لعلّ الجديد في ظروف خطاب رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أمام الكونغرس الأميركي بمجلسيْه (الشيوخ والنواب)، هو صورة المشرّعين الذين واظبوا على التصفيق والوقوف دلالة على التأييد (عدد ضئيل امتنع عن الوقوف والتصفيق). فقد بدا هؤلاء المًؤيّدون، في حماستهم الشديدة وانفعالهم العاطفي، منتسبين إلى مؤسّسةٍ صهيونيةٍ لا أميركية، وظهروا أعضاءَ غير رسميين في تكتّل مثل تكتّل ليكود، وليسوا أعضاء في الحزب الديمقراطي أو في الحزب الجمهوري، فقد بدوا مُخدّرين وهم يبتلعون أكاذيب نتياهو أولاً بأول بانتشاء بالغ، كما ظهروا أنّهم من المؤمنين بأنّه لا دور ولا وظيفة ولا رسالة للدولة العظمى، دولتهم، سوى دعم مُجرِمي الحرب في تلّ أبيب، وتمكينهم من مواصلة إرهاب الدولة وحرب الإبادة ضدّ أكثر من مليوني غزّي، وهذا الدعم الأعمى يجعل من الكونغرس إحدى المؤسّسات الأقلّ استقلالية والأقلّ تمثيلاً للمصالح القومية وللجمهور الأميركي.
يعرف الأميركيون الدور الذي تلعبه “أيباك” ( لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية) في دعم مُترشّحين مُتصهينين إلى الكونغرس بملايين الدولارات، وعلى رؤوس الأشهاد، وفي إغراء مُترشّحين بمبالغ طائلة من أجل سحب ترشيحاتهم لمصلحة مُترشّحين متصهينين، كما يتواصل دعم “أيباك” للمُترشّحين بعد فوز من يفوز منهم، وهو ما يُفسّر الجو الحماسي الذي ظهر فيه أعضاء في الكونغرس، وهم يُصغون تلاميذ لسلسلة طويلة من الأكاذيب يتخصّص بها نتنياهو ويواظب على التفوّه بها. فمن يرتكب في مدار الساعة جرائم مشينة ضدّ المدنيين والمرافق المدنية، لن يتورّع عن ترديد الأكاذيب من دون أن يرفّ له جفن، وسط إعجاب مستمعين في القاعة ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدواتٍ وأبواقاً لقلعة العنصرية والإرهاب في الشرق الأوسط.
يذكر موقع فرانس 24 أنّه في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس عام 2022، أنفقت “أيباك” 50 مليون دولار، سواء في التمويل المباشر للمُرشّحين أو في الإعلانات التلفزيونية الخاصّة بالانتخابات. وأنّ “أيباك” تبرّعت بالأموال لـ365 مُترشّحاً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ويضمّن هذا العدد أعضاء قيادة الحزبين في الكونغرس كافّة، وبلغ عدد الأعضاء الذين حصلوا على الأموال من “أيباك” 342 عضواً (من جملة 535 عضواً، بما يمنحهم أغلبية عددية)، وعليه لن يكون مُستغرباً أن يقف هؤلاء المُستفيدون بتذلّل لوليّ نعمتهم، ولمن اشترى ضمائرهم ومقاعدهم بالمال الأسود.
وبينما بذل نتنياهو كلّ ما تملك يمينه لسبك الأكاذيب وحبكها، فإنّ أعضاء كُثراً في الكونغرس لم يلاحظوا أن هذا الرجل يسيء إساءة بالغة للقيم الأميركية، ومن ذلك ادّعاؤه الصفيق أنّ إيران تموّل التظاهرات الاحتجاجية في بلدهم ضدّ حرب الإبادة، وكذلك تهنئته لرؤساء الجامعات ممّن يقمعون حرّية التعبير في الحرم الجامعي، علاوة على الاستخدام عديم النزاهة لمصطلح معاداة الساميّة، برمي تهمة هذا العداء على كلّ من ينتقد الاحتلال الاسرائيلي البغيض، ولم يكن غريباً على هذا الأفّاق أن يصوّر الوضع المُتوتّر في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة بأنّه ناجم عن كراهية الفلسطينيين لليهود، كما ادّعى، بينما يعرف القاصي والداني أنّ النقمة هي على الاحتلال وعلى الغزو الاستيطاني، وأنّ من يثير نزاعاً دينياً هو الاحتلال نفسه، الذي يستبيح المُقدّسات المسيحية والإسلامية، فالكراهية الدينية المقيتة هي عقيدة الاحتلال وبضاعته.
لم يخجل أعضاء كُثر في الكونغرس من التصفيق للخطيب الذي أراد توريط الأميركيين في إرهاب دولته والمشاركة فيه، واعتبار تدمير المجمّعات السكنية والمستشفيات والمدارس والمعابد والأسواق أنموذجاً للحضارة، تتشارك فيه الولايات المتّحدة ودولة الاحتلال. وحدهم من قاطعوا الجلسة (128 عضواً على ما ذكرت قناة كان الإسرائيلية) قد نأوا بانفسهم مسبقاً عن حفلة الأكاذيب، وعن منح مُجرٍم الحرب منبراً لترديد أكاذيبه، ويستحقّون بالفعل رفع القبعة لهم نظير شجاعتهم ونزاهتهم، لدفاعهم المجيد عن استقلال المؤسّسات الأميركية في وجه من يعمل على شرائها والاستيلاء عليها، وهو ما لا يقع مثيله سوى في بعض دول الجنوب ذات الأنظمة الديكتاتورية، ممّا يُشكّل إفراغاً للمؤسّسة التشريعية من محتواها الدستوري والديمقراطي وتحويلها منبراً للمموِّلين من داخل الحدود وخارجها، فيُستقبَل مُجرِمو الحرب بحفاوة بالغة وتصفيق حارّ لهم بغير حياء، حتّى لو استغلوا وجودهم في هذا المنبر للتشديد على أنّهم لن يوقفوا حروبهم الوحشية، كما هو حال نتنياهو الذي تجاهل مقترحات الرئيس جو بايدن لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، مُستغلّاً فرصة الخطابة لتصوير الصراع صراعاً مع إيران، علماً أنّ الصراع في أرض فلسطين المُقدّسة، بين الغزاة الوافدين وأصحاب الأرض، بدأ قبل عقود من قيام الجمهورية الإسلامية في بلاد فارس.
ومع ذلك، نجح نتنياهو في إعادة تظهير العلاقة “الحضارية” بين دولته ومراكز غربية نافذة، إذ تتبدّى الحضارة المشتركة في إبادة المواطنين الأصليين، والمديح الذاتي للاستعمار الأبيض، وتزكية التفوّق العرقي والثقافي المزعوم (أبناء النور) على العرب والمسلمين في هذه الحقبة، بما يعيد عجلة التاريخ عقوداً طويلةً إلى الوراء، إذ إنّ نتنياهو ومن يشايعه في دولته وفي الغرب، يدركون أنّ الدولة العبرية نشأت بالإرهاب وبالعنصرية، ومن دون هذين السلاحَين فإنّ الكيان الصهيوني يتغيّر كُلّية، مثلما يخسر اليمين الأميركي والأوروبي فرصة تجييش الشعوب وإثارة غرائزها إن توقّف عن استهداف المسلمين والملونين والعرب واللاجئين. ومن حسن الطالع أنّ أجيالاً من الشبيبة، ومن الأكاديميين والسياسيين والفنّانين والناشطين، يرفضون هذا التقهقهر إلى الوراء، ويناصرون تفاعل الحضارات لا الحرب بينها، بما يجعل نتنياهو نسخةً صهيونية شديدة التطرّف من أقصى اليمين الشعبوي في أميركا وأوروبا.
من الواضح أنّ زيارة مُجرِم الحرب نتنياهو واشنطن أحدثت هزّة سياسية وإعلامية في بلاد العمّ سام، وأنّ شطراً كبيراً من الأميركيين، بمن فيهم أميركيون من اليهود، صدمهم استقبال مُجرِم حرب بحفاوة بدلاً من إرساله إلى السجن، فيما باتوا يرون أكثر فأكثر أنّ العلاقة الشاذّة مع تل أبيب تمثّل عبئاً معنوياً ومادّياً عليهم وعلى بلادهم. وعلى سبيل المثال فإنّ أنصار الصهيونية والاحتلال لا يتوقّفون عن وصف الدولة العبرية نموذجاً للتطوّر والازدهار في الشرق الأوسط، فإذا كانت هذه المزاعم صحيحة فلماذا تُقتطَع مليارات الدولارات من الميزانية العامّة لصالح هذه الدولة الأجنبية المزدهرة؟ لماذا يتعيّن على الناخب الأميركي أن يدفع من حُرّ ماله لهذه الدولة الشرهة ثمناً لأسلحة فتّاكة تستخدم بطريقة غير مشروعة، فيما تنتج تلك الدولة الأسلحة وتتاجر بها مع دول عديدة في العالم؟
المصدر: العربي الجديد