رشا عمران
لا شيء يبدو أنّه سيتغيّر في الوضع السوري، الأمور كما هي عليه منذ سنوات. تدهور متزايد في الأوضاع المعيشية، وفقدان للمقوّمات الرئيسية للحياة، وانتشار مرعب للمخدّرات ولتجارة الرقيق الأبيض، ولعمالة الأطفال والتسوّل، وفروق طبقية مهولة بين أثرياء الحرب، الذين يعيشون بذخاً مستفزّاً، وباقي الشعب السوري، الذي يعيش معظمه على مساعدات تصل من سوريّي الخارج، وفساد يتّسع ويمتدّ، وخلافات على النفوذ الاقتصادي داخل الأسرة الحاكمة وبطانتها، ووضع أمني يتدهور باستمرار مع ازدياد عصابات السرقة والخطف المسلّح من شبّيحة وبلطجية الحرب، الذين وجدوا أنفسهم فجأةً قد جرى الاستغناء عن خدماتهم فاستخدموا السلاح الذي لديهم في عمليات الخطف والسلب.
تحاول إيران توسيع رقعة امتلاكها العقارات والمباني في دمشق القديمة، وفي غير مدينة سورية، مستغلّةً فراغ المباني من سكّانها الذين فرّوا من الحرب والموت، وتوسيع رقعة انتشار عقيدتها مستغلّةً الوضع المعيشي المنهار للمواطن السوري، ما يجعل من التغيير الديموغرافي أمراً واقعاً. تمكّنت روسيا اقتصادياً وعسكرياً من البلد، فأصبحت سورية بشكل شبه رسمي محميةً روسيةً. تُحكم سلطات الأمر الواقع في الشمال والشمال الشرقي والجزيرة السورية سيطرتها بدعم من تركيا وأميركا. تكثّف إسرائيل غاراتها في سورية، التي تحتفظ بحقّ الردّ إلى أجل غير مسمَّى في أكبر حالة انتهاكٍ واستباحةٍ يمكن أن تحدث لدولة ما، تقتل شعبها وتغضّ النظر عن عدوان عدوها.
ما سبق كلّه ملفّاتٌ شائكةٌ وبالغة الصعوبة، ولن تُحلَّ من دون تدخّل دولي يفرض حلّاً سياسياً يُؤدّي إلي تغيير شامل وكامل في الوضع السوري، لكن هذا يبدو أنّه لن يحدُث إلّا بحلّ جميع ملفّات المنطقة الأمنية والسياسية، ومنها حرب غزّة المستمرّة منذ نحو سنة، التي يبدو أنّها تنتظر نتائج الانتخابات الأميركية لمعرفة مصير “صفقة القرن”، التي ستحمل معها نهاية الحرب كما يعتقد كُثر.
لكنّ هناك ملفّات سورية لا تحتمل التأجيل أكثر؛ ملفّ المُعتقَلين؛ وملفّ المُهجَّرين، لا سيما في الدول القريبة من سورية، وهما الملفّان الأكثر استعصاءً من الملفّات السورية الأخرى كلّها، ذلك أنّ ضحايا الملفَّين تحوّلوا مُجرَّد أرقام في اللعبة السياسية الدولية، وهم الأكثر تضرّراً من السوريين الآخرين، فإذا كان ملفّ المُعتقَلين والمخفيين يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحلّ السياسي الشامل للمسألة السورية، أي الحلّ الذي يفرض تغيير بنية النظام الأمنية، ويُفكِّك هذه المنظومة التي فتكت بالسوريين عقوداً، ويكشف مصير المُعتقَلين والمُغيَّبين، ومنهم شخصيات بارزة تدخّل المجتمع الدولي للكشف عن مصائرها من دون جدوى، فإنّ ملفّ المُهجَّرين، لا سيّما في لبنان وتركيا، الذين يتعرّضون لحملات من العنصرية والتنمّر غير مسبوقة في البلدَين، ويُهدَّدون بالترحيل إلى المجهول، ويُستخدَمون في اللعبة السياسية الداخلية في البلدَين، وكأنّهم أحجار شطرنج تُتقاذف في لعبة السياسة الداخلية.
يعيش كثيرون من الناشطين والسياسيين والمُثقَّفين السوريين في دول أوروبا، ما يمنح لهم حرّية الحركة والتواصل والفعل، وتشكيل هيئات سياسية ومدنية جديدة يمكنها أن تكون بديلاً مهمّاً من الهيئات الحالية، التي ثبت بيعها القضيةَ السورية لصالح أجندات خارجية، تعجز عن التدخّل وطلب إيقاف حملات العنصرية ضدّ السوريين، بل تُحمّلهم مسؤولية ما يحدث إذا ما قام أحدُ السوريين بأيّ ردّ فعل غاضب تجاه واقعه المزري. وثبت أيضاً انحيازها ضدّ الأقليات الدينية والقومية السورية لصالح مموّليها، ما يجعل من وجودها عبئاً حقيقياً في وجه أيّ تغيير ديمقراطي، مثلها مثل النظام.
ما الذي يمنع كثيرين من السوريين المستقلّين والوطنيين في دول أوروبا والغرب من الدعوة إلى تشكيل هيئات سياسية، وتجمّعات مدنية، يمكنها أنّ تشكّل بديلاً متوازناً من الهيئات الحالية الفاشلة، طالما أنّ رغبة كُثرٍ منهم في التغيير الديمقراطي في سورية، وفي إيجاد حلّ سياسي وطني جامع، ما زالت موجودةً؟ لماذا لم يستطع السوريون في الخارج تشكيل هذه الهيئات ومحاولة الوصول إلى صيغة توافقية تجمع المُختلفين فكرياً طالما يملكون الهدف نفسه، ويتشاركون الوطنية نفسها؟
على المجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤوليته حتماً تجاه الوضع السوري المُستعصِي، لكن على السوريين المُستقلّين، والوطنيين أيضاً، إظهار قدرتهم على الفعل والحركة نحو التغيير المرجو، لا أن يكتفوا بدبج مقالات أو منشورات افتراضية عن ضرورة ذلك.
المصدر: العربي الجديد