لطالما استقرّ في أذهاننا أنّ الفاشلين لا يمكثون في مناصبهم في البلدان الديمقراطية، أو التي يقال عنها ديمقراطية، وأنّ الشعوب التي تتمتّع بحرّية انتخاب قادتها لا تسكت على بقاء القادة الفاشلين. غير أنّ ما حدث في إسرائيل، طوال أكثر من 11 شهراً، أسقط تماماً هذه القاعدة، أو ما ظنناه قاعدةً لا تتبدّل.
حين نراجع أسماء المستقيلين عن الهزيمة التي تلقّتها إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، لن نجد بين من قرّروا تقديم استقالاتهم أحداً من القادة الكبار، ونقصد من يقودون الأجهزة الأساسية في الدولة من السياسيين؛ أي رئيس الحكومة والوزراء، أو العسكريين؛ وتحديداً وزير الحرب، ورئيس الأركان، وقادة الموساد، والشاباك، والاستخبارات العسكرية (أمان). الوحيد من بين هؤلاء الذي قدّم استقالته رئيسُ الاستخبارات العسكرية أهرون حليوة (من أصول مغربية)، الذي استقال في إبريل/ نيسان الماضي، أي بعد ما يقارب سبعة أشهر من الكارثة التي حلّت بإسرائيل. أمّا بقية الفاشلين فلم يغادر أحدٌ منهم منصبه، بعدما انتقلت عدوى الالتصاق بالكرسي إلى الإسرائيليين، وصار الجميع مُصرّين على البقاء في مناصبهم، وممارسة أعمالهم وكأن شيئاً لم يحدث؛ فلا السياسيون اعترفوا بذنوبهم، ولا العسكريون غادروا.
الغريب أنّ تكرار الفشل لم يعد دافعاً لاستقالة هؤلاء القادة الكبار، فرئيس الشاباك رونين بار باقٍ في منصبه رغم فشله مرّة تلو الأخرى، أخيرتها ما حدث في معبر الملك حسين بين الأردن وإسرائيل، وأقصى ما صدر عنه كان في فبراير/ شباط الماضي، حين صرّح بأنّه سيستقيل حينما تسمح الظروف، ما يعني بقاءه في منصبه طالما استمرّت الحرب. وهكذا، فإنّه وغيره من القادة استخدموا هذه الحُجَّة كما لو كانت مبرراً “أخلاقياً” يدفعهم إلى التمسّك بمناصبهم، وكأنّهم يقومون بالتضحية من أجل دولتهم. وعلى هذا الأساس لم يكن من الغريب، في ظلّ إصرار هؤلاء القادة على البقاء في مواقعهم، أن تتأخّر استقالات العسكريين العاملين تحتهم، من قادة الوحدات والفرق والقطاعات، ممّن أحسّوا بالمسؤولية التي لم يشعر بها قادتهم، فكانت أولاها استقالة قائد فرقة غزّة، العميد آفي روزنفيلد، في يونيو/ حزيران الماضي، بعد تسعة أشهر كاملة من فشله في الدفاع عن مستوطنات غلاف غزّة أمام هجوم المقاومة، ليخلفه العميد باراك حيرام، الذي بُرِّئ إثر تحقيقات عسكرية خضع لها نتيجة قتله مستوطنين، بعد إطلاقه القذائف المدفعية من دبابات الجيش الصهيوني على بيوت احتجز فيها المقاومون مستوطنين صهاينة. وهي تحقيقات صرّح فيها رئيس الأركان هرتسي هاليفي بأنّ حيرام “كان في موقف استثنائي، وكان عليه اتّخاذ قرارات صعبة لإنقاذ المستوطنين”، تحقيقات وصفت بالفاسدة من مسؤول التحقيقات السابق في القوات البرّية في الجيش الصهيوني، اللواء احتياط جاي حزوت، الذي استقال أيضاً إثر ما وقع من فشل، وبسبب تعمّد القادة العسكريين (والمقصود رئيس الأركان تحديداً)، أن تكون التحقيقات صوريةً من أجل ستر العورات وليس التعلّم من الأخطاء. ثم أخيراً استقالة قائد الوحدة 8200، العميد يوسي شريئيل، منذ أيّامٍ، معترفاً بالتقصير والمسؤولية عما وقع “في 7 أكتوبر”، بعدما بقي في منصبه ما يزيد عن 11 شهراً من فشله.
لم يتراجع نتنياهو في أيّ لحظة عن صحّة مواقفه، وعدم ارتكابه أيّاً من أشكال التقصير
وإذا كان توجّه رئيس الأركان إجراء تحقيقات صورية، حسب وصف حزوت، فمن الطبيعي أن يختار البقاء في منصبه، رغم إعلانه تحمّل المسؤولية عما حدث. فالرجل، وطبقاً لما نشره موقع القناة السابعة الصهيونية في الأيام الماضية، لا ينوي الاستقالة، وينفي أيّ أنباءٍ يروّجها إعلاميون مُقرّبون من الحكومة عن قرب استقالته، رغبةً في التخلّص منه، ومن المرجّح أن يستكمل مدّة خدمته، التي تمتدّ ثلاث سنوات كاملة، تنتهي عام 2026. ولكي يبقى هاليفي في منصبه، فلا مانع من أنّ يروّج المُقرّبون منه “لمثاليته، والجهد الكبير الذي يبذله، وعينيه اللتين لا يضع نصبهما سوى مصلحة الدولة، وقراراته التي يتّخذها باغتيال قادة المقاومة، وإدارته ما يخصّ الحرب في غزة كلّه”. ولا يكتفي هاليفي بذلك، بل إنّه يسير في مسارَين من أجل تصميم الجيش على النحو الذي يريده، عبر دفعه بعض القادة للتقاعد، وعزمه على تعيين قائد القطاع الشمالي في الجيش الصهيوني، اللواء أوري جوردون، نائباً له خلال فصل الشتاء، على أمل أن يُعيَّن جوردون رئيساً للأركان بعد أن يقضي هاليفي مدّته كاملةً. وتشير التقارير إلى أنّ جوردون أحدّ المقرّبين من هاليفي؛ ما يعني أنّ رئيس الأركان الحالي يريد أن يكون هو من يُحدّد هُويَّة رئيس الأركان القادم، على أساس تقليد متّبع بترقية نائب رئيس الأركان ليشغل المنصب العسكري الأهم في وزارة الحرب الصهيونية.
ولم يكن موقف وزير الدفاع يوآف غالانت مختلفاً، فرغم وصول علاقته برئيس الحكومة إلى حدّ الأزمة والتلاسن في أكثر من مرّة، وتصريح بنيامين نتنياهو بأنّه لن يُقيله، فإنّ وزير الدفاع أيضاً يصرّح علناً، في مرّات كثيرة، بأنّه لن يُقدّم استقالته طوعاً لرئيس الحكومة، وأنّ على نتنياهو، إذا أراد، أن يُقيله من منصبه.
لو انتقلنا إلى السياسيين نجد حجم اللامبالاة أكبر، فبينما قرّرت بعض القيادات العسكرية تحمّل مسؤولية الفشل، ولو بصورة شكلية، فإنّ أحداً من السياسيين لم يعترف بالتقصير مطلقاً، واختار كلّ رجال المستوى السياسي، وفي مقدمتهم نتنياهو، إلقاء عبء ما حدث على القادة العسكريين، بدءاً من وزير الدفاع ورئيس الأركان، وصولاً إلى قادة الشاباك والاستخبارات العسكرية (أمان)، بل وتعمّد تسريب تصريحات تنتقص من قدرات القادة العسكريين. وتحمّل رئيسَ الحكومة، طوال 11 شهراً من الحرب، ضغوطاً كبيرةً من المعارضة كي يعترف بنصيبه في الكارثة التي تعرّضت لها إسرائيل، لكنّه لم يتراجع في أيّ لحظة عن صحّة مواقفه، وعدم ارتكابه أيّاً من أشكال التقصير.
انتقلت عدوى الالتصاق بالكرسي إلى الإسرائيليين، وصار الجميع مُصرّين على البقاء في مناصبهم
وتكشف المواقف السابقة عن أوجه تشابه بين القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل، أكثر ممّا تكشف من نقاط اختلاف. إذ يتمثّل الاختلاف الأبرز بين الجانبَين في اعتراف العسكريين بالمسؤولية عن الفشل، وإنكار السياسيين لها. أمّا وجوه التشابه فكثيرة؛ أبرزها أنّ القادة في الطرفَين باقون في مناصبهم؛ باستثناء أنّ العسكريين يستخدمون سرديةَ “الظروف غير المناسبة، وعدم ترك الخدمة العسكرية والحرب دائرة” مبرراً أخلاقياً للبقاء على رأس أعمالهم، مع ضرورة التمييز بين القادة الكبار في مستوى اتّخاذ القرار ومواجهة نتنياهو، ومستوى قادة الوحدات والفرق، وهو الذي تقع فيه الاستقالات المُتأخّرة. أمّا القادة السياسيون فيكتفون بتحميل العسكريين المسؤولية كاملةً عن الكارثة. كما يتشابه الطرفان في أنّ التحقيقات التي يجريها كلّ منهما تحقيقات صورية؛ فنتنياهو يريد نتائجَ تُدين قادة الجيش والأجهزة الاستخبارية، ولكي يُحقّق ذلك كلّف مراقبَ الدولة التحقيق في فشل “7 أكتوبر”، وأصرّ على رفض تشكيل لجنة تحقيق رسمية بقيادة قضاة مستقلّين، على غرار لجان شُكِّلت للتحقيق في وجوه التقصير في حروب سابقة؛ كلجنة أغرانات في حرب أكتوبر (1973)، أو لجنة فينوغراد في حرب لبنان الثانية 2006. أمّا التحقيقات العسكرية فهي عبارة عن “سترٍ للعورات والأخطاء” التي وقع فيها العسكريون. يضاف إلى وجوه الشبه السابقة أنّ الطرفَين دخلا في عناد مُتبادَل، وأصبح المدخل غير المعلن لتمسك العسكريين بمناصبهم هو عدم ترك المجال لنتنياهو للانفراد بالقرار، ومن ثمّ بات استمرارهم دفاعاً عن الدولة من تهور الحكومة المُتطرّفة، وهم في هذا السياق لا يتورّعون عن تسريب المعلومات التي تساهم في إثارة الجماهير، والإساءة للقيادة السياسية؛ وأبرز ما يُؤكّد ذلك وثائق نشرها الكاتبان في “يديعوت أحرونوت” رونين برجمان ومأور لايزر، في 3 سبتمبر/ أيلول الماضي، تضمّنت تفاصيلَ التعديلات التي أدخلها نتنياهو على مقترحه الذي قدمه بنفسه للرئيس الأميركي ووافقت عليه “حماس” في مطلع يوليو/ تمّوز الماضي، وهي وثائق وصلت للكاتبَين عبر “مصادر أمنية كبيرة”، حسب تعبير المقال. وكان هذا التسريب العاملَ الأهم في اعتبار نتنياهو المتسبّب الأوّل في مقتل الأسرى الستّة، الذين عثر الجيش على جثثهم في أوّل الشهر الحالي في غزّة، وكان مُحفِّزاً على استعادة زخم المظاهرات المعارضة للخطّ الذي تسلكه الحكومة الإسرائيلية في إدارة الحرب، والمطالبة بإجراء صفقة تبادل الأسرى.
وهكذا، يُصرّ السياسيون على تجنّب الاعتراف بالخطأ، ولو كان شكلياً، بينما يتحوّل تحمّل المسؤولية عند العسكريين إلى تصريحات شكلية لتطييب الخواطر، وتهدئة الرأي العام، من دون أن تتحوّل استقالاتٍ وفعلاً حقيقياً. وباتت العلاقة بين القادة العسكريين والسياسيين علاقة صراع، يبحث كلُّ طرف عن الانتصار فيه، فيضغط السياسيون لدفع العسكريين للاستقالة الطوعية، بينما يعتبر العسكريون أنفسهم حائط الصدّ الأخير أمام تسلّط نتنياهو وأحزاب اليمين المُتطرّف، ومانعاً من إحكام سيطرتهم على الدولة.