د. مخلص الصيادي
المقال نشرته الجزيرة نت للأستاذ الشيخ محمد المختار الشنقيطي يوم 12 / 6 / 2024، ويمثل في جوهره محاولة لتقديم رؤية للوضع الشائك الذي تصور أن قوى الجهاد الفلسطيني علقت فيه حينما تحالفت واستندت إلى قوى لا تصلح لأن تكون حليفا استراتيجيا، وذلك بغرض مواجهة عدو وجودي.
في مصطلحات المقال تمثل إيران الحليف، ويمثل الكيان الصهيوني العدو، وقد اختارت قوى المقاومة والجهاد الفلسطينية الاستناد إلى إيران لمواجهة الكيان، وتبرير عدم صلاحية إيران لتكون حليفا استراتيجيا كونها تقوم بأعمال عدائية دامية على الساحة السورية والعراقية واليمنية ضد قوى شعبية وقوى مجاهدة هي من صنف القوى التي تقوم بدعمها في فلسطين، إضافة إلى كون إيران تملك مشروعها الخاص الذي لا يلائم جوهريا مشروع قوى الجهاد الفلسطينية.
من هنا جاء عنوان المقال “فقه الثغور المتعددة” وحصيلة هذا الفقه أن يَعذر الثوار في الساحات المختلفة بعضهم بعضا حينما تضطرهم الظروف إلى التحالف والاستناد إلى قوى ودول تناقض مواقفها وتحالفاتها من ساحة إلى أخرى، ومن ثغر إلى آخر.
وبعد أن يشير إلى سوابق من عهد الرسالة الأول حين سجل الاستعانة بالمشركين وبالنصارى في احتياجات ومعارك الدعوة في مرحلتها الأولى، فإنه يعرض مفهوم المساحات الرمادية قبل أن ينتقل سريعا ليضرب أمثلة لثورات من العصر الحديث، أخذت بمفهوم المساحات الرمادية، حيث التحالف مع قوى دولية فيها من الأبيض والأسود ما يجعلها رمادية اللون، ومن الأمثلة التي ضربها. حرب التحرير الجزائرية، وحرب الثوار الأفغان، والحرب الفيتنامية.
ولا شك أن المقال مهم لأنه يمثل محاولة لسد ما اعتقده الكاتب ثغرة في ممارسة قوى الجهاد الفلسطيني وهي تستند إلى تحالف مع النظام الإيراني، الذي لا يستبعد الشنقيطي أن يدير ظهره للمجاهدين الفلسطينيين حينما يتجاوز عتبة النووي، ويملك هذا السلاح.
والتدقيق في مجمل الطرح “الفقهي” إذ يكشف عن الجهد المكثف الذي يحاوله الشنقيطي. لصوغ فقه يستند إلى “الفكر السياسي الإسلامي”، فإنه يكشف في الوقت نفسه عن قصور لا يخفى في فهم وإدراك بنية “الواقع / المثال” الذي يتحدث عنه، أو يمثل له، ويدافع عنه، أي أنه بعد أن “قعد القواعد” لما اعتبره “فقه إسلامي لحال الثغور المتعددة”، انتقل للتدليل على هذا الفقه بالأمثلة، لكن هذا الانتقال كان يحتاج إلى جهد أكثر، وتعرف أكثر على الواقع الذي أتى بفقهه ليعالجه:
١- في كل حديثه اعتبر أن هناك وحدة ساحة لقوى الجهاد بين فلسطين وسوريا واليمن..الخ، وهذا غير صحيح، ـ ونكتفي بالحديث وبالمثل هنا على سوريا ـ فالقوى ليست واحدة، مكونات القوى التي تتحرك في كل ساحة ليست متطابقة ولا متقاربة، وتختلف عن بعضها البعض الى درجة التناقض في وجوه عدة
** في فلسطين وغزة نحن أمام قوى جهادية تواجه وتقاتل العدو الصهيوني، وهي منذ اللحظة الأولى تدرك طبيعة المعركة وما تريد، لكن الأمر من زاوية قوى الثورة ليست كذلك في سوريا.
في سوريا قوى متعددة التوجهات والأهداف استندت على حراك ثوري شعبي سلمي، ثم راحت كل واحدة منها تشد هذا الحراك إلى جهتها، وتربطه بالقوى الإقليمية والدولية التي ارتبطت بها، وتمتد مروحة هذه القوى من “الإسلامية الجهادية المتطرفة” الى “العلمانية الصرفة”، وهذه وتلك تقف على مسافات مختلفة من النظام السوري الذي تستهدف تغييره، ومن مكونات المجتمع السوري.
الفارق واسع بين هذه وتلك، بين اتجاه فلسطيني موحد وثابت، وهو بهذه الطبيعة يتقدم مهما كان التقدم بطيئا، وبين اتجاهات على الساحة السورية متناقضة متنافرة، يفت بعضها في عضد البعض الآخر مهما بدت قوة كل واحدة منها.
** يبدو أن الشنقيطي لا يرى في مواجهة النظام السوري إلا “القوى الاسلامية، الجهادية”، وللحق فإن مثل هذه القوى غير مرئية على هذه الساحة إلا من خلال المسميات المختلفة من جيش الاسلام مرورا بكل الألوية والفصائل، وصولا إلى النصرة بكل مسمياتها، وأخيرا داعش إن كانت هذه توضع من بينها، في العدد تتجاوز مسميات هذه التنظيمات المئة مسمى وقد يكونون أكثر بكثير، وتمتلك القوى الرئيسية منها في هذا الجزء من الجغرافيا السورية أو ذاك، سلطات أمر واقع تمارس من خلالها دور الهيمنة تحت ظل القوى الإقليمية الداعمة، والمراقب المنصف لا يلمس لأي من هذه القوى رؤية أو استراتيجية للوصول إلى الهدف، أو حتى لإدارة ما تحت سيطرتها من مناطق، إدارة تنبئ بخير للأمة إن هي تسلموا زمام الأمور.
وإذا كنت أشير إلى أن الشنقيطي لا يرى إلا مثل هذه القوى فإن من الظلم قياسهم بقوى الجهاد الفلسطيني، أو وضعهم كمعادل موضوعي على الساحة السورية، مقابل تلك القوى الفلسطينية المجاهدة.
** ثم إن علاقة إيران مع قوى الجهاد الفلسطيني أعمق وأبعد أثرا من علاقة الحلفاء الغربيين والإقليميين مع “قوى الثورة السورية المسلحة” – بغض النظر عن رأينا بمشروعية هذه العلاقة ـ والفروق بين العلاقتين واسعة جدا.
طبيعة العلاقة لا ترتبط بالمشروع النووي الإيراني، وإنما ترتبط بنظرية “ولاية الفقيه” الإيرانية الفارسية من جهة، وبطبيعة المشروع الصهيوني الغربي من جهة أخرى، وهما مشروعان متنافسان على أرضنا ومنطقتنا ولمدى زمني متطاول، أي أن من مصلحة إيران الاستراتيجية أن يمتد تحالفها مع قوى الجهاد الفلسطيني إلى أمد أبعد بكثير مما رسمه الشنقيطي في مقاله.
نحن ندرك أن إيران لن تضع نفسها في خدمة المجاهدين الفلسطينيين، لكن المساحة المشتركة بينهما أوسع بكثير، عمقا وامتدادا زمنيا.
2ـ قدم في مقاله عرضا للشروط الثلاثة لنجاح السياسة العملية لقوى الثورة القادرة على بناء مساحات مشتركة مع الحليف الاخر وفي مقدمتها استيعاب ظروف الزمان والمكان والإمكان وبالتالي ترتيب الأولويات والواجبات والمسؤوليات وكذلك الوعي بالبيئة الإقليمية والدولية المحيطة، ثم استعرض ببعض التوسع نماذج يتوضح من خلالها كيف ان عمليات الدعم الخارجي إنما تقوم على المصلحة وعلى المضي معا في الطريق المشترك إلى حين التفارق، لكن هذه المفاهيم حين طبقها على واقع “الثورة السورية” لم يظهر أبدا ماذا حققت هذه القوى من ” التحالف مع القوى الغربية” لمصلحة أهدافها، انه يعترف بان القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة كانت تريد اخراج سوريا: الجغرافيا السياسية والمجتمع والتاريخ من سياقها وتفتيتها، وقد نجحت، لكنه لم يقل لماذا لم تحقق تلك القوى التي يصنفها ب”الثورية الإسلامية” شيئا من أهدفها في تحالفها مع الأمريكان، أي أنها في المنطق الذي طرحه مكنت القوى الغربية والإقليمية من تحقيق أهدافها المعادية لسوريا، في حين عجزت هي عن تحقيق شيْ مما كانت تعلنه، ويوصف النظام السوري بأنه نظام مستبد طائفي، فاسد وقاتل.
أين هذا من صورة الوضع على الساحة الفلسطينية، ثم أين هذا من توصيف هؤلاء بأنهم قوى ثورية.
3- وهو يضرب الأمثال لشرح مفهوم “فقه الثغور المتعددة”، فاته أن يقف على “فقه وحدة قوى” الثورة” ودور هذه الوحدة في تحقيق النصر، وفي الحفاظ على البوصلة في اتجاهها الصحيح، والغريب أن يكون هذا الأمر قد فاته وهو واضح جلي في الأمثلة الثلاثة التي ضربها وهي: الثورة الجزائرية، والثورة الفيتنامية، والثورة الأفغانية.
في التجارب الثلاث المشار إليها لم تكن هناك إلا جهة واحدة تجاهد وتخطط وتهاجم وتفاوض، وتحالف.
قوة واحدة، بقيادة موحدة. وباستراتيجية عمل متناسقة. وقد أثبتت تلك التجارب أن هذا كان شرطا من شروط تحقيق النصر حيث تحقق، في فيتنام: الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام “فيت كنغ”، في الجزائر: جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، في أفغانستان حركة طالبان.
لقد كان ضعيفا جدا، وغير مقبول أن يضع غرف السيطرة الأمريكية / الناتو التي وضعت في الأردن وتركيا (الموك، والموم) مقابل غرفتي اسلام اباد وبيشاور لدعم المجاهدين الأفغان، لتبرير شرعية “الموك، والموم”، وهو يعلم ان نصر الأفغان جاء من حرب طالبان على الوجود ألأمريكي، وليس مما سبق طالبان، فما سبق طالبان جاء بنظام حكم هو أشبه بنظام الحكم العراقي الذي جاء مع الدبابات الأمريكية
4- والغريب أيضا أن الدكتور الشنقيطي، لم ينتبه إلى شرط آخر من شروط النصر توفر للأمثلة الثلاثة التي أتى عليها، وأسهم مساهمة فعالة في تحقيق الهدف وهو الانتصار، وهذا الشرط هو الحليف الحقيقي، الاستراتيجي.
مع ثوار فيتنام الجنوبية كانت هناك فيتنام الشمالية، ومن ورائها وبدون حدود أو تردد تقف الصين، ومن ثم الاتحاد السوفيتي.
وفي طالبان الأفغانية، كانت هناك قوى النظام الباكستاني العميقة التي كان لها دورها في وجود طالبان وفي تدريبها، وإطلاقها، ثم في مدها بالتمويل والتسليح والايواء، ويشار في أحيان إلى دور صيني في هذا الأمر.
أما الجزائر فلا شك أن لمصر عبد الناصر دورا خطيرا ومركزيا في تأمين كل سبل الدعم والحماية والتسليح والتدريب لثوار الجزائر.
ومهم أن أشير هنا الى أن دعم ثورة يوليو للثورة الجزائرية، لم يوجد هذه الثورة -وتصدق هذه الملاحظة على مثال فيتنام وطالبان – فالثورة أوجدها الشعب الجزائري وطلائعه المقاتلة، لكن ثورة يوليو وفرت لها الكثير من شروط النجاح، وكان يمكن أن يكون مسارها ونهايتها كمسار ونهاية ثورة الأمير عبد القادر الجزائري.
مهم أن ندرك أن الأمر هنا، وهناك، لم يكن تحالف، مجرد تحالف، وإنما ارتباط استراتيجي تحرسه وتنمية الأهداف المشتركة، والقيم المشتركة، والانتماء المشترك، والرؤية المشتركة للمستقبل، والذي يراجع مسار ثورة يوليو مع ثورة الجزائر، من قبل أن تنطلق، وعلى مدى مسارها، وفي مفاوضات الاستقلال، يدرك لماذا تحالف وتآمر الثلاثي الشيطاني (الكيان الصهيوني، فرنسا، بريطانيا) ضد مصر ونفذوا العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦.
في هذا المقام بالذات غريب أن يقف الشيخ الشنقيطي ليذكر دعم الاتحاد السوفياتي الشيوعي لثورة الجزائر ويغفل دعم ثورة يوليو لهذه الثورة التي أصرت على ربط مصيرها بمصيرها، وكانت لحظة فارقة في تاريخ وحال الأمة العربية وحركة التحرر الإنسانية كلها.
لا يمكن أن يفهم أو يفسر ذلك بالغفلة، وعدم الانتباه، وبالتأكيد لا يفسر بالجهل وعدم المعرفة، وكذلك غمزه الخفي بالثورة الجزائرية، حين يشير إلى أن أصل انطلاقتها إسلامية، لكن قد تكون الأيديولوجيا التي توجهه هي التي دفعته لذلك وهذه من أخطر ما يمكن أن يصاب به الباحث، وهي بالتأكيد الأخطر إن كان المتحدث يتحدث باسم الفكر الإسلامي أو التوجه الإسلامي، أو يحاول أن ينشئ “اجتهادا إسلاميا” لحالة محددة، ويقوم بتدريسه لطلابه، إذ يصبح الخطأ ثلاثي الأبعاد ولا يغتفر.
رغم هذه الملاحظات فإن في المقال فوائد عديدة، يستأهل معها عناء القراءة، والمتابعة، وعناء التفكير في طرق لسد هذه الثغرات.