رضوان السيد
بانفجار الحرب من غزة وعليها بدأ الأميركيون يفكّرون في مراجعة سياساتهم بشأن الاستيعاب Containment تجاه إيران وميليشياتها باعتبار أنّها كانت سياسات غير مثمرة، وإيران والميليشيات تزداد عدوانيّة. إسرائيل ملحّة في ضرورة الحرب الشاملة. والولايات المتحدة يئست من استيعاب إيران وميليشياتها. لكنّها ستظلّ ضدّ توسيع الحرب على مشارف الانتخابات الرئاسية، وبعد التجربة ستحاول إعطاء الفلسطينيين والعرب عرضاً يمكن قبوله.
منذ أربعة أشهر بدأ التصدّع في الجبهة الموالية لإسرائيل وتعدّدت الأسباب لذلك. فالأمم المتّحدة والمؤسّسات الإنسانية رأت ضرورة وقف الحرب على غزة بسبب التكلفة الإنسانية الهائلة. أمّا الولايات المتحدة والأوروبيون الكبار فدخلوا في مفاوضاتٍ معقّدة مع إسرائيل ومع الدول العربية لوقف الحرب في مقابل إطلاق سراح الأسرى وإمداد غزة بالمساعدات والتفكير في حلّ الدولتين. وقد كان في التفاوض شرط سرّي/ علنيّ: عدم عودة حماس لحكم غزة. وهو الأمر الذي لم تطمئنّ إسرائيل لإمكان تحقّقه، ولذلك استمرّت في الحرب وفي عدم الكلام عمّا بعد الحرب حتى يجري القضاء على حماس مع احتمال القضاء على المحتجزين في عمليات العنف الهائل الجارية. لذلك هناك أسباب لوقف الحرب تتعلّق أيضاً بإنقاذ بقيّة المحتجزين أحياء وعددهم 120 ولم تستطع إسرائيل خلال ثمانية أشهر من القتال إنقاذ غير ثمانية رهائن أحياء، في حين أدّت الهدنة الأولى إلى إطلاق سراح مئة وثلاثين وأكثر.
الموقف من الميليشيات أميركيّاً وإسرائيليّاً
موقف الولايات المتحدة من الميليشيات في هذه الفترة بدأ يقترب من الموقف الإسرائيلي الحالي. ففي المرحلة الماضية وخلال أكثر من عقدين، دأبت الولايات المتحدة على التعامل مع الميليشيات المتأيرنة وغير المتأيرنة بواقعية إذا صحَّ التعبير، بمعنى أنّها اعترفت بها بشكلٍ من الأشكال وتعاملت معها بحذر مع ضربات تأديبية إذا كثر التجاوز. هكذا حصل مع الميليشيات العراقية والميليشيات الحوثية. ولا يختلف الأمر بالنسبة للميليشيات الليبية والآن السودانية، وهي ليست إيرانية.
ولماذا نذكر العراق واليمن فقط فهناك الحزب بلبنان الذي تعاملت معه أميركا والقوى الغربية بحذرٍ أو بدون حذر. والمفهوم أنّ الأمر كان كذلك مع حماس وليس من جانب أميركا فقط، بل ومن جانب إسرائيل. فقد كانت فترات الهدوء مع حماس أغلب من فترات الحرب (2007-2024)، بل وكانت إسرائيل تعلم وتتعاون في إيصال الدعم المادّي لحماس من قطر.
كانت اعتبارات إسرائيل وربّما أميركا تعتمد استحداث نوع من التوازن مع السلطة الفلسطينية في رام الله لمصلحة حماس، وما كانت الدولة العبرية تطمئنّ لأبي مازن على الرغم من أنّه الذي أقام سلاماً معها في اتفاقيات أوسلو عام 1993. حماس التي انفصلت بغزة عام 2007 كانت نوعاً من الضمانة لإسرائيل في وجه “الشرعية” الدولية لسلطة رام الله! وعلى الرغم من أربع حروبٍ صغيرة بين إسرائيل وحماس، فإنّ عداوة نتنياهو لأبي مازن ظلّت أكبر من عداوته لحماس.
الخطّ الفاصل بين عهدين
شكّل طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 خطّاً فاصلاً بين عهدين. فقد تبيّن أنّ خطر حماس لا يمكن الاستهانة به على الإطلاق. وعلى الرغم من عدم تغيّر الموقف من أبي مازن، فإنّ حكومة اليمين صمّمت على القضاء على حماس أو لا تنتهي الحرب مهما بلغت خسائر المدنيين والعمران. وما استهانت الولايات المتحدة بخطر حماس، فحشدت بالسلاح وبالاستخبارات وربّما بالفرق الخاصة على الأرض لمساعدة إسرائيل. لكن لأنّ الاستخبارات الأميركية كانت تتوقّع حرباً أوسع من جانب إيران من خلال ميليشياتها في كلّ مكان، فقد أرسلت أساطيلها وحرّكت قواعدها، وهي تشنّ حرباً مع شركائها على الحوثيين في البحر والبرّ بالفعل، وتحذّر الحزب باستمرار من توسيع الحرب. لقد وجّهت ضربات للميليشيات المتأيرنة في العراق وسورية، وتبادلت معهم الضربات، ثمّ تبيّن أنّهم بخلاف الحزب والحوثيين ليسوا خطرين خارج أرضهم.
إسرائيل يميناً وغير يمين ما عادت ترى أمناً ولا أماناً مع الميليشيات من حولها. ولذلك تريد المضيّ نحو حربٍ على الحزب، ربّما ليس للإبادة كما في حالة حماس، لكن للإضعاف الشديد: فهل تغيّر موقف الولايات المتحدة من الميليشيات أم ما تزال سياسة الاحتواء سائدة؟ في الظاهر ما يزال الاحتواء هو سيّد الموقف. فقد أكّدت إيران في بدايات الطوفان أن لا علاقة لها به، والطريف أنّ الولايات المتحدة صدّقتها علناً. فلمّا ازدادت مخاوف التوسيع من الطرفين صار المسؤولون الإيرانيون يأتون إلى لبنان للتهدئة أو يعلنون ذلك مع شدّة الشتم للصهاينة بالطبع (!). والحزب مع أنّه وسّع الهجمات في العمق الإسرائيلي وباتجاه الجولان، لم يضرب في البحر مثلاً. وظلّ الأميركيون والفرنسيون يحذّرون من التوسيع على الرغم من تهديد إسرائيل كلّ يومٍ بذلك. وبلغ التخوّف ذروته عندما ردّت إيران على الضربات التي أصابتها في سورية. لقد ظنّ كثيرون أنّ إيران ستستخدم الحزب، لكنّها لم تفعل.
إنّ التغيير الثاني البارز بعد حرب الطوفان هو إعلان الرئيس بايدن عن مبادرةٍ اتّفق عليها مع نتنياهو لوقف الحرب. لقد بدت إيران متفاجئة وأعلنت على لسان مسؤوليها من طهران ولبنان وسورية أنّها مع استمرار الحرب، وهو ما استدعى إدانةً من السلطة الفلسطينية ومن الأطراف العربية والغربية.
فهل يغيِّر الموقف الجديد من سياسات الاستيعاب المستمرّة منذ أكثر من عقدين؟ السؤال غريب لأنّ الأميركيين على مشارف الانتخابات الرئاسية لا يدخلون في إجراءات جذرية تجاه إيران، وبخاصّةٍ أنّهم دخلوا في تحدٍّ كبير بسبب حرب غزة ومبادرة الدولة الفلسطينية، لكي لا تتعدّد التحدّيات وتصعُب مواجهتها. لكنّني أثرت هذا السؤال لكثرة ترداده ليس من جانب الخبراء العسكريين الإسرائيليين بل ومن جانب بعضٍ الاستراتيجيين الأميركيين والفرنسيين.
يكرّر هؤلاء أنّ هذه الميليشيات ستظلّ تشكّل تهديداً أمنيّاً لإسرائيل حتى لو صار هناك توافق على الحدود البرّية مع لبنان. ثمّ إنّ هذه الميليشيات عطّلت الدول في العراق وسورية ولبنان واليمن. والاستقرار بالمنطقة يعتمد على إقامة الدولة الفلسطينية واستعادة نظام الدولة الوطنية في العراق وسورية ولبنان واليمن. الإيرانيون لا يكفّون عن التغلغل، وهم يهدّدون منذ سنتين وأكثر أمن الأردن. وما توقّفوا عن الشرذمة والمذهبة في سورية على الرغم من كثرة الغارات الإسرائيلية. وفي اليمن يقول الحوثي إنّه جنّد 350 ألفاً من جديد(!) وهذه المرّة ليس للمواجهات الداخلية ومع دول الخليج بل وضدّ الولايات المتحدة وبريطانيا.. وإسرائيل!
وهكذا فإنّ الخبراء المنحازين لإسرائيل يذهبون الآن إلى أنّه قد تكون هناك لكلّ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وفي الطليعة إسرائيل بالطبع، مصلحة في الكسر من شأفة الميليشيات بضربة في لبنان للحزب. لكنّ قسماً من أصدقاء أميركا بالمنطقة يحذّرون من هذه المغامرة التي ستخرّب لبنان لأنّ الحزب منتشر فيه مثل انتشار حماس في قطاع غزة. وقد يخفّف ذلك من قدرات الحزب لكنّه سيُسقط كلّ أملٍ في قيام دولةٍ في لبنان. فكما لا يمكن القضاء على حماس على الرغم من احتلال كلّ قطاع غزة. فكذلك لن يمكن ضرب الحزب حقّاً بإغاراتٍ أو باحتلال كيلومترات في الجنوب. ويستشهد هؤلاء على “مرونة” الحزب بالاتفاق على الحدود البحريّة معه. وربّما يمكن التفاوض حقّاً على الحدود البرّية كما يقول الحزب بعد انقضاء الحرب.
جدوى الاستيعاب
لا يفكّر الأميركيون حتى الآن كما يفكّر الإسرائيليون. لكنّ معظم الخبراء مقتنعون أنّ السياسات الإيرانية في ما يتعلّق بمواجهة إسرائيل وأميركا لن تتغيّر كثيراً. ولذلك يكثر التساؤل حول جدوى سياسات الاستيعاب الطويلة الأمد التي لا مسوِّغ لها إلا أنّها بديل عن الحرب أو الحروب الكبرى، مع استمرار وتكرار الحروب الصغرى. لقد شنّت الولايات المتحدة في حقبة الهيمنة (1990-2008) عدّة حروبٍ وخسرتها في النهاية على الرغم من الانتصار العسكري في البداية. فالولايات المتحدة تربح في العسكر وتخسر في السياسة. وهذا سبب آخر لعدم القيام بحروبٍ كبرى وليس في منطقتنا فقط بل وفي الشرق الأقصى.
لكن بعد هذا كلّه وترجيح استمرار سياسات الاستيعاب، ماذا يفعل أو سيفعل الإسرائيليون؟ هل يجرؤون على خوض الحرب ضدّ الحزب في لبنان بدون موافقة الأميركيين؟ الأميركيون انتشروا بكثافة في البرّ والبحر والجوّ بالمنطقة وجوارها ليمنعوا الحرب الشاملة، وهم يخشون إذا توسّعت الحرب أن تتورّط فيها أطرافٌ أخرى. بل وأن تزداد الأخطار على إسرائيل، فضلاً عن التقدّم النووي الإيراني. ولذلك على الرغم من الضعف تجاه الرغبات الإسرائيلية الجامحة، سيظلّ التجاذب والتفاوض غالباً على العلاقة الأميركية مع إيران. سواء أكانت الإدارة المقبلة جمهورية أو ديمقراطية، مع الحرص الشديد على أمن إسرائيل وعلى إرضاء الحلفاء العرب بالدولة في فلسطين. فبالدولة الوطنية للفلسطينيين يسقط سهمٌ رئيس من يد إيران، وربّما تصبح إسرائيل من دول المنطقة. هذا على الأقلّ ما يراه كوردسمان وجوزف ناي، أحدهما خبير عسكري والآخر استراتيجي.
كلّ هذه التأمّلات أثارتها الحرب الأخيرة. وقد كانت سائر الأطراف قبل الحرب في حالة جيّدة: اليمين الإسرائيلي في غزة، واليمين الإيراني في عزّه باستثناء الإزعاجات في سورية من غارات إسرائيل. أمّا حماس في غزة فكان وضعها مثل الوضع في سنغافورة كما زعم أحد الخبراء الفلسطينيين.
وأخيراً كان الحزب في ذروة مجده يتلاعب بالرئاسة والحكومة والبرلمان، وقد اتّفق مع إسرائيل على الحدود البحريّة على الرغم من عدم ظهور البترول أو الغاز المرغوب! إذاً لماذا أرادت إيران وحماس الحرب على الرغم من وضعهما الجيّد جداً؟! إنّ الزعم أنّهم أثاروا الحرب لمنع التطبيع زعمٌ غير مقنع. فالأَولى القول إنّ التقدير الإيراني- الحماسيّ ما كان صائباً ولا مثمراً بدليل الضحايا الكثيرة وخراب العمران وإحياء فكرة الدولة الفلسطينية والإجماع على إزالة حماس بأيّ سبيل. وإذا أضفنا إلى ذلك مئات القتلى في جنوب لبنان وما ينزل بالحوثيين، فإنّ ذلك كلّه مُشعرٌ بالخسائر الهائلة العسكرية والاستراتيجية التي نزلت بإيران وميليشياتها. فلماذا شنّت إيران الحرب، وماذا كان تقديرها وأهدافها؟! سؤال سيتكرّر إلى ما لا نهاية دونما إجابةٍ مقنعة.
المصدر: أساس ميديا