أحمد الجندي
حين يُطالع القارئ الصحافة الإسرائيلية في تناولها خلافة يحيى السنوار الشهيد إسماعيل هنيّة، سيلحظ حجم التناقض الكبير الظاهر في مقالات الكُتّاب والمحلّلين في تقييم الرئيس الجديد للمكتب السياسي لحركة حماس، وهو تناقض يضع الإسرائيليين، في النهاية، في حيرةٍ عند الإجابة عن سؤال إن كان السنوار شخصاً مُتشدّداً، ومتصلّباً في مواقفه، أو معتدلاً وفق المفهوم الإسرائيلي.
كان اختيار السنوار مفاجأة، لم يتوقّعها أيّ إسرائيلي، وحتّى الأسماء التي نشرتها الصحافة الإسرائيلية للمُرشّحين لخلافة هنيّة لم تتضمّن اسمه. وعلى الأغلب كان ذلك السبب الذي أدى إلى حالة ارتباك قادت إلى تناقضات بين الكُتّاب والمحلّلين، بل وفي أحيان إلى تناقض لدى الكاتب الواحد، وعدم تماسك منطق مقالاتٍ كثيرة، ويتعلّق هذا التناقض بالأساس بمسألتين: الدولة التي ضغطت نحو هذا الاختيار، ومدى تشدّد رئيس الحركة الجديد.
ذهب كبير الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، كوبي ميخائيل، إلى أنّ مصر هي من دفعت من خلف الستار نحو اختيار السنوار خليفة لهنيّة، لأنّ هنيّة كان صاحب الموقف الأكثر تشدّداً في موضوع الصفقة، مقارنةً بموقف السنوار البراغماتي، الذي كان يرتكز أكثر على دور مصر، ولم يكن على توافق مع هنيّة، الذي راهن أكثر على دولة قطر. وهذا يعني أمرين، حسب رؤية الكاتب، أحدهما أنّ مصر كان لها دور مُؤثّر في من كان حتّى الأمس القريب قائداً للحركة في قطاع غزّة فحسب، وبالتالي فتأثيرها يزداد أكثر الآن، خصوصاً أنهم الوحيدون الذين يتواصلون مع السنوار، ما يعني، حسب لفظه، رفع مستوى التوقّعات من أجل إنجاز صفقة الأسرى، والتوصّل إلى وقف إطلاق النار. والأمر الآخر أنّ قطر، بهذا المعنى، تدعم الجناح المُتشدّد في الحركة، ومن ثمّ فإنّ دورها في إتمام الصفقة سيقل كثيراً، علاوة على ما ردَّده الكاتب وتصرُّ عليه الصحافة الإسرائيلية من دون ملل، عن وجود توتّر في العلاقة بين قيادتي “حماس” في الداخل والخارج. لكن ميخائيل يناقض نفسه مرَّتَين، مرَّةً حين يتحدّث عن أنّ قيادة الداخل هي التي كانت تُحدّد السقف، وتتخذ القرارات، وهو ما يدفع إلى أن نسأل كيف يتّسق توقّع الكاتب باحتمالية أكبر للتوصّل إلى صفقة مع السنوار “البراغماتي”، مع أنّه من كان يتحكّم في المفاوضات، “التي تشدّدت فيها الحركة”، سابقاً ويُحدّد سقفها. ومرَّة أخرى، حين يتناول عملية اختيار السنوار ضمن صراع داخلي في الحركة بين جناحَين أحدهما مُتشدّد، والآخر براغماتي، لكنّه في الوقت نفسه يكتب أنّ الاختيار نوع من الاعتراف والتقدير لقيادة الحركة في القطاع، وقيادتها للنضال، والثمن الباهظ الذي دفعته، وهذا ينفي وجود الصراع أصلاً، خصوصاً أنّ الاختيار كان بالإجماع، كما أكَّدت الحركة.
ما طرحه ميخائيل عن براغماتية السنوار ومرونته، مقابل تشدّد هنيّة، تقاطع مع حديث الصحافي في “يديعوت أحرونوت”، إيتامار أيخنر، الذي اعتبر اختيار السنوار الفرصةَ لإسرائيل من أجل الدفع نحو صفقة الأسرى، وأنّ هنيّة مثّل عقبةً نتيجة تشدّده في رفضها سرّاً، بينما كان يسعى للظهور في صورة القائد المُعتدل قبالة الولايات المتّحدة وقطر، أما السنوار فكان يرغب في إتمامها، غير أنّه في الوقت الحالي لن يتعجَّل في الذهاب إليها، وسينتظر كيف سيكون الردُّ الإيراني، لأنّه يرغب في أن تتوحَّد الساحات.
صورة السنوار الأكثر مرونةً في هذه الكتابات وغيرها قابلتها أخرى متشدّدةٌ هي المُعتمَدة بين الإسرائيليين، والأكثر رواجاً في الإعلام الإسرائيلي، وفي تصريحات السياسيين، منذ بدأت عملية طوفان الأقصى. في هذا الإطار، يرى العقيد ألون أفياتار، المُتخصّص في الشأن الفلسطيني، أنّ الطبيعة المُتشدّدة للسنوار تجعل منه المُتصرّف الوحيد في ما يخصّ الحركة كلّها، وسياستها وإدارة الحرب، وقضية الأسرى، ومستقبل القطاع، وهذا كلّه يعني هيمنةً وتأثيراً إيرانيين، لا مصريين ولا قطريين المرّة هذه، عبر سيطرة جناح الصقور الديني العسكري، في مُقابل تراجعٍ تامٍّ للاعتدال والبراغماتية السياسية.
في هذا المسار ذاته، تحدّث الباحث في شؤون الشرق الأوسط، عيدو زلكوفيتش، إلى صحيفة غلوبس، أنّ هذا الاختيار يُظهر التزام حركة حماس الخطّ الجهادي أيديولوجيا مركزيةً لديها، فهو اختيار يعني أنّ من غير الممكن التوصّل معها إلى أي اتّفاق سياسي، وهذا يفرض على المستوى السياسي في إسرائيل وقف أيّ تعاملٍ سياسيٍّ مع السلطة الفلسطينية، إذا قرَّرت تنفيذ تفاهمات بكّين بين الفلسطينيين أخيراً، لأنّ السلطة، إن فعلت، تكون قد أعطت بذلك شرعيةً سياسيةً للسنوار وحركته، وهو أمرٌ لا يجب أن تقبله إسرائيل.
ثمّة تناقض آخر في تقييم المحلّلين لطبيعة علاقة كلّ من هنيّة والسنوار بإيران؛ فبينما تحدّث ميخائيل عن ميل السنوار نحو مصر، وتعامله مع إيران بوصفها أداةً ووسيلةً للمقاومةِ لا أكثر، رأى زلكوفيتش أنّ اختيار السنوار لم يكن ليحدث لولا أنّه مُرشّح طهران في الحركة، لأنّ طبيعة شخصيته تُسهّل عليها تحقيق مصالحها المناهضة لإسرائيل في قطاع غزّة. في السياق ذاته، سار مقال الصحافي الإسرائيلي المُخضرَم، إيهود يعاري، فعدّ اختيار السنوار انتصاراً لمعسكر إيران، لكنّه في الوقت نفسه اعتبر اختياره أمراً رمزياً فحسب. وهذا أيضاً لا يخلو من تناقض واضح، لأنّ تفسير يعاري اختيار السنوار انتصاراً لمعسكر مُؤيّدي إيران في الحركة يعني أن الاختيار قام على أساس تقوية الارتباط بإيران، وتأكيد انضمام حركة حماس إلى هذا المحور، وهذا يتعارض تماماً مع كون الاختيار رمزياً كما ذهب.
في سياق الرمزية نفسها، اعتبرت المُتخصّصة في الشؤون العربية في موقع القناة 12، سبير ليفكين، أنّ الاختيار كان مفاجأةً كبيرةً قصدت “حماس” بها تحويل قائدها في غزّة ليصبح الرجل الأقوى في الحركة، والتعبير عن درجة عالية من الثقة به، علاوةً على أنّ اختياره يعيد قوّتها في القطاع، وينقل رسالةً لإسرائيل، مفادها أنّ قيادة الحركة ما زالت قويةً، ومن هذا المنطلق تُفهَم هذه الرمزية.
ما يلاحظ في الكتابات الإسرائيلية كلّها تصويرها ما حدث في سياق الصراع الداخلي في الحركة، فتجنُّب اختيار خالد مشعل، صاحب الخبرة الكبيرة، حسب إيهود يعاري، جاء نتيجةَ اعتراض إيران وحزب الله، بل ورفض مُؤيّدي السنوار. ومن ثمّ عدّ يعاري هذا الاختيار حلّاً توافقياً ناتجاً من عدم استطاعة الحركة إجراء الانتخابات، لأنّ الانتخابات السرّية كانت تحتاج أشهراً من أجل تصويت أعضاء الحركة في غزّة والضفّة وفي الدول المختلفة، وحتّى في السجون الإسرائيلية.
تقود نظرة شاملة إلى هذه التناقضات، إلى أمر واحد مشترك بين المقالات جميعاً، أنّ عملية توزيع تهمة “الأكثر تشدّداً”، بين هنيّة والسنوار، تعني إلقاء الاتهام مباشرة على حركة حماس، باعتبارها المتعنّتة في الحالتين، في التوصل إلى صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، وتجاهل تعنّت إسرائيل الدائم، ورفضها الطروحات كلّها، التي صاغتها بنفسها مع الولايات المتّحدة، وهو ما فعله الصحافي في صحيفة معاريف، بن كسبيت، حين علّق على بيان الخارجية التركية، الذي طالب بممارسة الضغوط على إسرائيل من أجل التوصّل إلى وقف إطلاق النار، بقوله إنّ البيان تجاهل الحاجة لممارسة الضغوط على حركة حماس أيضاً.
وعلى الرغم من معرفة بن كسبيت، وهو أحد أكبر الصحافيين المناوئين لبنيامين نتنياهو، والغالبية العظمى من الإسرائيليين وفي مُقدَّمهم أهالي الأسرى، أنّ نتنياهو وحكومته هم من يرفضون عقد أيِّ اتّفاق، وأنّ المُقترَح الأميركي المصري القطري المشترك، المطروح أخيراً، الذي يدعو الطرفَين إلى التباحث من أجل جسر الثغرات، لن يُوصل، في النهاية، إلى أيّ اتّفاق، وأن هدف الولايات المتّحدة من الوقوف خلفه منح مزيد من الوقت لإسرائيل، وتبريد موقف إيران وحزب الله بشأن ردّهم المتوقّع على الجرائم الإسرائيلية بحقهما، فإنّ ذلك كلّه لم يمنع بن كسبيت، وغيره، من المطالبة بممارسة الضغوط على حركة حماس، وكأنّها من يجب عليها تقديم التنازلات دائماً. وهنا تحديداً يأتي تخوّف قطاعٍ واسعٍ من الإسرائيليين من وجود السنوار رئيساً للحركة، لأنّ ذلك يعني، حسب اعتقادهم، أنّ القيادة الجديدة ستُظهر قدراً أكبر من الصلابة في المفاوضات، كذلك فإنّه يعكس تماسكَ المقاومةِ في غزّة وصمودَها، والتأكيد أنّ التخلّص منها هو أقرب إلى المستحيل.
المصدر: العربي الجديد