خالد الحروب
قبل الحديث عن “عملية الحرب” بين إيران وإسرائيل المُستمرة منذ عقدين أو ثلاثة، من المُفيد استخدام “النموذج” الأكثر ذيوعاً ومعرفة، وهو “عملية السلام” بين إسرائيل والفلسطينيين، لأنّه “المسطرة” الأشهر التي تُسهِّل فهم “عملية الحرب” قيد التحليل هنا. في الحالتَين، المهم هو “العملية” وليس النتيجة. وسواء كانت “العملية” خطّةً مسبقةَ الإعداد كما في “السلام” الموعود، أو سيرورةً تولَّدت عبر الوقت والأحداث في حالة “الحرب” المُهدَّد بها، فإنّ الخلاصاتِ متشابهةٌ إلى حدّ مُدهش. في كلتا الحالتَين، “العملية” هي سلاح الجوّ، الذي يُوفّر المجال والمساحة لبقية القوات (السياسية والدبلوماسية) لاكتساب منجزات جديدة في الأرض، سواء خلال عملية الوعد بالسلام أو التهديد بالحرب.
عبقرية الخداع في آلية (واستراتيجية) “عملية السلام” الإسرائيلي – الأميركي، التي فُرِضت على المنطقة وفلسطين، كمنت في مفهوم ومفردة “العملية” أو “Process”، وهي المصطلح الذي شاع خلال العقود الماضية. تختاف “عملية السلام” عن “السلام” الذي يعني التوصّل إلى تسوية بين الأطراف. “العملية” في المقابل سيرورة طويلة جوهرها تقطيع الوقت وكسبه من الطرف الأقوى، وفرض حقائقَ جديدةً في الأرض تحت ستار السير نحو السلام. إقليمياً على الأقلّ، وُلِد مفهوم “عملية السلام” على يد سيّئ الذكر هنري كيسنجر، في حقبة جولات دبلوماسيته المكوكية بين مصر وإسرائيل، التي انتهت بتوقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979. كانت فكرة كيسنجر بسيطةً وفعّالةً في الوقت ذاته: ليس مهماً صنع السلام في لحظة ما إن لم تطابق شروطه ومنافعه المصلحة الإسرائيلية، إذ يمكن الاستعاضة عن السلام بتصنيع “عملية سلام” تُقنع الأطراف، أو الطرف المُستهدَف، بأنّ شيئاً ما يحدث، وأنّ ثمّة أملا أو وهما في الأفق، يُؤكّد أنّ تحقّق السلام مسألة وقت ليس إلّا. خلال هذه “العملية” تُبرَّد الأجواء وتُخلَق “إجراءات ثقة”، وتُطلَق صناعة كاملة تقوم على اللقاءات والمحادثات التي لا تنتهي، يوازيها إنتاج جيل تكنوقراطي غير مُسيّس، ويتمتع كلّه بتغطيات وبهرجة إعلامية لا تتوقّف، تنحت لغةً ومزاجاً جديدَين. طحن في الهواء جعجعته تُخفي خواءَه. مع ذلك، تعمل عبقرية “العملية” على إزاحة الأطراف المتصارعة إلى خارج مُربّع حالة الحرب والصراع، لكن من دون أن تنقلهم إلى مُربّع “السلام” الموعود. تضعهم في منطقة رمادية وسطى، لا هي حرب ولا هي سلام، وهذه المنطقة المُخادعة هي عنوان الإقامة المديدة والدائمة لـ”عملية السلام”. تستطيب “العملية” الإقامة في الرمادي، ومعها الأجيال التي أنتجتها خلال السنوات الطويلة، وتتحوّل بذاتها واقعاً جديداً، واقع ما بعد الحرب وما قبل “السلام” الموعود. ليست هذه الفكرة جديدةً كلّياً، إذ تتمحور بالمجمل، وفي سياق مقاربة الصراعات والعلاقات الدولية، حول آلية إدارة الصراعات لا حلّها. إذا تعسّر حلّ صراع ما، تتدخّل آليات إدارته لتخفيف حدّته وأكلافه على الطرفَين نظرياً، أو لحماية مُكتسبات المُعتدي عملياً.
تعدت آليات واقع “عملية السلام” في السياق الفلسطيني، واشتغلت في السياق الإقليمي، وأنجزت تطبيع إسرائيل مع عدد من الدول العربية
تجسّدت في “عملية السلام” الفلسطينية – الإسرائيلية الترجمة الأكثف والأبشع لتمظهرات فكرة “العملية”، فمُغطت إلى أكثر من ثلاثة عقود (منذ أوائل تسعينيّات القرن الماضي)، وأنهكت الحقوق والأرض الفلسطينية والتهمتهما. تحت غطاء “العملية” المُخاتلة تراكمت الإنجازات الإسرائيليَّة في الأرض؛ تقطيع أوصال أراضي الدولة الفلسطينية المأمولة والمُفترَضة، نشاط استيطاني ينهش أراضي جديدة ويضمّها؛ تحويل السلطة الفلسطينيَّة إلى مجرد جهاز أمني “بحكم الأمر الواقع” يعمل لحماية المستوطنين واعتقال من يجرؤ على المقاومة من الفلسطينيين؛ تعميق الانقسام الفلسطيني في السياسة والجغرافيا بين حركتي فتح وحماس، وبين الضفّة الغربية وقطاع غزّة، والتلاعب بالطرفَين وضرب بعضهما ببعض، عبر توفير قدرات بقاء الحدّ الأدنى التي تبقيهما في قيد التناحر، مع ضمان تصفير تلك القدرات على إلحاق ضرر وجودي بإسرائيل. لا يعني هذا أنّ “عملية السلام” لم تُقدّم شيئاً على الإطلاق للفلسطينيين، ولم تزرع في أوساطهم الحيرة، بلّ قدّمت ما كان مطلوباً من حدود كانت كافيةً لإبقاء العملية في قيد الحياة، وتوفير المسوّغات للمدافعين عنها، ومواصلة ملاحقة الأمل بأنّها ستؤول إلى ما يحقق لهم شيئا ما. ديمومة “عملية السلام” تطلّبت إنتاجَ شواهدَ سلميةٍ ودعائيةٍ تعزّز الصورة الانطباعية العامّة والمطلوبة على أنّها مرحلة متحرّكة، وليست دائمة، ستقود إلى الهدف النهائي وهو “السلام”. تعدت آليات واقع “عملية السلام” في السياق الفلسطيني، واشتغلت في السياق الإقليمي، وأنجزت تطبيع إسرائيل مع عدد من الدول العربية.
قال مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، والسفير الأميركي لدى إسرائيل في عهد الرئيس كلينتون، مارتن إنديك، مرّة: “إنّنا نستخدم عملية السلام آليَّةً لتغيير وجه المنطقة”، وهو ما حدث وتحقّق فعلاً. أنتجت “العملية” لإسرائيل سياقاً دبلوماسيًاً وتبريريًاً مكَّنها من تكريس وتعميق احتلالها، في ظلّ “عملية سلام” قُدِّمت إسرائيل دولةً عاديةً منخرطةً في البحث عن السلام، وتتفاوض حول طبيعته وعناصره. مكتسبات إسرائيل الثمينة والعديدة دولياً وإقليمياً تمتّعت بالحماية الدبلوماسية، التي وفّرها الانطباع الخادع الذي قدّمته “عملية السلام” من أنّ السلام مع الفلسطينيين قادمٌ بالتأكيد، وأنّه قيد التفاوض.
بالتوازي مع “عملية السلام” هذه، شهدت المنطقة “عمليةً” أخرى موازيةً، تطوّرت وساهمت في تشكيل الإقليم وتبديل معالم أساسية في جغرافيته السياسية، هي “عملية الحرب” بين إيران وإسرائيل. تعود جذور “عملية الحرب” هذه إلى بدايات الثورة الإسلامية هناك (1979 – 1980)، جوهرها أنّ “الحرب” بين إيران وإسرائيل قادمة، والطرفان يحضّران لها. في قلب “العملية”، وفي هوامشها الزمنية التي طالت عقوداً، تكاثفت التهديدات المتواصلة والمتبادلة بين الطرفَين، وتصاعدت الخطابات السياسية عاليةَ النبرة، ومعها التحشيد السياسي الإقليمي، والتحرّش المسلّح المحسوب بدقّة، لكن من دون انخراطٍ مباشرٍ من الدولتَين في حرب كلاسيكية. وكما أنتجت “عملية السلام” شواهدَ سلميةً لتحافظ على صدقيتها، فإنّ “عملية الحرب” الإيرانية – الإسرائيلية أنتجت شواهدَ حربيةً وعسكريةً أكّدت صدقيتها أيضاً، وأنّ الحرب قادمة.
وُلِد مفهوم “عملية السلام” على يد كيسنجر، فليس مهماً صنع السلام إن لم تطابق شروطه المصلحة الإسرائيلية، ويستعاض عنه بـ”عملية سلام”
في عملية “السلام” الإقليمية كانت فلسطين (والفلسطينيون) الطرف الثاني الرئيس في “العملية”، الخاسر الأكبر. في عملية “الحرب” بين إيران وإسرائيل يصعب تحديد ميزان خسارة أو ربح صافٍ لصالح أحد الطرفَين، بل انزاحت الخسارات الأكبر لتطاول دولاً ومجتمعاتٍ وأطرافاً عربيةً عديدةً. عوضاً عن صافي خسارة لأيّ منهما، حقّق الطرفان الرئيسان في “عملية الحرب” مكتسبات وأرباحا خاصّة بكل منهما. استثمرت إسرائيل التهديدات الإيرانية بـ”الحرب”، التي وصلت في خطابات أقصوية إلى التهديد بإزالة إسرائيل عن الخريطة، وانتفعتْ بالتالي من دعم أميركي وغربي متصاعد، مادّياً وعسكرياً ودبلوماسياً. في مدار عقدَين على الأقلّ، ومنذ خطابات الرئيس الإيراني الأسبق، محمود أحمدي نجاد، رسمت إسرائيل صورةَ الضحية المُحتملة في منطقة تضجّ بكراهيتها والرغبة في تدميرها. في مرحلة لاحقة، تعاظم الاستثمار الإسرائيلي في شكل تطبيع مع دول خليجية علناً، وفي علاقاتٍ قويةٍ واستخباراتيةٍ سرِّيةٍ مع دول أخرى، على قاعدة التهديد الإيراني المُشترك. نجحت إسرائيل أيضاً، خاصّة في مرحلة ما قبل السابع من أكتوبر (2023)، في قلب الأجندة الإقليمية ووضع التهديد الإيراني في رأسها، في مقابل تهميش فلسطين وقضيتها وإزاحتها من المشهد.
استفادت إيران أيضاً (ولا تزال) من “عملية الحرب” المُعلَنة ضدّ إسرائيل، لكن التي تتفادى الانخراط في أيّ حرب حقيقية. خلال العقدَين الأخيرَين على أقلّ تقدير أيضاً، يمكن رصد خطَّين متوازيَين للسياسة الإيرانية في سياق تلك “العملية”. الأول خطابي دعائي ذو نبرة قتالية وحربية ضدّ إسرائيل يتوعّدها بـ”الحرب”، والثاني عملي واستراتيجي اشتغل على توطيد نفوذ إيران الإقليمي على حساب البلدان العربية، وترسيخ صورتها “قائداً لمحور المقاومة” في المنطقة. برّرت إيران تدخّلاتها في العراق وسورية ولبنان واليمن، ودعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، على أساس أنّ ذلك الدعم والتدخّل جزء من استراتيجية محور المقاومة واستعداداته للحرب المقبلة مع إسرائيل. عملياً، كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزّة حدود الفعل الإيراني وحساباته القومية المتعلّقة أولاً وآخِراً بالدولة الإيرانية. بعيداً من الخطاب عالي النبرة، يتلخّص موقف إيران الأساسي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في القبول بما قد يقبل به الفلسطينيون، ولا يتجاوز حلّ الدولتَين. تأكّد هذه المواقف إبّان قمّة منظمة التعاون الإسلامي المنعقدة في إسطنبول عام 2017، بدعوة تركية للردِّ على اعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل، إذ صادقت إيران، ممثّلة آنذاك برئيسها حسن روحاني ووزير خارجيتها محمد جواد ظريف، على البيان الذي صدر عن القمّة ودعا إلى تسويةٍ تقوم على حلّ الدولتَين. تجوهرت المصلحة الإيرانية القومية العُليا في المحافظة على النظام، وإنهاء التوتّر مع الولايات المتّحدة والغرب، وفكّ الحصار عنها، والإقرار بدورها الإقليمي. كشف الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان جوهر هذه المصلحة أخيراً، عندما تحدّث عن “الأخوّة مع أميركا”. في خضم ذلك كلّه، وفرت “عملية الحرب” لإيران المظلّة السياسية والخطابية لتوسيع نفوذها في المنطقة، ولتعزيز سيطرتها، ولممارسة هذا النفوذ وضغطه أوراقَ تفاوضٍ مع واشنطن والغرب.
وفرت “عملية الحرب” لإيران المظلّة السياسية والخطابية لتوسيع نفوذها في المنطقة، ولتعزيز سيطرتها، ولممارسة هذا النفوذ وضغطه أوراقَ تفاوضٍ مع واشنطن والغرب
ويمكن، في مقاربة “عملية الحرب” بين إيران وإسرائيل، ملاحظة تشابه نتائج المُقاربتَين (وأحياناً انطباقهما) خلال السنوات السابقة، رغم انطلاقها من نقطتَين متعارضتين تماماً؛ خطاب دعائي يقرع طبول الحرب مقروناً بتوظيف آلية “عملية الحرب” لتوسيع المكتسبات والتوسّع الإقليمي؛ في موازاة ذلك، التردّد الجدّي من خوض حرب مباشرة لا تُعرف نتائجها النهائية. لو أزيل “التهديد الإيراني” تماماً من المشهد الإسرائيلي، لخسرت تل أبيب أفضل ما في جعبتها من أدوات ذرائعية تستغلّها في سياساتها على الأصعدة الداخلية والإقليمية والتطبيعية والدولية. وعلى المنوال نفسه، لو أُزيل التهديد الإسرائيلي لإيران بـ”الحرب”، الذي تستثمره هذه الأخيرة، لكانت طهران خسرت القطعة الأهم في لعبة الشطرنج الإقليمية الخطيرة التي تلعبها، وهو مسألة قيادتها محور المقاومة. وفي الهامش غير البعيد عن “عملية الحرب”، التي تحكّمت في المشهد الإقليمي عقدَين، استفادت الولايات المتّحدة بشكل مُذهِل من طريق بيع الأسلحة إلى بلدان الخليج، التي قاربت في تلك الفترة تريليون دولار.
هل وصلت “عملية الحرب” إلى منتهاها في اللحظة الراهنة المُتفجّرة من ضربة “7 أكتوبر” وما ولَّدته من إرباك لحسابات الطرفَين الدقيقة واستثماراتهما الاستراتيجية المحسوبة؟ وهل سنشاهد خروج هذه “العملية” عن السيطرة وانزلاقها إلى “حرب” فعلية؟ … تحتاج الإجابة مساحة قادمة للنقاش. وبالتأكيد ليس من السهل الإجابة عن تلك التساؤلات، فكثير من تقدير الإجابة يتعلّق بإمكانية وصول إيران والولايات المتّحدة إلى صفقةٍ كبرى تتفادى مثل هذه الحرب، وهو الأمر الذي تريده واشنطن وطهران فيما يبدو. فيما تريد تلّ أبيب كسر معادلة “عملية الحرب”، إذ ترى فرصةً مواتيةً قد لا تعود، حصادها بالضربة القاضية أفضل بكثير من حصاد “عملية الحرب” بالنقاط. هي فرص استثمار التورّط الأميركي الحالي إلى أقصى نقطة، والخروج إلى “الحرب” ذاتها، وتغيير “خريطة الشرق الأوسط” برمّته، كما يتواقح ويتبجّح القادة الإسرائيليون.
المصدر: العربي الجديد