واسيني الأعرج
يعيدنا ما تشهده الساحة الثقافية في الجزائر إلى أسئلة شديدة الخطورة، ظننّاها انسحبت من دون رجعة مع اندحار الإرهاب. ها هي ذي تعود بأدواتها المُرعِبَة كلّها، من مطاردات وتهم مجّانية، وتشويه، وتأليب الرأي العام واللعب على الثالوث السهل؛ الوطنية والدين والأخلاق. وصل بها الأمر إلى محاولة تحريك بعض مُؤسّسات الدولة لتغليف إرهابها بالشكل القانوني، كالبرلمان وبعض الوزارات، والقضاء، والتهديدات وسيل الشتائم (؟). لا تتوقّف المشكلة عند هذا الحدّ، ولكن في جبن بعض الفئات الثقافية الجامعية، وغيرها، وانجرارها وراءها باسم الأخلاق العامة، والوطنيات الزائفة، إلى درجة أن يَلعَن الفائزُ مع نفسه فوزَه بجائزة من الجوائز، فالثمن الذي يُدفع غالٍ جدّاً. أعتقد أن هذا هو إحساس الزميلة إنعام بيّوض بعد فوزها بجائزة آسيا جبّار عن روايتها “هُوّارِيّة” (دار ميم، الجزائر، 2023). حتّى الناشرة صاحبة دار ميم، الكاتبة والقاصّة آسيا علي موسى، أوقفت الدار وانسحبت من الوسائط تفادياً لهجوماتٍ لا تتوقّف، وكلّها مُؤسّسة على كم كبير من الكذب.
الهجمة المسعورة كلّها بدأت عندما نشر أحدُهم صفحاتٍ من الرواية منتقاة للغرض الأخلاقي، بنيّةٍ مُغرِضة، فيها بعض الكلمات البذيئة خارج أيّ سياق.
هناك ظاهرة عربية تحتاج إلى تأمّل معرفي، وإلى البحث في منابعها الحقيقية. ربّما تفرّدنا بها عربياً في ظلّ خواء روحي وثقافي مُفجِع، وهزائم داخلية تنام في اللاشعور الجمعي في عصرنا الحديث منذ ما لا يقلّ عن مائة سنة، حتّى لو أنّ الشعب الفلسطيني يحاول مقابل تضحياتٍ باهظة تغيير المعادلات، وفضح ضعف الآلة الإبادية الإسرائيلية، والتخفيف من ثقل هذه الهزائم المتراكمة. الهجمة ليست جديدة، ولكنّها استفحلت هذه السنة، وكشّرت عن أنيابها باسم الأخلاق. فقد أسالت حبراً كثيراً وكادت تنتهي إلى محاكمة الروائية بعد أن حوكمت روايتُها. وعندما نقرأ رواية “هُوّارِيّة”، التي تفضلت ببعثها إلي مشكورة الأديبة والمترجمة إنعام بيّوض، لا نجد شيئاً يثير اهتماماً خاصّاً خارج – أخلاقي. باستثناء جانبها الأدبي وموضوعها الصريح المُرتبط بالعشرية السوداء في الجزائر؛ ما سبقها وما لحقها، فلا نجد سبباً يُبرّر “الصراخ الأخلاقي” كلّه، الذي صاحب فوز الكاتبة بجائزة آسيا جبّار عن هذه الرواية. أعجبتني جدّاً مقالة الصديق معن البيّاري “البذاءة الغائبة في هُوّارِيّة”، في “العربي الجديد” (20/7/2024)، لا يوجد في الرواية ما يُبرّر “ثورة الغبار”.
قادني هذا الوضع نحو رواية “حيزيا: زفرة الغزالة الذبيحة” في شهر مايو/ أيّار من العام الماضي (2023). كلّ شيء بدأ بمحاضرة ألقيتُها في قسنطينة في 8/5/2023، عن رحلاتي عبر الصحراء الجزائرية: بسكرة، أولاد جلال، سيدي خالد، الدوسن، ورقلة، الجلفة، بعض مناطق أولاد نايل، في اقتفاء آثار حيزية. كان عنوان المحاضرة “حكاية حيزيا روائياً: المخيال الشعبي ودوره في تحرير السرد”، وكان نقاشاً كبيراً وصريحاً، ويبدو أنّ الشرارة انطلقت من هناك أو جعلوها تنطلق من هناك. عرضتُ ما استطعت العثور عليه عن تاريخ حيزية. إضافة إلى الكتابات الفرنسية عن تاريخها وأسطورتها، ما دام الفرنسيون، وتحديداً سونييك، الذي ثبّت للمرّة الأولى نصّ حيزيا لابن قيطون بأن نشره كاملاً في سنة 1899، بالعربية الشعبية، ومُترجَماً إلى اللغة الفرنسية. وذكرتُ في المحاضرة ما سمعته من عجائز المنطقة، من دون أن يكون لي رأي قاطع في المسألة. الأمر يتعلّق في النهاية برواية وليس ببحث أكاديمي. فما قمت به لا يعدو أن يكون تأسيساتٍ تاريخيةً لنصّ لم يُنجَز بعد. وكان النقاش حادّاً بشأن مسألة: هل يجوز للكاتب إدخال التخيّل في موضوع تاريخي حقيقي؟… وانتهى النقاش، ليتحوّل في اليوم التالي عاصفةً اشترك فيها “حرّاس النيّات” و”الإنكشاريون الجُدد”، وانتهت القضية بالمطالبة بمنع الرواية من التداول (وهي لم تصدر بعد!)، وتلقّفت الخبر قنواتٌ عربيةٌ كثيرة جعلت منه جزءاً من مادّتها الثقافية فجأةً، وصدرت أكثر من خمسين مقالة عن رواية لم تصدر، جمعتها الباحثة زينب ديف تحت عنوان جميل، “فتنة حيزيّة”. باستثناء زملاء جامعيين قليلين وبعض الإعلاميين الوازنين، فإنّ أكثر من 90% ممّا كتب كان استسهالاً وشتائم وتهديدات. بالتأكيد، لا أحد قرأ الرواية، لأنّها ببساطة لم تكن قد صدرت. يوم صدرت بمناسبة معرض الكتاب في الجزائر انهال عليها الجمهور لاقتنائها، ونفدت في ظرف ساعتَين من المعرض، وخلص معها كتاب “فتنة حيزيّة”. وأعيدت طباعتها خمس طبعات متتالية في الجزائر وحدها، باستثناء طبعة دار الآداب. خفّت العاصفة، لأنّ الذين وقفوا وراء الحملة خاب ظنّهم في المصادرة، ولأنّ الجهل بوضوح: كيف تُكتب مقالات كثيرة عن رواية لم يقرؤوها.
يؤكّد هذا التماثل في الحدث، مرّة أخرى، أنّ حرّية التعبير ما تزال بعيدة، وأنّ الإنكشاريين الجُدد يُدمّرون يوميّاً كلّ إمكانية للكتابة، وأنّ هناك قرّاء لنصّ “هُوَّاريّة” بلا قراءة. لا يمكن قبول فكرة المصادرة فقط لأنّ الكاتب تجرّأ وقال ما كان يريد قوله. والأخطر من ذلك كلّه السقوط في الشعبوية التي سقط فيها كثيرون استرضاءً للموجة العامّة، المحكومة بلايكات “فيسبوك”، وتقودها ثلاث كلمات بذيئة من رواية عدد كلماتها تجاوز الستين ألفاً. الرواية سحبت منها الدار مائتي نسخة تجريبية لاختبار السوق، في انتظار السحب الكبير، والتي لم توزّع كاملة بسبب الحملة المسعورة. من ثلاث صفحات انتشرت الشتائم وبدأ التصعيد من البذاءة اللغوية إلى شتم اللجنة التي منحت للكاتبة جائزة آسيا جبّار. تتساءل كيف تمكّن الجهل القرائي من رواية لم تقرأها إلا القلّة القليلة، ويتمادى الوضع إلى درجة توريط كتلة برلمانية تطلب من الوزير الأول مصادرة النصّ، الذي يهين مدينة وهران، ما يُظهر، بوضوح، أن صاحب هذا الرأي لم يقرأ الرواية.
العقل البسيط النفعي الآلي يقول كيف لإنسان أو لمجموعة لم تقرأ إلا ثلاث كلمات نابية بعد أن أُخرِجت من سياقها أن تكتب عن رواية لم تقرأها؛ “هُوّارِيّة”؟ ثم تشتم وتحوّل النقاش حرباً مرعبة، إلى درجة تشعر فيها أنّ ذباباً إلكترونياً متسلّطاً، ليس على الكاتبة وحدها، ولكن على كلّ من رفع صوته وقال باسطاً: يكفي من هذا الهزال. ما قرأناه ليس نقاشاً، ولكنّه محاكمات أخلاقية. وتمادى حُماة معبد الأخلاق إلى أن وصلوا إلى محاربة جائزة آسيا جبّار نفسها، ودعوا، من دون سابق معرفة، إلى ضرورة أن تشرف عليها الدولة، ونسوا أنّ المشرف الأساسي على الجائزة هي الوكالة الوطنية للنشر والإشهار (ANEP)، والباقي ليسوا أكثر من “سبونسر”. كمٌّ مُرعب من الجهل. كيف يمكن للإنسان أن يبني رأياً صحيحاً وهو لم يقرأ الرواية؟ كيف يطالب بمصادرتها وهو لم يقرأها ولم يُكلّف نفسه بذلك؟ توقفت دار النشر ميم، وهي من أجمل دور النشر وأكثرها التزاماً، ولم يدافع عنها أخلاقياً حتّى الذين نشروا فيها.
هو زمن الانتقال من الكتابة في الدرجة صفر (بتعبير رولان بارت) إلى الدرجة صفر للقراءة، التي تمنح “الإنكشاريين الجُدد” حقّ ابتداع الأحكام من دون قراءة. حتّى إنّ بعضهم يقول ورأسُه مرفوع: “ما الذي يمنعني من إبداء رأيي في رواية لست مضطراً إلى قراءتها؟”. يبدو الأمر في ظاهره خرافيّاً، ولكنّه حدث بالفعل، وأثار جدلاً كانت أقرب ضحاياه “حيزيّة” و”هُوّارِيّة”.
المصدر: العربي الجديد