معقل زهور عدي
ساطع الحصري واحد من أهم المثقفين العرب الذين قدموا مساهمات هامة في بناء الفكر السياسي القومي في المرحلة التي امتدت منذ انتهاء العهد العثماني وحتى الستينات من القرن الماضي .
تمتاز مساهمات الحصري بالجدية والرصانة في تناول المسألة القومية , فهو لايتناولها بأسلوب حماسي خال من المضمون المعرفي االذي يجهد في تقديم الأدلة والبراهين ويتسع لأفكار الحداثة الأوربية وللنقاش العقلاني الذي يقلب الأمور من مختلف وجوهها , ولا يتسرع في إصار الأحكام والآراء قبل الاستغراق في فهم المحتوى , كيف ولدت الفكرة وكيف انبسطت في الزمان والمكان , ثم كيف تغيرت وماهي العوامل التي صنعتها والعوامل التي أثرت فيها عبر التاريخ , ولايبخل بالشواهد والأدلة , مايعطي انطباعا قويا بثقافة موسوعية عميقة الجذور .
لكن لماذا الالتفات إلى ساطع الحصري وقوميته العربية اليوم ؟
ببساطة لأن ماشهدناه ومازلنا نشهده حتى الآن هو حملة سياسية وفكرية واسعة مكثفة لاتتناول القومية العربية كفكرة فقط ولكن الانتماء العربي ذاته , وكأنها تريد محو أي شيء يتصل بالهوية العربية وصولا لانكار وجود مثل تلك الهوية , تترافق مع مسعى مكثف لوضع الهويات الوطنية مكان الهوية العربية وعلى حسابها بحيث تحاول خلق تضاد مصطنع بين الهويتين , فإما أن تكون سوريا أو تكون عربيا .
لايهم في تلك الحملات لا الحقائق التاريخية ولا المنطق والعقل ولا مصلحة الشعب ومستقبله , كل ذلك يتم وضعه جانبا , والاستعاضة عنه بتلفيق يستند لشعبوية مستمدة من مقارنة تقارب بين الأنظمة الديكتاتورية العربية والفكرة القومية حتى تكاد الصورة المقدمة تطابق بين هاذين الأمرين بطريقة مخادعة تستهزء بالعقل الجمعي وقدرته على التفريق بين هذا وذاك .
ويكتمل التشويه بإضافة النزعة العنصرية إلى الفكر القومي , وكأن العنصرية تولد مع القومية , وليست تطرفا في النزعة القومية كما هو الأمر في احتمال دخولها لأي فكر سياسي .
ولنعترف بالواقع فقد استطاعت تلك الحملات اختراق الوعي الجمعي للشعب السوري إلى هذه الدرجة أو تلك في ظل التصحر السياسي الذي فرضه النظام السوري , والتشويه الذي أنتجته ادعاءاته القومية الفارغة والكاذبة .
كل ذلك لم يكن يجري بدون أصابع خارجية كما هو الحال في هذه المنطقة المنكوبة بهيمنة غربية فائقة الاهتمام والتدخل ليس في حقل السياسة فقط ولكن في حقل الفكر والاعلام الذي يشمل النخب والشعوب كما يشمل الأنظمة والحكومات .
وكما هو الحال في مسألة اعتماد الهيمنة الغربية على الوكلاء المحليين الذين يتم تعيينهم والحفاظ عليهم باعتبارهم القادة والزعماء فهناك بصورة موازية الوكلاء الفكريون الذين يشتغلون ضمن مؤسسات ممولة وينفذون أجندة الهيمنة الغربية تحت مختلف الأغطية الملونة .
لقد أحدثت قوة نهوض وامتداد القومية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين صدمة لدى الدوائر الغربية وقرعت لديهم جرس انذار لم يكن صوته غريبا عن ذاكرتهم التاريخية منذ تسبب اتحاد بلاد الشام مع العراق ومصر في تشكيل قوة وازنة تمكنت من طرد الصليبيين وصد المغول عن المنطقة العربية .
ومنذ ذلك الوقت أصبح الهدف الذي يستحق التصويب عليه دائما هو الرابطة العربية المجدولة مع الاسلام .
ولكون الحقائق أقوى دائما من ” الموضات ” فالعروبة تنهض أمامهم بعد كل حملاتهم وبعد أن يكونوا قد ظنوا أنها دفنت مرة واحدة وإلى الأبد .
من أجل الحقيقة التاريخية التي يحاولون تزييفها كان لابد من تقديم محتوى القومية العربية ثانية للجيل الجديد .
وعلى هذا الطريق سوف أقدم قراءة أسعى أن تكون حيادية ونقدية لكتاب ساطع الحصري ” ماهي القومية “