سميرة المسالمة
تحتاج فرضية الحل في سورية إلى نوعين من المتغيّرات مرتبطين ببعضهما: أحدُهما متعلقٌ بالنظام السوري وبنيته التكوينية والآلية التي اعتمدها لاستمراره، وهذا متضمن مصالح الدول التي تدعمه، وارتباط ذلك بملفّات دولية وإقليمية وعربية. والآخر يتعلّق بمعارضيه على اختلاف انتماءاتهم وأسباب معارضتهم وأهدافهم، وأيضاً القوى الداعمة لهم، ومصالحها في الفوضى والسلام.
ما يعنيه ذلك أننا أمام خليط من صيغ التعامل في عملية البحث عن فرضية الحلّ، كما هو متعارف في كتابة فرضيات البحث العلمي، وهي قد لا تختلف في إسقاطها على الصراعات المختلفة: أولها، الصيغة “الشرطية” التي تستلزم حدوث التغيير في النظام وتوابعه ليحدث تغييرٌ في معارضيه، وما نتج عنهم أو ما يرتبطون به. وثانيها “التقريرية” التي تعني أن التغيير في الواقع السوري هو حاصل جمع المتغيّرات الظرفية والدولية للنظام والمعارضة. وثالثها، الصيغة “البحثية”، أي الدعوة إلى دراسة عميقة للوصول إلى ديمومة الحل، وتطويره نحو الاستقرار والتنمية.
ربما يكون من الصادم القول إن إمكانية التغيير في العامل المتمثل بالنظام، أو بنيته، باتت أكبر من إمكانية الخوض في تغيير واقع المعارضة، فالنظام الذي تجاوز الحرب الواسعة في البلاد ضد معارضيه، يحتاج إلى حلولٍ تضعه على ضفة الاستقرار، لأنه يدرك تماماً أن ما بعد الصراع المسلح أصعب بكثير، وبالتالي، باتت جاهزيّته للتغيير بالنسبة له ضرورة وجودية لازمة، وهي شرط نجاح عملية تقاربه مع الأنظمة العربية، والدول الأوروبية. وهذا أيضاً مرتبط بجسر الخلافات مع الولايات المتحدة، من قناة تخليه عن محور ما سمّيت “المقاومة”، أي من استفادته من الظرف الإقليمي والحرب الإسرائيلية على غزّة، والحاجة إلى استناد إسرائيل إلى أن الجبهة السورية ستبقى باردة وآمنة، وفق معاهدة وقف إطلاق النار التي أبرمت في زمن الرئيس السابق (حافظ الأسد) بعد حرب 1973، وورثها بكل متطلّباتها ابنه الرئيس (بشار الأسد).
ولعلّ التقارب العربي مع النظام السوري هو، في جانبٍ منه، يمثل عامل ضغط على الأسد، لإضعاف شروطه أو مقاومته التغيير، فالدول التي تسعى إلى التطبيع تحتاج إلى فكّ اللثام عنها دولياً، ما لن يحدُث إذا لم يُبد النظام مرونة سياسية تقدّم دليلاً على احتواء هذه الدول نزعات الأسد الاستبدادية، وتنهي تحالفاته مع إيران ومخالبها اللبنانية والعراقية والحوثية، ما يسهّل تطويعه للذهاب نحو الحل السياسي الذي يضمن تغييراً في سورية يحفظ ماء وجه القرارات الدولية، حتى لو كان مجرّد تغيير شكلي لا أكثر.
وعلى الرغم من وجود خلافٍ بشأن تبعيّات أجهزة النظام السوري العسكرية والأمنية بين روسيا وإيران، إلا أن ذلك لا ينفي وجود رأس نظام واحد، لا تزال الدولتان الراعيتان للنظام تقرّان بحكمه، وحمايتهما له، ما يعني أن أي رهانٍ على ذلك الخلاف هو ضمن المعطيات الحالية خاسر، وغير مُجد، في عملية كسب نقاط لمصلحة “المعارضات”، في أي تسويةٍ ضمن حالة الشتات التي تعانيها الأخيرة، وفي ظلّ تعدّد تبعياتها الدولية، واختلاف مصالح تلك الدول، ورؤاها للحلّ في سورية. وفي سياق ذلك، لا بد من المصارحة بأن لكل من هذه الدول القدرة على لي عنق قرار مجلس الأمن 2254، وفقا لتفسيرها الخاص له، وبما يتناسب ومشروعها المأمول من المصالحة مع النظام السوري.
وبالنسبة لعامل التغيير في المعارضة، رغم مشكلاتها واختلافاتها وتبعيّاتها، فإنه يعتمد على قرار من خارجها، ينطبق ذلك على كل مسمّيات منصّاتها، وعلى اختلاف وجوهها، فالجهات المسلحة التابعة لتركيا تدور في فلك مصالحها، وهي تعرف أنها الخاسرة الكبرى في أي عملية تقاربٍ بين النظامين، السوري والتركي.
ولعل الأمر نفسه ينطبق على جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، والتي تظهر أنها خارج التبعيات الدولية المباشرة، (مصنّفة على قائمة الإرهاب دوليا)، ويدرك زعيمها، أبو محمّد الجولاني، أنه في حال فرض أي عملية تسوية، مستقبلا، سيكون ورقة مساومة بأيدي كل الأطراف، لاستعادة الصراع عسكرياً، أو لإتمام صفقة التسوية واختلاف نسبها سياسيا.
من جهة الإدارة الذاتية، والتي تعدّ أحد أطراف قوى الأمر الواقع تحت الحماية الأميركية، هي ستكون ضحية أي تقارب تركي- سوري رسمي، حيث إزالة وجودها شرطٌ تركي غير قابل للمساومة في أي عملية سياسية أو عسكرية قادمة، بالتوافق مع النظام أو باستخدام الأذرع المحلية السورية (المعارضة) التي تدين بوجودها لتركيا. لذلك، يعتمد عامل التغيير لدى جهة “المعارضات” على تسويات دولية غير مكترثةٍ بمطالب “ثورة 2011″، وبخاصة أن المعارضة استمدّت قوتها، في السنوات الماضية، من وجود خلاف مصلحي بين الدول، وليس من تفاهماتها على حقوق السوريين وشرعيتها.
ولما سبق، ولشرط تحقيق مصالحها، تعمل الدول على تطويع مناصريها من “المعارضات”، لتغيير مطالبها، لتتلاءم مع ما تريده الدول الراعية لها، طبعا هذا في شرط انحسار البعد الشعبي في الثورة السورية، وبقاء ارتهان معارضتها الرسمية لهذه الدولة أو تلك، لا سيّما تركيا بحكم الامر الواقع، وبحكم الجغرافيا السياسية.
المعنى أن وجود فرضية للحلّ في سورية تحتاج إلى قوة إثبات بالتجربة، والتعاطي مع صيغها المرتبطة ببعضها، ومتغيّرات فاعليها، ومنهم الشعب السوري الذي بقي البعد الغائب، سواء داخل سورية أو في بلدان اللجوء، والذي انحسرت طموحاته المشروعة، في التغيير السياسي، ربما إلى استعادة الاستقرار والأمان وتأمين القدرة على العيش، أقلّه في المدى المنظور، بعد كل الخراب والتصدّع الحاصلين في الجسم السوري، البلد والدولة والمجتمع.
المصدر: العربي الجديد