عمار ديوب
توغّلُ القوات الأوكرانية في كورسك ضربةٌ مؤلمةٌ لهيبة الجيش الروسي وللرئيس فلاديمير بوتين شخصياً. أتى بسرعةٍ خاطفة، سيطرت أوكرانيا على 74 بلدة، والأخبار تتحدَّث عن إمكانية توغّلها في مقاطعة جديدة هي بيلغورود. تمَّ ذلك بينما تتقدّم القوات الروسية ببطءٍ شديدٍ في المقاطعات الشرقية لأوكرانيا، وبكلفةٍ بشريةٍ وعتادٍ عسكريّ كبيرين.
قبل التطوّرات أخيراً، كانت التقارير تتحدّث عن ضعفٍ أوكرانيٍّ شديدٍ، وتقدّمٍ روسيٍّ مستمرّ. إذاً، هناك دعم عسكري غربي وأميركي جديد، ودقيق من الناحية التقنية، وهناك موافقة غربية على دخول الجيش الأوكراني الأراضي الروسية. الاستنتاج هنا أنّ هناك رغبة غربية في التصعيد مع روسيا. في هذه الأثناء، لم تتراجع روسيا عن التقدّم في الشرق الأوكراني، وتحاول جاهدةً إيقاف التقدّم الأوكراني في الأراضي الروسية، وهذا يعتمد على قطع خطوط الإمداد، وعلى حشدٍ عسكريٍّ روسي مُضادٍّ، وفي حال عدم تحقُّق ذلك، أو تحقُّقه ببطء، فهناك خياران؛ إمّا التفاوض (هناك أخبار عن موعد قريب له محدَّدٌ مسبقاً)، أو النووي. فهل وصلت روسيا إلى حالة ضعفٍ شديدٍ توافق بموجبها على التفاوض؟ ألا يتضمّن التفاوض، وبالشروط الجديدة، تحطيماً لهيبة بوتين، وقد يسمح بانتفاضة روسية ضدّه؟ وإذا لم يخضع بوتين للتفاوض، وفقاً للشروط الأوكرانية، يصبح الخيار الثاني إمكانيةً واقعيةً، وبالتالي، هل يريد الغرب الانتقال إلى مرحلة جديدة في الصراع مع روسيا؟ وهل ستتورَّط موسكو، وهي المنهكة في هذه الحرب، في استخدام النووي؟ تحشد روسيا الآن، وتتجهّز لمعركةٍ مُضادَّةٍ، فهل ستتمكّن من المحافظة على سيطرتها على المقاطعات الشرقية لأوكرانيا واستعادة المقاطعات الروسية؟… لا خيار آخر لدى بوتين. إذاً، هناك معركة طاحنة في الأيام القادمة داخل الأراضي الروسية، وضمن أوكرانيا. يبدو أنّ الغربَ قرّر استثمار الفترة الزمنية هذه، مُستغلاً انشغالات الانتخابات الأميركية، والخوف من وصول ترامب إلى السلطة، الذي يمتلك مقاربةً مختلفةً عن مقاربات كلٍّ من الاتحاد الأوروبي وجو بايدن والديمقراطيين، تُؤدّي إلى نهاية الحرب في أوكرانيا، وعلى حسابها إلى حدٍّ كبير.
مشكلة بوتين في حسابات جيشه الفاشلة منذ بداية الدخول إلى أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، وقد شاهد العالم كيفية انسحابه من المُدن الأوكرانية، والدمار الكبير لعتاده، ومقتل آلاف الجنود الروس، فاضطرّت قواته للتمركز في مناطقَ محدَّدة، وأقرب لروسيا، وأغلبية سكّانها من الروس. الآن، أيضاً، هناك ضعفٌ في تلك الحسابات، فتمكّنت القوات الأوكرانية، ولا يتجاوز عددها الألف، مدعومةً بالدبَّابات والمركبات المُدرَّعة والمُسيَّرات والطائرات الحربية، من دخول الأراضي الروسية، والسيطرة على مساحاتٍ واسعةٍ وبكلّ سهولة، وهذا يعني أنّ جيش بوتين يفتقد استراتيجيةً جادَّةً في حماية الأراضي الروسية، وحتّى في خططه للتقدم في الشرق الأوكراني أو السيطرة على هذا البلد كما حَلِم بوتين. تراجع الدعم الغربي والأميركي سابقاً هو الذي سمح للقوات الروسية بالتقدّم. لكن، وحينما استُعيد الدعم، كانت تلك العملية الخاطفة والمزلزلة للجيش الروسي. أيُّ مقارنةٍ بين قدرات أوكرانيا وروسيا تميل لمصلحة الأخيرة، ولكنّ الدولة المغزوة وأهلها هم أكثر قوّة وإقداماً ووطنية في الدفاع عن دولتهم ومواطنيهم. من هنا قوّة أوكرانيا، ومن هنا الجرأة في الدخول إلى كورسك، وربّما إلى بيلغورود.
هل وصلت روسيا إلى القناعة بضرورة الانتقال إلى التفاوض النهائي؟… تهدّد تصريحات القادة الروس بالتصعيد ضدّ ألمانيا والاتحاد الأوروبي، وتذهب إلى أنّ التقدّم داخل روسيا خطرٌ كبيرٌ. إذاً هناك قراراتٌ خطيرةٌ قد تتَّخذها روسيا، وأخطرها استخدام السلاح النووي، فهل يدفع الاتحاد الأوروبي روسيا نحو هذا الخيار؟… تَعقَّدَ المشهد الروسي ولم يعد ذلك سمةً للوضع في أوكرانيا فقط. يشقّ احتمال التفاوض طريقه بصعوبة بالغة، والمشكلة أنّ الروس يخسرون، والآن على ماذا ستتفاوض كلّ من روسيا وأوكرانيا؟ هل ستخضع روسيا للواقع الجديد؟… إنّ ضعف القدرات العسكرية الروسية واستعانتها بكلّ من إيران وكوريا الشمالية تدفع في هذا الاتجاه، وفي حال استمرّ الدعم الغربي على حاله، ستكون المفاوضات هي الحلُّ، رغم تعقيداتها والتوغّل الأوكراني في كورسك، ولكن هل يمكن لبوتين أن يتَّخذ قراراً كهذا، بعد أكثر من عامين من الحرب، ويخضع للشروط الأوكرانية؟… بوتين في موقف ضعيف للغاية، وهنا، إمّا أن يتراجع الدعم الغربي، وبالتالي تنسحب القوات الأوكرانية، وهذا يفترض تهديداً نووياً ضدّ ألمانيا خاصّة، والاحتمالات كلّها ممكنة. وفي قبالة ذلك، يتم الانتقال إلى التفاوض. والسؤال هل حان الوقت لذلك؟… ما يحدث، وإمكانية التقدّم نحو مقاطعة بيلغورود، وضعف إمكانات الجيش الروسي التقليدية، يقول بضرورة التفاوض بأيّ شروط.
الآن، تتقدّم أوكرانيا، ولكن ذلك لن يطول كثيراً. جنون بوتين وتمسّكه بالسلطة يمنعانه من خسارة الحرب، هذا أمر يعلمه الاتحاد الأوربي جيّداً، وأميركا والصين. من ثمّ، ستدفع التطورات الواقعية التفاوض إلى الأمام. ولكن، وفي حال أصرَّ الغرب على خسارة بوتين الحرب، واستمرّ في دعم التقدّم في الأراضي الروسية، فإنّ خيار استخدام النووي يصبح احتمالاً ممكناً. من حقّ أوكرانيا الدفاع عن أراضيها، كما الشعوب المُحتلَّة كلّها، ومنها الفلسطينيون، ولكنّ مستويات الخطورة بسبب الحروب، حرب دولة الاحتلال ضدّ غزّة، وحرب روسيا ضدّ أوكرانيا، وسواها، تستدعي الوصول إلى صفقاتٍ سياسية تخفّف من حدّة الخطورة؛ روسيا قد تضطر إلى استخدام النووي، وإيران ودولة الاحتلال تتجهزان لردودٍ عسكرية خطيرة على بلديهما، وعلى المنطقة بأسرها، ولعلَّ مفاوضاتٍ جادّة في الدوحة أخيراً، ستخفّف حدّةَ أجواء الحرب الموسَّعة في المنطقة.
يبدو أنّ العالم يتّجه نحو صداماتٍ واسعة. هناك أزمات كبرى تؤدي إلى تلك الحروب، ومن دون التعقّل والاعتراف بالأقطاب العالمية، وحقوق الشعوب في الدفاع عن حرّياتها وأراضيها، فالصدامات بين الدول الكبرى حاصلة لا محالة. نعم، إنّ هناك مخاطر حروبٍ موسَّعة، وربّما حرب عالمية ثالثة، نبَّهت إليها، وحذَّرت منها، كثيرٌ من الدراسات.
المصدر: العربي الجديد