أسامة عثمان
لمراكمة ما يلزم أمام أنفسهم، وأمام العالم، عمدت حكومةُ الاحتلال، بل حتى رئيسُ دولتهم إسحاق هرتسوغ، بعد عملية طوفان الأقصى، إلى تشويه حالة الصراع، بين الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال وإسرائيل؛ القوة المتورِّطة به والقائمة عليه. فحاولت توظيف أحداث الهجوم الذي شنَّته المقاومة الفلسطينية، بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ومبادرتها، في تسعير الحرب الشاملة على قطاع غزّة، ثم لتمتدّ إلى كلِّ خطر محتمَل عليهم، في المنطقة العربية.
وطوال فترة الحرب، لم يأبه قادة الاحتلال، ومن تبنَّى روايتَهم، من وسائل إعلام غربية، ومن سياسيِّين غربيِّين، بالحقيقة، تلك الرواية التي تزعم ارتكاب مقاتلين من المقاومة الفلسطينية بشائعَ إنسانية، في مستوطنات غلاف غزّة، مِن قتْل للأطفال، وقطْع رؤوسهم، ومِن اغتصاب للنساء. مع أنهم لم ينجحوا، برغم حرصهم الشديد، في تقديم أيِّ دليل يصلح لإثبات تلك المزاعم، بل ما ذاع شهادات إسرائيليين تناقض هذه الافتراءات.
في مقابل أنَّ الثابت والمعلَن هو كلُّ هذه الانطلاقة المفتوحة؛ في تدمير كلِّ مظهر من مظاهر الحياة، في قطاع غزّة، حتى الحجر والشجر والحيوان، فضلًا عن إزهاق أرواح عشرات آلاف من الأطفال، والنساء، والشيوخ، إذ تمثِّل هذه الفئات أغلبية الضحايا. وكانت تلك الاستباحة الدموية مشفوعةً بتصريحاتٍ علنية، وموثَّقة بالصوت والصورة، من رئيس دولة الاحتلال، ورئيس حكومتها، ووزير دفاعها…
المطلوب إسرائيليّاً، مَحْو الفلسطينيين، بالكلية، وإفناؤهم
ومن دون الاستفاضة بالجذور التاريخية والحضارية عن حدود القتال، لدى المقاومة المرتدَّة إلى أصول إسلامية، نظريةً؛ نصّيةً، وتطبيقيةً، ممارساتية، في مقابل نصوص دينية، تتغذَّى عليها الحكومةُ الحالية ومَن حولها، وكذلك، تطبيقية، تعود إلى كم المجازر التي ارتكبتها إسرائيل، منذ بدأت تُعِدّ لقيامها، فيما أقرَّت به، من مجازر متعمَّدة بحقّ ألوف الفلسطينيين، من أجل ترهيبهم ودفْعهم إلى الرحيل عن مدنهم وقراهم؛ لتحلَّ محلَّهم مجموعات استيطانية طارئة. من دون الاستفاضة في هذه الجذور التاريخية لن يجد المراقب، غير المنحاز، صعوبة في التمييز بين من يملك قدرات تؤهِّله للإسراف في القتل، سواء أكانت تلك القدرات معنوية أم مادية، ومن تُعْوِزه تلك القدرات بالقدر المكافئ، أو حتى المقارِب.
قد تخطر في البال عمليات تفجير الحافلات التي كثرت في تسعينيات القرن الماضي، تلك الوسيلة التي قرّرت حركات المقاومة ترْكَها، وهذا عائدٌ إلى ما سبق، مِن توجُّس أمام مشروعية القتل الشامل، وإنْ كان معظم من تصيبهم تلك العمليات من المُعَدِّين للقتال في أيِّ لحظة، من رجال ونساء، فيما ظهر جليًّا، هذه الأيام، من طلبات استدعاء جنود الاحتياط، لكن محاذير القتل الشامل من دون تمييز أفضت إلى وقْف عمليات التفجير تلك، ثم كان عامل مساعد آخر، عائد أيضًا إلى نفوذ دولة الاحتلال، عالميًّا، وهو المتمثِّل في نجاحها في تأليب الرأي العام العالمي ضد مشروعية المقاومة بهذه الوسيلة من المواجهة.
واليوم، تعلن حركات مقاومة فلسطينية (كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، بالاشتراك مع سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي)، عن عودتها إلى تلك العمليات، “طالما تواصلت مجازر الاحتلال وعمليات تهجير المدنيين واستمرار سياسة الاغتيالات”.
قادة الاحتلال يجدون في مجرَّد بقاء الفلسطيني في أرضه، بين مجتمعه، تهديداً لحياة الإسرائيليين المحتلَّين
ومع اختلاف الظرف، سواء لجهة القدرة على إنجاحها بذلك القدر الذي كانته أيام ازدهارها، أو لجهة الدافع إلى إعلان استئنافها في أنه مرتبط بحرب الإبادة على قطاع غزّة، حتى لم يعد مكان في القطاع آمناً، بما فيها الأماكن التي يطلب جيش الاحتلال من المواطنين الفلسطينيين اللجوء إليها كمناطق آمنة من “العلميات القتالية”، وهذا تكرَّر في مجازر استهدفت أماكن الإيواء، ومِن جديدها أخيراً مجزرة مدرسة التابعين، في حيِّ الدرَج، في مدينة غزّة، التي راح ضحيَّتها ما يزيد عن مائة إنسان أعزل، ثم مجزرة مدرسة صلاح الدين، غربي مدينة غزة، ما أسفر عن استشهاد سبعة وإصابة عشرات آخرين من النازحين الذين كانوا يقيمون في المنشأة.
ودان مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان استهداف قوات الاحتلال المدارس التي تؤوي آلاف النازحين، فقد قصف الاحتلال، بين الرابع من يوليو/ تموز والعاشر من أغسطس/ آب 2024 فقط نحو 21 مدرسة، ما أسفر عن استشهاد المئات، معظمهم من النساء والأطفال.
ولا يُخفى، ولا يهتمُّ قادة الاحتلال أن يُخْفُوا، أنّ بؤرة هذه الدوافع الدموية غير المقيَّدة إنما تعود إلى نظرتهم التي تجرّد الفلسطيني من إنسانيته، وتالياً مِن حقوقه الطبيعية في الحياة وتبعاتها، لا لأفعالٍ يفعلها، أو لفكر يؤمن به، إنما لشيءٍ لم يكن له حظٌّ في اختياره، وهو أنه فلسطيني، والسبب المتفرِّع من هذا السبب أنَّ قادة الاحتلال يجدون في مجرَّد بقاء هذا الفلسطيني في أرضه، بين مجتمعه، يجدون في هذا الوجود الجماعي، أو حتى ربما الفردي، تهديداً لحياة الإسرائيليين المحتلَّين، فلا بدَّ من ترحيله إلى خارج فلسطين، أو غزّة، كما كرَّر ذلك، مثلًا، وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. هكذا بكل وضوح، يدفع غرور القوة هذه المكوِّنات الاحتلالية المتنامية إلى إسدال الستار عن أيِّ حقوق فلسطينية، وعن الصراع المفتوح، من دون حلّ، إلى محاولة اغتنام ما يرونها فرصة سانحة لحسم الصراع. ويشجِّعهم على ذلك ضعف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، أو تواطؤها، ثم آمال عودة الرئيس السابق، صاحب صفقة القرن، دونالد ترامب، الذي يشفق على إسرائيل، للصغر الشديد في مِساحتها، ويرى مطلوباً توسيع رقعتها؛ ما يفهَم منه، ضمناً، أن كلَّ فلسطين التاريخية، بما فيها الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة، في حكم الضمّ، فاستيلاء إسرائيل عليها تحصيل حاصل، كما تشجِّعهم تقديراتُهم عن حالة ضعفٍ عربيٍّ غير مسبوقة.
حين أعلنت دولة الاحتلال حرْبَها على غزّة، أرادها، نتنياهو، وليس وحده، أن تكون شاملة، بالمعنى الحقيقي الحرفي للكلمة
في الحروب، وفي الصراعات عموماً، القوة هي الحاسمة، ومن الضروري تظهيرُها في التصميم؛ على ألسنة القادة، وفي الممارسة، وفي ميدان القتال. وحين تقرِّر دولة، أو كيان، الحرب، فهو لا بدَّ يرى أهميتها له، أو مشروعيتها عنده، فنحن، الآن، نتجاوز دوافع الحرب، ولننظر في أعراف الحرب، وقوانينها، وقيودها، تلك التي قد تكشف ليس فقط أهدافها، ولكن دوافعها، ومنطلقاتها، ولو عدنا إلى مرجعية حركة حماس، وهي المرجعية الإسلامية، نجد، مثلاً، وصايا الخليفة الراشد الأول أبو بكر، حين أوصى قادة الجيوش: “قال: يا أيها الناس، قِفُوا أوصيكم بعشر؛ فاحفظوها عنِّي: لا تخونوا ولا تغُلُّوا، ولا تغدروا ولا تمثِّلوا ( بالجُثَث)، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمَأْكلة، وسوف تمرُّون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له (…)”. وتكمن أهمية هذه الوقفة التاريخية في أنها تنتمي إلى الممارسة، لا إلى النظرية، فقط.
في المقابل، حين أعلنت دولة الاحتلال حرْبَها على غزّة، أرادها، نتنياهو، وليس وحده، بالطبع، أن تكون شاملة، بالمعنى الحقيقي الحرفي للكلمة، ففي رسالةٍ وزّعها مكتبُ رئيس الوزراء الإسرائيلي، كتب نتنياهو مخاطباً الجنود: “اذكر ما فعله بك عماليق”. ويمثِّل العماليق ذروة الشرّ، في التقاليد اليهودية، واستخدمه نتنياهو غيرَ مرَّة، لتكريس تصوُّر اعتبار الفلسطينيين امتداداً لهؤلاء العماليق، وأنَّ المطلوب إسرائيليّاً هو مَحْوُهم، بالكلية، وإفناؤهم، إذ يُحيل نتنياهو إلى كتاب صموئيل، الفصل 15، تقول الآية 3: “والآن، اذهب واضرب العماليق، وحرِّموا كلَّ ما لهم، ولا تعفوا عنهم. بل اقتلوا، على السواء، الرجل والمرأة، الطفل والرضيع، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً”. وبعد، فمَن البرابرة، تصوُرًا، وموقفًا، وسلوكًا؟
المصدر: العربي الجديد