سميرة المسالمة
تضعنا أحداث المنطقة العربية بما فيها من حروب ومآسٍ أمام تجاذبات معيارية، لمعنى الاصطفاف الشعبي لثنائية “مع أو ضد” من قضية ما، وهي ضمن توصيفها البدائي لحالة التعاطف لجهة ما، مع قضيتها، التي تعتبرها محور التقييم، تعتمد حالات مطلقة في الحكم، من مبدأ “عدو أو صديق”، بدون أن تمر بتطور العلاقات والسلوك النفسي للأفراد، وللأنظمة الدولية، وتعقيداتها المصلحية المتغيرة زمنيًا ومكانيًا.
وعلى الرغم من أن نظرية “عدو عدوي صديقي” قد تصحّ في العلاقات الشخصية الضيّقة، لأنها تسهم في إحداث التوازن، أو الانسجام بين الأشخاص، على أسس تشابه الأفكار التي تضعهم في علاقة هادئة ومريحة، وهو ما توصّل إليه الباحث النمساوي فريتز هايدر في نظرية التوازن، كأن يختار الإنسان من يصادقه أو يكون شريكًا له، فإنها أيضًا تصلح لتكون مقياسًا للتجمّعات السياسية أو الأيديولوجية، وهذا عادة ما تعتمده الأحزاب أو الهيئات الدينية على اختلاف مرجعيّاتها، حيث التوافق المطلق هو شرط نموها واستمرارها كقوة فاعلة في محيطها، إلا أنه لا يمكن تعميمها على السياسات الدولية الواقعية.
وكذلك فإن واقع الحياة الحديثة اليوم بما تحمله العلاقات البشرية – ومنها الأسرية الضيقة- التي تعتمد مبدأ “أن الاختلاف لا يفسد للودّ قضية”، وتتعايش مع اختلافاتها، التي تُحال في كثير من الأحيان إلى ما يمكن تسميته احترام الحريات الفردية، والاختلاف في الرأي، هو ما يؤكد أن هذه النظرية لا يمكن جعلها الحدّ الفاصل الحتمي في العلاقات سواء على الصعيد الفردي البحت، أو المجتمعي، أو في العلاقات الدولية. ما يعني أنه لا يمكن تلوين العلاقات المجتمعية أو الدولية اليوم باللونين الأبيض أو الأسود فقط، على كل المستويات، فحيث هي علاقات معقّدة، تنبع من أفكار عامة يتوافق عليها الجميع، من مثل حق تقرير المصير، والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة، والحريات الفردية والجماعية، وحركات التحرّر، ومقاومة الاحتلال، إلا أن هذه التوافقات أيضًا تأخذ مسارات تنفيذية مختلفة، بحيث لا يمكن لأصحاب أي قضية منها أن يكونوا القضية المحورية لشعوب ودول العالم جميعهمفكل قضية منها قد تتساوى في أهميتها مع الأخرى، لكن أولويات تحقيقها تختلف بين المجموعات البشرية، حتى ضمن المجتمعات التي تشترك بوحدة مفاهيمية واحدة تجاه قضية ما، من نحو المشتركات التي تجمع شعوب الدول العربية حول عدالة القضية الفلسطينية، وفي ذات الوقت من اختلافاتها أو توافقاتها مع الجهات التمثيلية الفلسطينية لهذه القضية. لكن في كل الأحوال، هناك ما يجعلنا نفترض أن مناصرة الفلسطينيين في مقاومتهم الاحتلال تبقى هي أولوية لنا، سواء جاءت من جهة نتشارك معها توجهاتها الأيديولوجية، أو نختلف معها في بعضها أو كلها، لأن الأمر الأساسي في هذه القضية هو وجود الاحتلال الإسرائيلي، وممارساته الوحشية ضد الفلسطينيين، وحربه العدوانية على غزة.
ما يعني أن الخلاف الحاصل اليوم بين سوريين “مع أو ضد” الحركات الإسلامية المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، لا يجب أن يشوّش على مبدأ مساندة حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، وحريتهم في اختيار وسائلهم لذلك.
فالثورة ضد السلطة الاستبدادية في سورية، لا تجعل من الثائرين قيّمين على ثورات الآخرين، حتى لا ينتقلوا من موقع الثورة على السلطة المستبدّة، إلى موقع السلطة المجتمعية المستبدة بحدّ ذاتها، فلكل ثورة، أو حركة تحرّر، ظروفها وعلاقاتها المعقّدة، التي تتوسّع بحسب ما يخدم هدفها ومصالح شعبها، سواء توافقت مع ما تراه الثورات الأخرى، أو تقاطعت معها، أو اختلفت حول آليات دعمها، فهي في منظور أصحابها قضية مركزية لهم، ويعتمد شكلها على الوسائل المجتمعية والحقوقية المتاحة لأفراده.
إن اعتبار مساندة الثورة السورية ضد نظام الأسد، هي معيار الصداقات والاختلافات مع منظمات أو هيئات أو دول، لا يمكن تطبيقه على علاقات أحزاب أو هياكل الثورة، الناطقين والمفاوضين باسمها، فكيف يريد بعض جمهور الثورة في “السوشيال ميديا” أن يفرضه على الآخرين من غير السوريين، وعلى علاقاتهم الدولية المعقّدة تباعًا. إن مجرد محاولة فعل ذلك يعني التقوقع داخل نظرية مثالية، يدحض الواقع قابليّتها للتطبيق، سواء على أنفسنا، أو على الآخرين.
المشكلة الحالية التي تفرزها الأحداث ليست في حرية رأي “المتجادلين” سواء من سوريين أو فلسطينيين أو عرب، ومواقفهم من عمليات اغتيالات إسرائيل لشخصيات فلسطينية وطنية، أو حول سياسات وأيديولوجيات الحركات التحرّرية الإسلامية أو غيرها، إنما في ليّ عنق الحقائق في تلك الطروحات التي تغيّب عن قصد أو من غير قصد، موقع إسرائيل العدواني، ومسؤوليتها عن جرائم قتل الفلسطينيين على أرضهم، أو خارجها، بسبب مقاومتهم احتلالها لأراضيهم.
على أية حال إن ممارسة شخصيات من الثورة السورية دور الشخصية المحورية التي يجب أن تدور أحداث العالم كلها حولها، أو من خلالها، وتحديد علاقات الدول مع بعضها وتوزيع الأدوار الإقليمية والدولية بناء على رؤيتهم وأهدافهم، من شأنه أن يضع الثورة السورية في خلاف مع أصدقائها، بالتساوي غير العادل مع أعدائها، وذلك لحقيقة التداخلات ومستوياتها في المصالح الدولية، وهذا لا يعني عدم نقد ما يتعلق بتلك السياسات وأدوارها السلبية في القضية السورية، بدون أن يكون ذلك شهادة براءة لمجرم الحرب رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو.
*كاتبة سورية.
المصدر: ضفة ثالثة