عاطف أبو سيف
يطيب لبعضهم إطلاق تسمية “نكبة” على ما يجري في قطاع غزّة، نظراً إلى التشابه الكبير بين تهجير جيش الاحتلال الإسرائيلي الناس بالقوّة وبارتكاب المجازر والمذابح ونسف وتدمير الأماكن، والأفعال نفسها التي اقترفتها العصابات الصهيونية في عام 1948؛ الحدث الأكثر رسوخاً في الذاكرة الفلسطينية، الذي يُعرَفُ بالنكبة. والحال كذلك، ما يجري في قطاع غزّة منذ 7 أكتوبر (2023) “نكبة جديدة”، كما قد يقوله صحافي محترف أو مُحلّل يلاحق الكلمات بمهارة أو سياسي يريد أن يصفع جمهوره بما يعتقد أنّه حُجّةٌ قادرةٌ على إقناعه بأنّه قادرٌ على فهم الواقع، ويفهم ما يجب من سياسات ومواقف.
والأمر كذلك، لا يمكن نفي الشبه بين الحالتين، أقصد واقع النكبة ونتائجها وآثارها الميدانية، من تهجير وتقتيل واقتلاع وتشريد، وحرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل وجيشها في قطاع غزّة حالياً، فالشبه كبير إلى الحد الذي قد تتداخل فيه الصور، وتتماهى فيه الذكريات، خصوصاً بالنسبة إلى الذين عاشوا الحدثَين، وعاشوا في الخيمة وقت النكبة، وفيها في حرب الإبادة هذه. بالنسبة إلى هؤلاء، نزف الذاكرة وتهتك فواصلها يجعلان الواقع الذي يعيشونه جزءاً من واقع عاشوه منذ 76 سنة. واقع لم ينسوه أصلاً حتّى يتذكّروه. وهذا الشبه هو ما يدفع إلى استعارة مصطلح نكبة، وإطلاقه على ما يجري من باب تقريب الوصف وتسهيل الاستذكار.
وعلى بشاعة ما يجري، تغذّت السردية الوطنية الفلسطينية بكثير من الشواهد على تفصيل فعل النكبة وتوضيحه، فيما يكاد من عاشوا النكبة أن يختفوا من الحياة العامة الفلسطينية، إذ إنّهم يتناقصون بفعل تقدّم العمر. وبالتالي، من يستطيعون أن يرووا، ومن يعيشون ليرووا، باتوا أقلّية، وما تقوم به دولة الاحتلال من مجازر وهدم للمكان يُوفّر مادّةً خصبة من أجل تغذية الأجيال القادمة بالمزيد من الشواهد والموادّ عن طبيعة النكبة، وطبيعة ما قامت به العصابات الصهيونية في حقّ أجدادنا. إلى جانب ذلك، فإنّ الاستدلال بالحدث الجديد من أجل شرح الحدث القديم أمر هام، فقول ما قامت به العصابات، في حقّ أجدادنا عام 1948 قد يبدو للمواطن الغربي غريباً، لأنّ نتائج الحروب بالنسبة إليه شيء من الماضي، هكذا تعمل الذاكرة الأوروبية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية من أجل التصالح مع الماضي. ولكن، طالما أنّ أحفاد المجرمين الأوائل يواصلون النهج نفسه، ويرتكبون المذابح نفسها، ويمارسون السياسات نفسها؛ من هدم المدن والقرى، فإنّهم يقومون بشيء هو في طينة تكوينهم. وعليه، على العالم أن يعيد استذكار ما جرى في حقّنا، إذا كان عليه أن يُفكّر في المساهمة الحقيقية في تصحيح مسار التاريخ، الذي اعوجّ يومَ مُنِحَت فلسطين للغرباء بتواطؤ منه، ومن مؤسّساته التي وُجدت من أجل السلام والعدل، وكانت فلسطين، والفلسطينيون، أول ضحايا السلام والعدل المزعومَين.
وحملت الثقافة الشعبية الفلسطينية النكبة في كثير من تفاصيلها، ولم تكتفِ بجعلها توصيفاً مطلقاً لحادثٍ يفوق الخيال، بل سحبت نتائجه والإحساس به على كثير من الأحوال، التي يعتقد أنّها قد ينتج منها الإحساس البشع والمؤلم نفسه. وهذا يشمل بالتحديد المحكي اليومي الفلسطيني، إذ تُستخدم مُشتقّات كلمة نكبة لوصف الحال أو لما وقع علينا من فعل، فالفلسطيني قد يقول “انتكبنا”، بمعنى أنّنا وقعنا في وضع صعب جدّاً، وهو وضع أقسى من أن يُتخيّل، لذا يتم استجلاب الأسوأ في الوعي الفلسطيني، أي النكبة، من أجل تقريب مستوى السوء. ومن المألوف أن تسمع إحدى النسوة تقول “يا نكبتنا”، بمعنى يا مصيبتنا، أو يا لسوء ما سيجري لنا. كانت تلك الكلمات مألوفةً في أزقَّة المخيّم، وفي جلسات الجيران، وفي أحاديث الكبار والنسوة أمام عتبات البيوت. كانت النكبة حاضرةً بقوّةٍ لأنّها السبب الرئيس في المأساة التي يعيشونها، وهي التي أدّت إلى التحوّل المهول في حياتهم من سكّان مدنٍ مُترَفين أو قروِّيين يملكون البيّارات والحقول إلى لاجئين مُعدَمين. هذا الواقع الذي يعيشون فيه هو نكبةٌ لم تنتهِ، وهو صورةٌ قاسية عن أصعب ما يمكن لهم أن يتخيّلوه، وهم لا ينفكّون يستحضرونه في ما قد يتعرّضون له كلّه، من أخطار، وما قد يواجهونه من عذابات. لذلك كان انعكاس النكبة إحساساً بشعاً ومؤلماً دائمَ الحضورِ في كثير من تفاصيل إيقاع الحياة، وكانت دائماً رديفاً لكلّ واقع مأساوي قد يواجهه الفلسطيني، خاصّة مع استمرار نتائجها، وعدم زوال آثارها البشعة.
ولكن أيضاً يجب الانتباه إلى محاذير وصف ما يجري بأنّه “نكبة جديدة” أو “نكبة ثانية”. نتذكّر عند وقوع الضفّة الغربية وقطاع غزّة تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967، أنّه أُطلِقَ على هذا الحدث “النكسة”، تجنباً لتسميتها “النكبة”، ولم يكن الأمر مُجرَّد استبدال “السين” بـ “الباء”، بل كان هذا التطابق الصوتي يعكس فهماً حقيقياً أنَّ لا شيء يمكن أن يقترب ببشاعته ممّا حدث، أو لأنّه، بالنسبة إلى الفلسطينيين، حدث الأبشع، أي لا شيء أبشع وأشدّ قسوةً ممّا وقع عام 1948. لذلك، فإنّ ما نتج من حرب العام 1967 من استكمال احتلال إسرائيل بقيّةَ البلاد، وتنزيح الآلاف، ليس إلا جزءاً يسيراً من حقيقة ما جرى في النكبة الفعلية، وهو نتيجةٌ أو استكمالٌ له.
وعليه، ليس الأمر أنّ النكبة مصطلحاً شيءٌ مُقدَّس، بل شيء لا يمكن مقارنته بأيّ شيء آخر. ببساطة، وربّما بكثير من التأمّل، أهمّ ما نتج عن النكبة من مآسٍ ليس تشريد شعبنا واقتلاعه وذبحه وبقر بطون الحوامل وقطع رؤوس الأطفال، فقط، بل هذه كلّها جرائم في حقّ الإنسانية أيضاً، ويجب العمل على إعادة نظر القانون الدولي ومؤسّسات العدالة الأممية فيها، ومحاكمة المجرمين، لأنّ مرور الزمن لا يغفر الخطايا، ولا يزيل الآثام، بل كانت النتيجة الأبرز لما جرى قيامَ دولةٍ غريبةٍ في تراب الوطن الفلسطيني. وبالتالي، ليست النكبة مُجرَّد مذابحَ وتشريدٍ ولجوءٍ، بل هي سرقةُ البلاد، وحرمان شعب فلسطين من مزاولة حقوقه السياسية، ومنح أرضه للغرباء، وتمكينهم من أجل أن يقيموا دولةً لهم في 80% من أرض الآباء والأجداد. نتذكّر أنّ تهجير الفلسطينيين لم يبدأ خلال النكبة، إذ هجّرت قوّات الاحتلال البريطاني عشرات القرى منذ عشرينيّات القرن الماضي، تمهيداً لتوسيع المستوطنات الصهيونية في طريق تمكين العصابات من البلاد. لكن، لم يطلق الفلسطينيون على ما جرى نكبة، بل إنّ نكبتهم الحقيقية تمثّلت في ضياع بلادهم وسرقتها من العصابات.
لذلك، من أكثر شعارات إحياء النكبة ترديداً، كانت دائماً أنّ النكبة جريمةٌ مستمرةٌ فهي لم تنتهِ، لأنّ حقيقة وجود إسرائيل وسرقة البلاد لم تتوقّف، والعصابات التي تحوّلت جيشاً نظامياً بعقل عصابات ظلّت ترتكب الجرائم نفسها، فلم يتوقّف يوماً القتل ولا هدم البيوت ولا إزالة القرى (مثلاً حتّى اللحظة يحدُث ذلك في النقب، وفي أماكن أخرى)، ولم تتوقّف المذابح ولا المجازر. لذلك، فإنّ النكبةَ فعلاً لم تتوقّف، ولم تنتهِ، وهي جريمة فعلاً ما زالت قائمة. لكن، لم تُوصَفْ أيٌّ من مراحل العدوان بنكبة ثانية أو نكبة جديدة، لأنّ ثمّة نكبة واحدة ووحيدة وقعت على الشعب الفلسطيني، تتمثّل بما جرى في 1948، حين شُرِّدَ من أجل إفراغ المكان وسرقته، وإقامة دولةٍ للغرباء فيه.
ليست القصّة مصطلحات، ولا هي خلاف لغوي، بل قصّة فهم للواقع ولحقيقة الجريمة التي ارتكبت في حقّ شعبنا. ما يجري في غزّة أمرٌ يفوق الخيال، وجريمة غير مسبوقة في التاريخ، وعلينا، نحن الفلسطينيين، أن نواصل الجهود من أجل فضح ما تقوم به دولة الاحتلال، وإعداد الملفّات اللازمة لمحاكمة مُجرمي الحرب وتدفيع الاحتلال الثمن، وقد نستخدم النكبة في نقاشاتنا الداخلية، كما في سجالاتنا، لتوضيح الرواية الفلسطينية ولتقريب الأمر للآخرين، لكن في الأحوال كلّها ثمّة نكبة واحدة وقعت للفلسطينيين، لم تنتهِ بعد.
المصدر: العربي الجديد