على الرغم من استمرار خطوات التقارب المصري التركي، وجديدها أخيراً زيارة الرئيس عبد الفتّاح السيسي إلى أنقرة (4/9/2024)، التي شهدت توقيع 18 مُذكّرة تفاهم في قطاعات الطاقة والدفاع والسياحة والصحّة والزراعة والتمويل والثقافة والتعليم والنقل، فإنّ ثمّة تساؤلات عن حدود التقارب بين البلدَين، خصوصاً مع استمرار الخلافات في الملفّات السياسية (المُرتبطة بملفّ غاز شرق المتوسّط، وتعيين الحدود البحرية، والملفّ الليبي)، فضلاً عن محدودية النتائج الإقليمية المتوقّعة لهذا التقارب الثنائي، ولا سيّما بالنسبة لاتّخاذ خطوات للضغط في اتجاه وقف حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، التي توشك أن تطوي عامها الأوّل، في ظلّ حالة العجز الرسمي، العربي والإقليمي والدولي، عن كبح جماح التوحّش الإسرائيلي إزاء المدنيين الفلسطينيين العزّل في غزّة والضفّة الغربية.
وفي إطار تقويم هذا التقارب المصري التركي، ومدى استفادة طرفَيه منه، وتداعياته المُحتملة على الصعيد الإقليمي، ثمّة أربع ملاحظات: أولاها، تصاعد القدرة التركية على توظيف هذا التقارب، بحكم نشاطها الدبلوماسي، وارتكازها على أسس نفوذ إقليمي (صلب وناعم)، جرى تأسيسه على مدار العقدَين الماضيَين، ومراجعة أنقرة مواقفها الإقليمية، وتحالفاتها الدولية أيضاً، على نحو يستجيب للمتغيّرات الإقليمية والدولية.
وعلى الرغم من وجود قصور في أدوات تنفيذ السياسة التركية تجاه حرب غزّة، وإحجامها، في البداية، عن الانخراط الكثيف في البحث عن مخارج من الحرب (باستثناء طرح فكرة “الدول الضامنة”، أي الانتقال من الدبلوماسية العادية، التي أثبتت فشلها في تنفيذ حلّ الدولتَين خلال 31 عاماً بعد اتّفاق أوسلو، إلى الدبلوماسية القسرية، عبر وجود ضامنين لكلّ طرف، سواء في تنفيذ وقف إطلاق النار أو في عملية سلام مستقبلية)، فإنّ الموقف التركي تطوّر تدريجياً بعد الانتخابات البلدية (31/3/2024)، سواء بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، أو بمحاولة دعم (إسناد) الموقف المصري في مواجهة الضغوط الإسرائيلية، أو دعوة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس لإلقاء خطاب أمام البرلمان التركي، أو اعتماد تركيا التصعيد الخطابي/ الدبلوماسي ضدّ الجرائم الإسرائيلية بغية امتصاص غضب الشارع التركي، وصولاً إلى التلويح بإمكانية التدخّل عسكرياً، ودعوة الرئيس رجب طيّب أردوغان (7/9/2024) إلى تحالف الدول الإسلامية لوقف الغطرسة وإرهاب الدولة الإسرائيلية، في إطار تعليقه على اغتيال إسرائيل المتضامنة الأميركية التركية عائشة نور أزغي أيغي في نابلس، فضلاً عن قتلها 40 ألف مدني فلسطيني بريء.
واستطراداً في التحليل، قد تتعزّز مكانة تركيا الإقليمية في حال انضمامها إلى مجموعة بريكس، ولا سيّما بعد انضمام السعودية ومصر وإيران إليها؛ إذ تتواتر الإشاراتُ التركية إلى رغبتها في المشاركة في جميع التكتّلات الدولية، ما قد يعني خطوةً أخرى في ابتعاد أنقرة عن الكتلة الغربية، بحثاً عن أدوار إقليمية ودولية أكثر فعّاليةً واستقلاليةً، بما يحقّق المصالح التركية، ولا سيّما في ضوء استياء أنقرة من مواقف واشنطن وباريس وبرلين ولندن من حرب غزّة، ناهيك عن تصاعد الخلافات مع أطراف أطلسية بشأن موضوعات عسكرية، أو مزاعم إبادة الأرمن، أو قضايا سياسية مثل ليبيا وفلسطين وسورية ولبنان… إلخ.
تتواتر الإشاراتُ التركية إلى رغبتها في المشاركة في جميع التكتّلات الدولية، ما قد يعني خطوةً أخرى في ابتعاد أنقرة عن الكتلة الغربية
تتعلّق الملاحظة الثانية بإدراك القاهرة (بعد تأخّر شديد)، أهمّية التحرّك نحو أنقرة لتقليل مخاطر التحوّلات الإقليمية الآتية، بعد انتهاء حرب غزّة، وشروع إثيوبيا في الملء الخامس لسدّ النهضة، وتجاهل أديس أبابا انعكاساته الكبيرة على مصر والسودان. وعلى الرغم من التقارب المصري مع تركيا والصومال أخيراً، والرغبة في الحصول على دعم أنقرة في الخلاف المصري الإثيوبي، فليس متوقّعاً أن ينجح النظام المصري (في المدى المنظور)، في تجاوز الأخطاء المتراكمة منذ توجّه الرئيس أنور السادات نحو التسوية المُنفرِدة مع إسرائيل بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول (1973)؛ إذ تبدو واضحة تداعيات اتّفاقيات كامب ديفيد على تحجيم (تآكل) الدور المصري عربياً وأفريقياً وإقليمياً؛ إذ باتت تتداخل التهديدات من هذه الدوائر، التي أهملتها القاهرة قرابة خمسة عقود، في مقابل التحاقها بسياسات المحور الأميركي الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
واستطراداً في تحليل تداعيات التوجّه المصري نحو واشنطن وتلّ أبيب، والعواصم الأوروبية والخليجية، وإدارة الظهر للقارّة السمراء، يبدو اليوم، في ظلّ حرب غزّة، مدى ارتباك السياسة الخارجية المصرية، وإحجامها عن التحرّك في توقيت مناسب (لكي لا نقول تبنّي النهج المُبادِر الاستباقي)، استجابةً لتطوّر التحدّيات (التهديدات) الخارجية؛ فمصر تميل إلى التكيّف مع الضغوط الإسرائيلية الأميركية، وهو ما كشفته تطوّرات حرب غزّة، ولا سيّما ما يتعلّق باقتحام مدينة رفح الفلسطينية، ثمّ احتلال محور صلاح الدين أو “فيلادلفي”، الذي اقتضى (ولا يزال) ردّاً حاسماً أقوى من تفقّد رئيس أركان حرب القوّات المسلّحة المصرية أحمد خليفة الحدود بين مصر وقطاع غزّة (5/9/2024)، بعد اتهام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مصرَ بالفشل في تأمين الحدود.
تختلف مقاربة كلّ من مصر وتركيا لقضية فلسطين، وهناك رفض مصري صريح لفكرة المقاومة
تتعلّق الملاحظة الثالثة بأثر أزمات النظام الإقليمي في الشرق الأوسط على عرقلة تطوّر علاقات القاهرة وأنقرة إلى مستوى شراكة استراتيجية. وعلى الرغم من تأسيس مجلس التعاون الاستراتيجي التركي المصري، فإنّ تجارب التعاون الإقليمي على مدار عقود، تكشف ضعف البنية المؤسّسية في المنطقة، وترهلّ أغلب المنظمات الإقليمية (جامعة الدول العربية، ومنظّمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الأفريقي… إلخ)، ومحدودية فعّاليتها في معالجة الأزمات الإقليمية، ولا سيّما قدرتها على تحييد تأثير العوامل الدولية في هذه الأزمات.
وعلى الرغم من حفاوة استقبال أردوغان الرئيس المصري، وتجاوز أنقرة فكرة دعم “الإخوان المسلمين” إجمالاً، فإنّ جزءاً من التنافس بين البلدين ينطوي على أبعاد شخصية (نفسية). وتختلف مقاربة البلدين قضية فلسطين، خصوصاً الموقف من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)؛ إذ دافعت أنقرة صراحةً عن مشروعية مقاومة “حماس”، كما ظهر مرَّتَين على الأقلّ؛ إحداهما في خطاب أردوغان (25/10/2023)، حينما قال إنّ “حماس ليست منظّمةً إرهابيةً”، والأخرى تنكيس تركيا أعلامها (2/8/2024)، حداداً على اغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، وهو الحدث نفسه الذي تجاهلته مصر، كأنّما يتعلّق باغتيال عضو برلماني في المكسيك وليس بحدث كبير يخصّ دولة جوار استراتيجي، يتداخل أمنها مع الأمن القومي المصري، مهما تضاءلت حدوده وتعريفاته، من دون أن ننسى الرفض المصري الصريح لفكرة المقاومة الفلسطينية، كما تجلّى في تصريح وزير الخارجية السابق سامح شكري (17/2/2024)، بأنّ “حماس” هي “خارج الإجماع الفلسطيني”، الذي جاء بعد أيّام قلائل من زيارة الرئيس أردوغان لمصر، التي لا تزال تُؤيّد مسارات التسوية والتفاوض، على هزال نتائجها، التي مكنّت المشروع الإقليمي الإسرائيلي، وأطلقت ماردي الاستيطان والتهويد من عقالهما في الضفّة الغربية والقدس المحتلّة، ناهيك عن النتائج الكارثية لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة (2023 – 2024).
تمسّ العلاقات المصرية التركية سياسات القوى الدولية تجاه المتوسّط وثرواته، ما يحجّم إمكانية تطوّرها
تتعلّق الملاحظة الرابعة بتأثير العامل الدولي في تحجيم إمكانية تطوّر العلاقات المصرية التركية شراكةً استراتيجيةً، بسبب احتمال تأثيرها في الملفّات السياسية (المرتبطة بغاز شرق المتوسط، وتعيين الحدود البحرية، والملفّ الليبي، ومكانة الفاعل الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة)، التي تمثّل في جملتها ملفّات دولية تستبطن سياسات القوى الدولية تجاه البحر الأبيض المتوسّط وثرواته النفطية والغازية، وانعكاسات ذلك كلّه على المعادلات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، ولا سيّما في هذه المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها النظامان العالمي والإقليمي، بكلّ ما تعنيه من تصاعد الصراع الإقليمي والدولي على الموارد والثروات.
يبقى القول إنّه على الرغم من إيجابية التقارب بين مصر وتركيا، وأهمّية العلاقات العربية مع تركيا وإيران عموماً، فقد تأخرت القوى الإقليمية كلّها في التصدّي لتغوّل الدور الإسرائيلي على غزّة وفلسطين ولبنان وسورية واليمن والعراق وإيران، وإقليم الشرق الأوسط برمّته، ما يعني أنّ ثمّة تداعيات سلبية ستظهر في أدوار هذه القوى نتيجة خشيتها من مغبّة ممارسة ضغوط حقيقية على واشنطن لكبح انفلات غرائز الانتقام لدى حليفها الإسرائيلي، ما يكشف بدوره أزمة السياسات الإقليمية تجاه حرب غزّة، التي شنّتها إسرائيل في مرحلة انتقالية خطيرة من عمر النظامَين الدولي والإقليمي، وكانت تتيح، نظرياً على الأقل، إمكانية أن تتغلّب الفواعل الإقليمية على البنى والهياكل التقليدية التي تُؤثّر في الإقليم وتعيق بناء علاقات عربية إقليمية أفريقية سليمة وصحية، تؤسّس لـ”هُويَّة إقليمية مشتركة”، وترسّخ أسس مؤسّسات إقليمية تعاونية فاعلة بين العرب والأتراك والإيرانيين والأفارقة مع القوى الصاعدة عالمياً وإقليمياً، ما يُؤكّد أنّ مصر وتركيا وإيران والسعودية ضيّعت فرصةً ثمينة لتحسين مواقعها الإقليمية عبر دعم المقاومة الفلسطينية في معركة غزّة، التي تشكّل نقطةَ تحوّلٍ في تاريخ المنطقة، مثلما أهدرت فرصةَ الوصول إلى “هُويَّة إقليمية” تقوم على المصالح المشتركة، والاعتماد الأمني المُتبادَل في إقليم الشرق الأوسط، مع تعزيز استقلاليته الإقليمية في مواجهة إكراهات التدخّلات الدولية الصارخة.
المصدر: العربي الجديد