حسن النيفي
لعل انتصار أي ثورة شعبية بوجه حاكم طاغية ليس أمرا حتميا، فكثيرا ما تتعثّر الثورات، بل وتُهزم أو تُسحق، ثم تعود وتنطلق من جديد أو ربما تندثر معالمها وتموت إن لم تتوفر لها شروط نجاحها، ولا نحتاج إلى سبر تاريخي لإثبات ذلك.
فلنا شواهد حيّة ما نزال نعيش تداعياتها في اللحظة الحالية، إذ تتالت انتفاضات الشعب الإيراني ضد نظام الولي الفقيه منذ العام 2003 ثم في الأعوام 2009 – 2018 – 2022، وعلى الرغم من امتداد الاحتجاجات إلى عموم المدن الإيرانية فإن آلة القمع استطاعت الإجهاز على صوت الشعب. وليس بعيدا عن ذلك انتفاضة المدن الجنوبية في العراق 2018 – 2019 التي تم احتواؤها والالتفاف عليها بالعنف تارة والمكائد تارة أخرى. لعل كل ذلك يأتي في سياق مألوف وليس استثنائيا في بلدان تتسلّط عليها أنظمة غاية في التوحّش، ولن تكون الثورة السورية استثناءً خارج أسوار التاريخ من جهة إخفاقاتها المتلاحقة طوال ثلاثة عشر عاما، بل يمكن إدراك ذلك في ضوء التحليل العقلاني والموضوعي لمجمل العوامل الذاتية والموضوعية التي عزّزت مأساة السوريين، ولكن الذي لا يمكن للمنطق السليم قبوله أو لا يمكن تبريره هو جملة من الارتدادات الفكرية والسياسية من داخل أنساق نخبوية كانت، وما تزال، تجاهر بدفاعها عن الثورة وعن حقوق السوريين المشروعة بالتغيير والديمقراطية، إذ لقد جسّدت تلك الارتدادات بالفعل مفارقة صادمة، ليس لأنها تحمل رأياً مخالفاً لما هو سائد كما يدّعي أصحابها، ولا لواقعيتها أو بُعدها عن الرغبوية الجماهيرية كما تدّعي أيضا، بل لكمّ التضليل والتزييف الهائل الذي تحاول تصديره للوعي العام من جهة، ولتحويل أضاليلها وزيفها إلى لحظات من الكشف الفكري أو الإبداعي الذي هبط عليها فجأةً من جهة أخرى.
تبرئة نظام الأسد من المقتلة السورية
ولعل من أبرز تلك الكشوفات تلك التي تتمثّل في الخلاصات التي يحاول بعضهم ترسيخها باعتبارها حقائق لا محيدَ عنها، كالقول بأن القضية السورية وصلت إلى نهاية النفق، وقد حان الوقت لتغليب صوت الحكمة على الكبرياء، علينا أن نعترف (بأننا جزء من وطن واحد. لن ينتصر أحد، فالكل خاسر، علينا أن ننظر إلى مصلحة مجتمعاتنا، بدلاً من إطالة آلامها، وأن نحمي ما تبقى، فهو المورد الوحيد المتاح للتعافي والعودة للحياة. وعلينا أن ندرك أن تعافي المجتمع هو بوابة التغيير الحقيقي) ولعل هذا الكلام يحمل في قشرته نبرة إنسانوية إلّا أنه ينطوي على مزيد من الريبة حين يهدف إلى تمييع جوهر الصراع وتغييب المشكلة الحقيقية، والوقوف فقط على تداعياتها، وكأن الشعب السوري انتفض في لحظة طيش وراحت أعراقه وطوائفه تطحن بعضها بعضا، ففقد أكثر من مليونين من أفراده وتشرّد وهاجر ونزح نصف سكّانه، ثم عليه الآن أن يعود إلى رشده، لإعادة النظر في علاقته مع حاكمه، مع التخلّي عن الأفكار السابقة والبحث عن الحلول التي لا ينبغي أن نفرضها (كشروط مسبقة)، وكأن (الحاكم) كان الطرف الوحيد البريء من الدم السوري، ما أوجب الاحتكام إليه.
ولو أن أصحاب هذا الرأي قالوا: إن الثورة السورية انهزمت أمام آلة القتل الأسدية، لكان هذا الكلام مقبولا باعتباره يحيل إلى القاتل الحقيقي ولا يتجاهله، أمّا أن يستثنى من كان أصلا للمشكلة، بل مصدر الخراب والإجرام في البلاد، ثم يتحوّل إلى قائد لمركب الخلاص، فتلك هي فِريةٌ كبرى، تتعدّى حدود التضليل والكذب، لتصل إلى درجة الاعتداء على كرامة السوريين، فضلا عن كونها إهانة لتضحياتهم وتطلعاتهم المشروعة نحو التحرر واستعادة الحقوق.
من خطوة بخطوة إلى التعافي المبكر
وفي موازاة المساعي الرامية إلى مساواة الجلّاد بالضحية، ثمة دعوات فطن أصحابها فجأةً إلى أن الكوارث التي حلّت بالسوريين إنما مبعثها إهدار الفرص التي أتاحها نظام الأسد في الأشهر الأولى من انطلاقة الثورة، والتي دعت فيها السلطة إلى حوارات كان من الممكن أن تفضي إلى استجابة لقسم كبير من مطالب المتظاهرين، وتحول دون دخول البلاد في دوامة العنف، ولكن تلك المبادرات أفشلها جمهور المتظاهرين الذين يتحملون وحدهم المسؤولية باستفزاز السلطات وجرّها أو إحراجها، وبالتالي دفْعها مُكرهةً لاستخدام العنف، وهذه السردية التي حاولت السلطة الأسدية تصديرها للرأي العام إبان انطلاق الثورة، وعلى الرغم من زيفها وتهافتها، فإنّها تجد اليوم من يحاول إعادة إنتاجها والترويج لها وإنْ بطرق أو أساليب مختلفة، كالقول: إن النماذج السلطوية التي جسّدتها المعارضات لا تقدّم نماذج مقنعة للسوريين، فجميع سلطات الأمر الواقع التي تحكم كل واحدة منها قسما من الجغرافيا السورية لا تتفوق على سلطة الأسد، بل تكاد جميع السلطات تتماثل من حيث سلوكها وتعاطيها مع المواطنين، فلماذا – والحال كذلك – لا تكون العودة إلى فتح باب الحوار مع نظام الأسد كمدخل لحل سياسي ينهي الصراع المرير الذي تجاوز طاقة الناس وقدرتهم على التحمّل؟ ولعل الأمر الأهم الذي يتجاهله أصحاب هذه الدعوة هو أن تلك السلطات الموازية للسلطة الحاكمة إنما هي امتداد للسلطة الأمّ، بل وجودها واستمرارها مقرون بوجود نظام الأسد الذي أسهم بإيجاد معظمها، فضلاً عن تجاهل الحقيقة الدامغة التي تتجسّد برفض نظام الأسد أي شكل من أشكال التفاعل الإيجابي مع جميع الدعوات الأممية لتحييد الحل الأمني واللجوء إلى التفاوض الجدّي لإيجاد حل عادل لقضية السوريين.
يمكن التأكيد أنَّ مجمل الدعوات، سواءٌ منها التي تختزل القضية السورية باقتتال مجتمعي لا علاقة للنظام الحاكم فيه، أو تلك التي تدعو إلى العودة إلى بيت الطاعة الأسدي، ولكن بأساليب فيها كثير من الخداع والمداورة، يمكن أن تكون جميعها صدًى مباشرا لمساعٍ دولية وإقليمية ما نزال نشهد تجلياتها الرامية إلى تعويم نظام الأسد وتصديره من جديد، بعيدا عن أي ناظم إنساني أو حقوقي أو أخلاقي، إذ لقد بدأت تلك المساعي بمشروع (خطوة مقابل خطوة) الذي تدعمه وتدفع به روسيا، كما تبنّتْه الجامعة العربية في قمة جدة في أيار 2023، إلّا أنه فشل نتيجة لخذلان نظام الأسد لأقرانه من الأنظمة العربية التي لم تحصد من وعوده سوى مزيدٍ من التضليل والكذب.
واليوم تتالى تلك المساعي بدعوة ما يسمّى (التعافي المبكّر) التي حاولت الترويج له مجموعة من الدول في مؤتمر بروكسل الذي انعقد في الثامن والعشرين من أيار الفائت، في مقدمتها رومانيا وإيطاليا واليونان، بهدف إيجاد اختراق في الموقف الأوروبي الرافض للتطبيع مع نظام دمشق.
يمكن التأكيد بإيجاز شديد على أن جميع المساعي الرامية لإنعاش الأسد، سواء منها ما هو دولي أو إقليمي، أو ما هو محلّي، فإنها تحمل عوامل فشلها في نشوئها، ليس بفعل تيار آخر مناهض لمسعاها فحسب، بل بفعل نظام دمشق ذاته، كونه عقيما عن إنتاج أية سمةٍ تفارق ماهيّته الإجرامية التي باتت الناظم الأساسي لسلوكه حيال شعبه وشعوب المنطقة بآن معا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا