مصطفى إبراهيم
لا يعني قرار إصدار أوامر اعتقال، عن المحكمة الجنائية، نهاية الإفلات من المسؤولية والعقاب بالنسبة للمسؤولين الإسرائيليين، فهذه ليست النهاية، قد تكون البداية، فكم الملفات والتحقيقات كبير جداً، والاحتلال والاضطهاد طويلا الأمد
ظهرت الطفلة الفلسطينية سما الخطيب (5 سنوات) في مقطع فيديو، أثناء هروبها من مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، بعد تعرضه للقصف الإسرائيلي، نراها في الفيديو تقول: “قصفو دارنا ومش عارفين وين بدنا نروح”، وظهرت والدتها أيضاً، نسرين أبو عطا الخطيب (35 سنة) تسير خلفها حاملةً ابنها معين (عام ونصف).
نسرين لاحقتها الطائرات الحربية الإسرائيلية حيث كانت تعالج وأولادها من إصاباتهم في مستشفى كمال عدوان، بعد أن قصفت طائرات الاحتلال منزلها في مشروع بيت لاهيا في شمال غزة فأصيبت برأسها، كذلك طفلها معين. القصف أودى ببناتها الثلاثة (مي سنة أولى جامعية، وحلا في الأول إعدادي وجنى في الأول ابتدائي)، كما أودى بجدة البنات الحاجة بدرية أيوب 80 عاماً، ونجت سما.
تعود أصول نسرين وعائلتها وعائلة زوجها إلى قرية بربر المدمرة، التي هجر أهلها في العام 1948، فاستقروا في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمال غزة، وتسكن نسرين وأسرتها في مشروع بيت لاهيا، لكنها أجبرت في بداية الحرب على النزوح إلى رفح، وأقامت مع عائلة والدها، في بيت شقيقتها المتزوجة والمقيمة في رفح، وذلك بعد أن قتلت شقيقتها الأخرى شيرين وثلاثة من طفلاتها (جنى ولما وسجى) في بداية الحرب في معسكر جباليا.
ظلت نسرين طوال الأشهر الماضية تتنقل بأطفالها من ملجأ أو مركز إيواء إلى آخر، وقبل اجتياح الجيش الإسرائيلي مخيم جباليا وبيت لاهيا، بداية الشهر الجاري، عادت نسرين إلى بيتها الذي تم قصفه منذ أيام، فاضطرت إلى النزوح مجدداً، وهي تقيم الآن، مع من نجا من عائلتها، في مركز إيواء في حي الشيخ رضوان غرب مدينة غزة.
يحصل هذا، والحرب في غزة مستمرة، وإسرائيل مصممة على إبادة الفلسطينيين وملاحقتهم وقتلهم، وكأنها ما تزال تعيش لحظة الصدمة الأولى التي عاشتها في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ويضاعف هذه الصدمة جرأة المدعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة في لاهاي القاضي كريم خان، بإصدار أوامر اعتقال ضدّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت، بشُبهة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزّة.
وبرغم وجود تسريبات حول توجهات المدعي العام، حول نيته إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، لكن إعلان الأوامر أحدث ضجة واضطراباً في إسرائيل، فبدأت بممارسة الضغط على المحكمة وتهديد قضاتها، مما يدل على تأزمها داخلي وضعف موقفها أمام الرأي العام العالمي، خلافاً لما كانت عليه في الماضي، هي التي تعتبر نفسها تمتلك حصانة قانونية، تحميها من المساءلة، مهما بلغت مستويات عنفها وخطابها العنصري.
وعلى الرغم من حالة الجدل والنقاش حول أهمية قرار الجنائية الدولية، ما زالت ردود أفعال إسرائيل وحكومتها ومعارضتها عنيفة، ضد المدعي العام وضد العالم أجمع، والاتهامات جاهزة للإدانة، وهي تهمة “معاداة السامية”.
وظهرت عنصرية الخطاب الإسرائيلي والشعور الفوقي وعجرفة نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين، برفضهم مقارنة المحكمة للسنوار والضيف وهنية بمسؤولين إسرائيليين، مع تجاهل تام لحقيقة أن المحكمة مؤسسة قانونية دولية وجسم مهني مرموق.
الصحافي والخبير في الشؤون الاستخباراتية في هآرتس يوسي ملمان قال في تعليق: “إن قرار المدعي العام في محكمة الجنايات بإصدار مذكرات اعتقال ضد بيبي وغالانت وضد قادة حماس السنوار وهنية والضيف، هو قرار غبي ومخزٍ لأسباب عديدة. كيف يمكنك حتى مقارنة المسؤولين المنتخبين (حتى لو كانوا مكروهين) في دولة ديمقراطية بقادة منظمة إرهابية قاتلة. ولسوء الحظ، من الناحية السياسية، فإن القرار سيعزز موقف نتنياهو في استطلاعات الرأي”.
وقال رئيس “المعسكر الوطني” الوزير في مجلس الحرب بيني غانتس: “لقد شنت دولة إسرائيل الحرب الأكثر عدالة، بعد المجزرة التي ارتكبتها منظمة (إرهابية) ضد مواطنيها. إن دولة إسرائيل تحارب بأكثر الطرق أخلاقية في التاريخ، ملتزمة بالقانون الدولي، ولديها نظام قضائي مستقل وقوي. إن وضع قادة دولة دخلت المعركة لحماية مواطنيها في صف واحد مع (الإرهابيين) المتعطشين للدماء، هو عمى أخلاقي وانتهاك لواجبها وقدرتها على حماية مواطنيها. إن إعلان المدعي العام، سيكون جريمة تاريخية لن تختفي”.
من الغريب أن المدعي العام لم يقدم اتهاماً ضد غانتس، فهو إضافة إلى فترة ولايته الحالية كوزير في مجلس الحرب، شغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة 2014، وارتكب جرائم حرب، بناء على تقرير تقصي الحقائق، الذي أعده مجلس حقوق الإنسان في حينه.
منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية لحقوق الإنسان وصفت قرار المدعي العام، بأنه “إشارة إلى تدهوُر إسرائيل المتسارع نحو هاوية أخلاقيّة. وأن المجتمع الدوليّ ينقل لإسرائيل رسالة، مفادها أنّه لا يمكنها بعد الاستمرار في المسار نفسه – مسار العُنف والقتل والتدمير – من دون أن تخضع للمساءلة والمحاسبة على أفعالها”.
وأشار بعض المعلقين الإسرائيليين المعارضين للحكومة، إلى أن “هذه اللحظة هي الأكثر سواداً في تاريخ إسرائيل، وهي صناعة إسرائيلية خالصة”، و”نتنياهو وحكومته جلبوا لأنفسهم ولنا علامة سوداء”، و”كانت الكتابة على الحائط، وكان من الممكن دون صعوبة كبيرة منع تقديم أوامر الاعتقال، الغطرسة، والازدراء، والغموض، والانجراف إلى مشاعر الانتقام البدائية”، و”أنا وأنا لن أعود بعد الآن”.
في المقابل هناك ملاحظات على قرار المدعي العام، ويبدو الأمر وكأن هناك مقايضة أو تسوية ما، بشأن إصدار أوامر التوقيف، ويبدو أن القرار منقوص، وبحاجة إلى الكثير من التدقيق، فقد قدم المدعي العام 7 أدلة اتهام بحق إسرائيل، في حين قدم 8 بحق حركة “حماس”، وأحد أهم القضايا هي التعذيب وسوء معاملة المعتقلين، برغم أن صحيفة هآرتس ذكرت قبل أكثر من شهرين أن “27 من معتقلي غزة قضوا في مرافق الاعتقال العسكرية في إسرائيل منذ بداية الحرب”، وتحدثت عن “الظروف التي أدت إلى سقوط أشخاص في مرافق الاحتجاز بهذا العدد”.وقد وُجهت اتهامات ل”حماس” مثل الخطف والاعتقال والتعذيب، لم توجه لدولة الاحتلال.
ومن المستغرب عدم توجيه المدعي العام أي اتهام لرئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، رغم أنه يصادق على السياسة العامة والخطط العسكرية للجيش، وهو منخرط بشكل مباشر في الحرب في قطاع غزة، وهو من يقرر ويصدر الأوامر لتنفيذ الهجمات. فهناك وحدة سياسية وعسكرية متكاملة، مسؤوليتها اتخاذ القرارات في إسرائيل، وعليه ينبغي ألا تستثني الاتهامات كبار الضباط الإسرائيليين، وأن تكون مبنية على تحقيقات مستقلة وموسعة يجريها طاقم المحكمة، بما في ذلك المقابلات، ولقطات كاميرات المراقبة، وصور الأقمار الصناعية، والزيارات الميدانية وغيرها.
إضافة إلى ذلك، لم يذكر قرار المحكمة جريمة الإبادة الجماعية، بالرغم من أن ما تمارسه إسرائيل، وما ارتكب حتى الآن في غزة هو إبادة جماعية، وهناك أدلة حسية حول هذه النقطة، كما لم يأت القرار على ذكر أن ما يحدث هو احتلال غير شرعي لدولة، وفسر الأمر على أنه حالة من الصراع بين إسرائيل و”حماس”، بالرغم مما ذكر في تقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة من إثبات أن “ما حدث هو احتلال غير شرعي”.
وينظر الفلسطينيون إلى القرار وأهميته، لجهة البعد الأخلاقي والسياسي، ويأملون بعد 76 عاماً وهو عمر الاحتلال ونكبة فلسطين، أن تصبح إسرائيل في نظر العالم متهمة ودولة معزولة، وأن تتم محاسبتها ومساءلة المسؤولين فيها.
هل يعني قرار الجنائية الدولية نهاية إفلات الإسرائيليين من العقاب؟
لا يعني قرار إصدار أوامر اعتقال، عن المحكمة الجنائية، نهاية الإفلات من المسؤولية والعقاب بالنسبة للمسؤولين الإسرائيليين، فهذه ليست النهاية، قد تكون البداية، فكم الملفات والتحقيقات كبير جداً، والاحتلال والاضطهاد طويلا الأمد.
المصدر: درج