ياسين الحاج صالح
تظهر في بضع السنوات الأخيرة نزعة نفسية سياسية منفعلة بين العديد من السوريين الرافضين للنظام، تُحكِّم ما يبدو أنه الموقف من القضية السورية في كل شأن آخر، فتمارس ضربا من «الولاء والبراء» على هذا الأساس، وتعادي من لا يوافق انفعالها وتوالي من تجده أقرب في لحظة معينة.
قد يبدو وجيهاً أن يعتبر المرء قضية وطنه هي المعيار في الحكم على أي قوى أخرى، لولا أن التنويعة الأعلى صوتاً من هذه المركزية السورية تعرض بثبات تقليصاً مفرطاً للقضية السورية ذاتها إلى ثأر ضد داعمي النظام، إيران وأدواتها بصورة خاصة، على نحو يضحي بالأبعاد الفكرية والقيمية والسياسية المفترضة للقضية، ما يتصل بالديمقراطية والمساواة والحريات العامة والشخصية والعدالة الاجتماعية، فضلاً عن استقلال البلد ووحدته كإطار لوطنية قائمة على المواطنة والحقوق المتساوية. وفي هذا ما يرد المركزية السورية إلى ما دون الفكر والسياسة، إلى الغضب والثأر والكره والعدائية، وإلى الهوى والانفعال الخام. ويغلب لهذا الانفعال أن يجد ركائزه في أطر اجتماعية دون وطنية مثل العشيرة والطائفة والمحلة، وليس بحال في وطنية جامعة. وهكذا فليست القضية السورية هي وحدها ما تُهدر عبر التخلي عن أبعادها القيمية العامة، بل إن الفكرة السورية ذاتها تضيع لحساب ما هي روابط أضيق، يمتنع أن تكون أطراً للترقي الفكري والسياسي والأخلاقي.
سوريا تحضر في إطار هذا الضرب من المركزية السورية كدعامة بلا ذاكرة وبلا تاريخ وبلا بنية لمشاعر عدائية، موجهة ضد أعداء جرى اختيارهم انتقائياً وفق ما يتوافق مع العشيرة والطائفة والمحلة. وهذا مع الاقتصار فوق ذلك على الشريحة القصيرة من الزمن، الراهن أو الأخير منه، بضع السنوات الماضية، ما يهدر المقوم التاريخي للكيان السوري نشوءاً وتطوراً وذاكرة وروابط، ومستقبلاً محتملاً.
وبهذا التكوين يحدث أن تزج هذه المركزية السورية الفقيرة ضد مركزية القضية الفلسطينية، فتفاقم من عوزها القيمي والثقافي. ليست المركزية الفلسطينية شيئاً عظيماً، لكنها نشأت في سياق تاريخي مختلف، وتزودت بأبعاد قيمية وثقافية تحررية، وتشابكت مع قضايا تحرر عالمية كثيرة، مجهولة من قبل المركزيين السوريين الناشئين، أو منبوذة منهم بطيش. نقد المركزية الفلسطينية ضروري، ومثلها كل نزعة مركزية في واقع الأمر، وبخاصة ما قد يرتبط بالمركزية من جعل القضية المعنية معياراً كلياً للصواب، مما هو «ضيق العين». إلا أن هناك نقدا للمركزية من مواقع تحررية تدفع في اتجاه انفتاح أكبر ومساواة أكبر وحرية أكبر، وتدافع فيما يخص فلسطين عن محتواها كقضية تحرر وعدالة ومساواة وتنحاز لكفاح الفلسطينيين المستحيل من موقع الأخوة والشراكة، وهناك هوج أجوف وسفيه، لا يرضيه أقل من موافقة هواه في كل شأن. ليس هناك خطأ في إدانة مساندين للكفاح الفلسطيني في الغرب ممن يدعمون الحكم الأسدي وحماته في سوريا (يرفعون علم حزب الله مثلاً) لكن هذا شيء ونبذ القضية الفلسطينية ذاتها من أجلهم شيء آخر، قصير النظر وانعزالي. إن كان لنا أن نتقدم في بناء قضية سورية بعد أن خسرنا الثورة، فهذا يوجب مقاطعة جذرية لهذا الضرب الغث من المركزية السورية.
ليست المركزية السورية مركزية السوريين الفعليين في تصور سوريا، بل هي اختزال لا يختلف في شيء عن اختزال البلد إلى «سوريا الأسد». ولم تنشأ المركزية السورية عن الثورة السورية كجهد لاستعادة ملكية البلد، بل عن فشل التحول نحو سوريا جديدة، سوريا مواطنين، وبالتحديد عن حماية الحكم الأسدي القديم من السقوط على يد إيران وأذرعها الميليشياوية الطائفية، ثم روسيا، ثم عن ضروب المعاناة الهائلة التي عرضت لما لا يحصى من السوريين خلال أكثر من ثلاثة عشر عاما إلى اليوم، وما يبدو من ضمان إفلات كبار القتلة من العقاب. انفعالنا مشروع ومفهوم، فما وقع لنا مهول وغير عادل، ويبدو اليوم مفتوحاً على المزيد من المعاناة فقط؛ ما ليس مشروعاً ولا مفهوماً أن يجري تحكيم هذا الانفعال السلبي الكاره في تقييم كل شيء في العالم، وألا نحاول الخروج من دائرة الانفعالات والمشاعر المحمومة إلى آفاق من المعاني والأفكار والقيم التي تستحقها معاناتنا الرهيبة. هذا فشل للفكر والثقافة أخطر على سوريا والقضية السورية من الهزيمة السياسية ذاتها. ويبدو أن نزعة مركزية تعقب كارثة عامة تجنح لأن تكون انعزالية وعدائية، خلافاً لنزعة مركزية تأتي في طور صعود، فتختزن من مسارها الصاعد روح تفاؤل وثقة وإقبال على العالم. هناك فرق مثلاً بين المركزية الأوروبية والمركزية الإسلامية هو الفرق بين التقدم والتعثر، بين الثقة بالنفس وبين الانكفاء والدفاعية، بين الرسوخ في الراهن وبين الماضوية.
لكن المركزيات بكل أنواعها، من المركزية الأوروبية والأمريكية، إلى المركزية العربية والإسلامية، إلى المركزية الفلسطينية واللبنانية والمصرية، إلى مركزيتنا السورية الرثة، جديرة بالنقد والتفكيك، لنرجسيتها وتكوينها التمييزي التراتبي وتضييقها للعالم. ليس هناك ما هو تحرري في المركزيات جميعاً، لا المنتصرة منها ولا المهزومة، لا تلك التي تخص الضحايا ولا تلك التي تخص الفاتحين القادرين. ولذلك لا يصلح الاستناد إلى المركزية العربية مثلاً لنقد المركزية السورية، لأنهما شريكتان في الانغلاق والإقصاء معاً، هذا فوق أن المركزية العربية لم تجد يوما ما تقوله في شأن اختزال سوريا إلى قاعدة للحكم الأسدي، أي في مركزية عائلية أوقفت سوريا طوال أكثر من نصف قرن على قدم واحدة. القومية العربية، وهي التعبير الإيديولوجي عن المركزية العربية، افتقرت ثقافياً بمثل هذا السكوت، وتهافتت قيمياً وفشلت سياسياً.
ومثلما ليس لنقد المركزية السورية أن يجامل مركزية فلسطينية، بخاصة ذات توجه الممانع، فإنه ليس في نقد المركزية السورية ما يتعارض مع الانحياز لتصور وطنية سورية ديمقراطية واستيعابية هي ما يفترض المرء أن بناء القضية السورية يتطلع إلى تحقيقه، وما يتوافق مع شد سوريين مختلفي الجذور إلى متحد سوري جامع. بل إن هناك ضرباً واحداً من مركزية سورية (أو مصرية أو فلسطينية أو لبنانية…) معافاة، هي المتوجهة نحو بناء هذا المركز الجامع، القوام السوري (أو المصري أو الفلسطينية أو اللبناني) الذي لا يزال أقبل للحياة من بدائله المتداولة. هذا يوجب نقلة في التفكير من مركزية سورية منفعلة، ملتصقة باللحظة الراهنة، العنيفة والمتعفنة في آن، إلى نقاش ضروري حول كيان سوريا ومعناه. فجملة الأفكار والمبادرات والروابط التي يمكن أن يطورها سوريون في إطار تفاعلهم مع الشرط الكارثي الراهن لوطنهم، والعمل على تجاوز عادل له، هي ما يمكن أن تكون الشكل الفاعل من مركزية سورية «دستورية» إذا جاز التعبير، تجمع بين استقلال ووحدة سوريين منفتحين على تعددهما الداخلي وبين الارتباط بمحيط وصراعات لا مجال للنأي عنها.
ليس هذا هو الأفق الذي ينفتح عليه الضرب العصبي الرائج في بضع السنوات الأخيرة، بل هو الأفق الذي يتيح نقد هذا الضرب، والدفاع في الوقت نفسه عن وطنية سورية استيعابية داخلياً وغير منقطعة عن قضايا التحرر والعدالة في مجالنا وفي العالم. سوريا لا معنى لها غير أن تكون قضية من هذه القضايا.
المصدر : القدس العربي