كمال عبد اللطيف
يتواصل العدوان الصهيوني الغربي على غزّة وعلى أهلها، بطريقةٍ تتجاوز كثيراً الصور التي حصلت طوال الاحتلال الاستيطاني لأرض فلسطين. وما حصل من عدوان، خلال الثمانية أشهر المُنصرمة، يُجسّد، بكثيرٍ من العنف والجنون، إرادة الإبادة والتهجير، التي لا يتردّد الكيان الصهيوني في إعلانها أمام العالم أجمع. وإذا كنّا نعتقد أنّه لم يحن الوقت بعد لتركيب واستخلاص مُختلف نتائج ما جرى، ويجري، بعد 7 أكتوبر (2023) إلى أن يتوقّف العدوان، فإنّه يحقّ لنا أن نسجّل، أهمّ المُعطيات التي حصلت منذ عودة المقاومة الفلسطينية، وفضحها لأكذوبة الصلح والسلام. فقد ترتّبت على فعل “الطوفان” جملة من الأحداث، التي ستُركّب في قلب الاستعمار الصهيوني، وفي حركة المقاومة الفلسطينية ومستقبلها، جملة من النتائج والآثار قد تُعَجّل برفع حالة السكون والتراجع، التي أوقفت مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني، منذ سنوات، عن مواصلة العمل من أجل التحرير.
أسهمت “طوفان الأقصى” في عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد سنوات من استغلال الصهاينة حكاية سلام “أوسلو” (1993)، وما ترتّب عليها من صور تعاون مشروع الحكم الذاتي في الضفة والقطاع مع دولة الاحتلال. وقد صادف مشروع السلام الْمُجَمّد مزيداً من تقوية إسرائيل وتعزيز وجودها، بإطلاقها مشروع تطبيع يشمل مختلف الأقطار العربية، انطلاقاً من المبادئ العامة والأولية المترتّبة على الاتفاق المذكور. إنّ الرجّة التي أحدثتها “الطوفان” فضحت الخطط الاستعمارية الصهيونية، وكشفت للعالم أجمع روح المشروع الصهيوني.
سَيُحْسب لفعل “الطوفان” في الحاضر الفلسطيني، أنّه أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث في المشرق العربي، وفي العالم، بفعل إرادة المقاومة، الهادفة إلى التحرّر من الاستيطان الصهيوني ودولته المُغْتَصِبَة للأرض وللتاريخ. من هنا، قوّة فعل “الطوفان”. وضمن هذا السياق، يمكن أن نشير إلى أنّ اندفاع المقاومة المنتصرة يوم 7 أكتوبر (2023)، لم يكن فعل فصيل من فصائل حركة التحرّر الفلسطينية، رغم أنّه في بعض أوجهه كذلك، إنّ أهمّيته وأهمّية ما أنجز، حصلتا من أنّه يختزن في حركية فعله المقاوم شُعْلَةَ الروح المُقاوِمَة، التي ملأت تاريخ التحرّر الفلسطيني بكثير من المعارك والانتفاضات، حروب ومعارك طلائع حركة التحرّر الفلسطيني، طيلة عقود القرن الماضي. إنّ المقاومة، اليوم، تحمل اسم المقاومة الفلسطينية، من أجل الحقّ الفلسطيني المُغْتَصَب والمَنْسِي.
يمكن أن نبرز أيضاً، أنّ “طوفان الأقصى” جعلتنا نستعيد مشروع العروبة الذي استهدفته عمليات التغييب والتناسي، رغم كلّ الأهمية التي نتصوّر أنّه ما زال يتمتّع بها في زمن القوى العظمى الجديدة، ومُقتضيات التقدّم في عالم مُتغيّر. ولا بدّ من التوضيح هنا، أنّنا لا نتحدّث عن تصوّر مُغلق لمشروع عروبة الحاضر والمستقبل، إنّ ما نريد توضيحه بالذات، هو أنّ أحوال البلدان العربية، اليوم، وأحوال أنظمتها السياسية، تدعو إلى مراجعة كثير من الخيارات التي نقلت مشروع الدولة فيها، من المشروع الوطني والدولة الوطنية إلى ما هو أدنى من ذلك، إذ عادت أساطير القبيلة والطائفة والعِرق إلى الظهور، وغيّب الوطن والمواطنة، والوحدة الوطنية الجامعة، والدولة الأمّة، من أجندات القوى المتصارعة داخلها، الأمر الذي يدعونا إلى إنجاز تدارك ما أصبح يشكّل خطراً على الحاضر العربي، وعلى الطموح القومي، واستكمال التحرّر والتحرير.. ومن مزايا “طوفان الأقصى”، أنّها دفعتنا، من جديد، إلى التفكير في التجزئة وفي الدولة الوطنية وفي الدولة القومية؛ التفكير في القوّة والتقدّم وتحرير فلسطين.
ولا بدّ من الإشارة، أيضاً، إلى التحوّلات التي حصلت في موضوع المساعي الرامية إلى نقد السردية الصهيونية وتجاوزها في الغرب، وفي المنتظم الدولي. وطيلة أشهر الحرب العدوانية، التي أعلنها الكيان الصهيوني مع حلفائه بعد حدث “الطوفان” المُقاوِم، كشفت أنظمة كثيرة في الغرب الأوروبي تبعيتها لأجندة المشروع الصهيوني، وأعلنت مساندتها المطلقة لإسرائيل ممثلةً وحارسةً للمشروع الاستعماري، في صوره الجديدة، في قلب الوطن العربي الكبير. إلّا أنّ ما حدث من يقظة وسط بعض النُخب الغربية، ووسط بعض الجامعات الغربية والأميركية، زعزع ثقة المشروع الصهيوني في سرديته وحكاياته الكاذبة عن السلام والتنمية في مشروع الشرق الأوسط الجديد، وانتفاضة الجامعات الغربية، المتواصلة منذ أشهر، تُعبّر عن مشروع تغيير مُحتمل في الوعي الأوروبي والأميركي. وذلك، رغم الصلابة التي تمتّعت بها السردية الصهيونية طيلة عقود القرن الماضي. إنّ التغنّي بتحرير فلسطين، وسط شباب الجامعات الغربية، اليوم، يشكّل لحظة جديدة، تعرف فيها بعض مؤسّسات البحث في الغرب، زحزحة قويّة لأساطير عمّرت طويلاً، إنّه يفتح المجال أمام مشروع رأي عام جديد، مشروع ميلاد وعي جديد بإمكانية التحرّر والتحرير الفلسطينييْن، وهو مشروع يتوخّى بناء دولة فلسطين في وحدتها ووحدة مقاومتها، وقد فجّرت مقاومتها الجديدة، ما اعتقد الصهاينة أنّه في حكم المنتهي، فحملته مياه “طوفان الأقصى” الجارفة. وذلك، رغم كلّ الحرائق، وكلّ أشكال القتل والجوع والخراب، التي لحقت بالديار الفلسطينية.
لا نتحدّث هنا عن الهزيمة والانتصار، فالحرب لا تزال متواصلة رغم الاختلافات القائمة بين طرفيها، وبين الحقّ والقوّة، إنّ ما كنّا بصدده في الفقرات السابقة يشير إلى آثار ومخلّفات حرب مُشتعلة، حرب أحرقت وخرّبت وقتلت آلاف الضحايا، واستُعمل فيها كثيرٌ من وسائل الحرب المخيفة والقاهرة. إنّ الأمر الذي كنّا بصدده يشير إلى وقائع ومعطيات نشأت في جانب الحرب القائمة، وقائع ستتخذ مظاهرَ أكثرَ وضوحاً في اليوم التالي لوقف الحرب، ونفترض أنّه ستكون لها نتائج في المستقبل القريب، إذ يصعب أن تعود القضية الفلسطينية إلى الكمون الذي عرفته قبل فعل “الطوفان”، فقد أصبحت المقاومة، اليوم، عنواناً لخيار سياسي جديد، خيار قطعَ مع كثير من أخطاء الماضي وعثراته.
نشير، في النهاية، إلى أنّ تحويل العناصر، التي حاولنا إبراز بعض منها معطياتٍ ثابتةً ومُتطوّرةً، تدعو المقاومة، بمعيّة كلّ الأحرار في العالم أجمع، وفي المحيط العربي، إلى رسم معالم التحرير وخطواته الكبرى، رسم برنامج المقاومة المُتمّمة والداعمة لكلّ ما حصل من طرف كلّ القِوى الفلسطينية، الساعية لإتمام ما دشّنته “طوفان الأقصى”، من أجل مواصلة طريق التحرير؛ طريق بناء الدولة الفلسطينية المُستقلّة.
المصدر: العربي الجديد