماماً، حيث نظام بشار الأسد وأجهزته التي في المرصاد لعودة اللاجئين، ومختلف الأحزاب اللبنانية، حتى أشدها معارضة لمحور الممانعة ولبشار الأسد باتت اليوم رأس حربة في الاعتداء على اللاجئين في الشارع.
الصنبور كان عرضة دائمة للتلاعب، ومعلوم أن أكثر من فتحه الرئيس التركي أردوغان، لابتزاز الاتحاد الأوروبي مالياً وسياسياً، ومصر وكل دول شمال أفريقيا، وإذا شهدتْ نشرات الأخبار غضباً هنا وهناك أحياناً فلأن الانصياع الأوروبي لم يكن كافياً.
طرقات التهريب، ومسارات المهاجرين باتت تتحدد تبعاً لحركة الصنبور، وعلى سبيل المثال في عام 2021، قرر بوتين زيادة الضغط على الاتحاد الأوروبي، فانفتح خطٌ من أماكن سيطرة النظام السوري في دمشق إلى بيلاروسيا، ليتعرض اللاجئون من الشرق الأوسط لأسوأ محنة على حدود الاتحاد الأوروبي، عبر بولندا وليتوانيا ولاتفيا، عندما أرادها بوتين وسيلة للضغط على أوروبا في مواجهة العقوبات الاقتصادية والسياسية. وقد كان العالم حينذاك أمام عددٍ من المآسي المروعة، وثّقتها أفلام وثائقية، وروائية كفيلم «الحدود الخضراء» (عام 2023) للبولندية أنيسكا هولاند.
البحر أمامكم تعني إذن مرحلة جديدة في حياة لبنان وساكنيه، وسيكون زعماء لبنان مخطئين لو تصوروا أن البحر سيقتصر على اللاجئين السوريين المليونين في لبنان، وقد يسبق هؤلاء إلى البحر- المقبرة مليونا مواطن لبناني. ولا ندري إن كانت الأحزاب ستجد في ذلك خطراً على «الكيانية اللبنانية»، وفي الأساس ما أغرب أن يكون هؤلاء مشغولين إلى هذا الحد بـ «الكيانية» فيما القيامة قائمة، لا في لبنان وحسب، بل في المنطقة برمتها. وقد يكون الموقف الأصوب هو الأقرب للموقف الإنساني، الموقف الذي ينظر بعين العدل للإنسان بغض النظر عن منبته وأصله وبلده ومصبّه.
البحر أمامكم، يقولها هذه المرة العدو الذي من ورائكم، فإن كان التاريخ قد قالها كنوع من التحفيز، فإنه هنا يقولها كنوع من الابتزاز للعالم، وكتهديد للاجئٍ على عنقه سكين الأقربين الذين أعطوه الأمان.
يقولها من ساهم في الأساس، وما زال، بتهجيرك من بلدك، ثم راح يحرق الخيمة فوق رأسك، ويطارد رأسك في الشوارع، يحرمك من حق السكن، والتعليم، والحياة، ويستخدمك لتلقّي الأثمان الأوروبية والأممية، ثم يجبرك على العودة لتتلقفك أجهزة النظام وجيشٌ سيجعل منك مشروع قاتل.
يقول الزعيم اللبناني «البحر أمامكم»، لكن من يستطيع إليه سبيلاً الآن؟ ومن لا يستطيع ماذا بوسعه أن يفعل؟ ربما عليك أن تخشى أنك لم تدع له أي خيار.
المصدر : القدس العربي