عاطف أبو سيف
فعل نتنياهو ما أراده من البداية؛ أن تتسّع الحرب وتدخل الأطراف كلّها فيها، فيصعُب وقتها وقفها بسهولة. وبدل أن يظلّ مدافعاً عن نفسه أمام خصومه، افتتح مساراً جديداً للحرب في جبهةٍ لم تكن خامدةً منذ البداية، لكنّ مواصلة السكوت عنها تعني مواصلة استنزاف مزيد من قدرات إسرائيل واستقرار أمنها في الشمال. … لم تعد الحرب في جبهة واحدة في الجنوب، بل في جبهة الشمال أيضاً، وما كان مُجرَّد مناوشات صار حرباً حقيقيةً تُقصف فيها بيروت وبقية المدن اللبنانية الأخرى، وفي المقابل يُردّ بقصف حيفا وتلّ أبيب.
الآن، يريد الكل وقف الحرب في لبنان، أمّا الصفقة في غزّة فلا أحد يتحدّث عنها، حتّى المقترح الأميركي الجديد يتحدّث عن وقف الحرب في لبنان وإعطاء مهلة للبحث في الصفقة الخاصّة بغزّة. بكلمة أخرى، إعطاء مزيد من الوقت من أجل أن تتواصل الحرب في غزّة. بعد مرور عام على حرب الإبادة، تتراجع التغطية الإعلامية لما يُرتكب من جرائم، ويُخفَّض الوقت المُخصّص في نشرات الأخبار لغزّة، وربّما تصبح تلك الأخبار ضمن الأخبار الدولية العادية، فهي مثل المجاعة في أفريقيا أو الزلزال في إحدى دول آسيا. كارثة من كوارث عادية. الكلّ مشغول حالياً فيما يجري في لبنان، والكلّ يريد من بنيامين نتنياهو أن يوقف الحرب. صحيح أنّ قرار وقف الحرب لن يكون بيد نتنياهو وحده، وأنّ الطرف الآخر في حرب لبنان (حزب الله) سيكون له كلمة، خاصّة أنّه يربط بين وقفها في لبنان ووقفها في غزّة، ولكن الحديث كلّه لن يكون عن غزّة، بل عن لبنان. بالتالي، نجح نتنياهو في تغطية ما يقوم به في غزّة عبر توسيع المعركة. العالم سيبدو أكثر اهتماماً بوقف الحرب على لبنان خشيةَ أنّ تمتدّ إلى أطراف أخرى. وعليه، فإنّ النقاش سيتركّز فيما يجري في الشمال، ولن يطاول كثيراً ما يجري في غزّة. الأمر ليس أنّ نتنياهو خفّف من حدّة عدوانه على غزّة وبدأ قتالاً جديداً في الشمال، بل إنّ جيشه يواصل مذابحه في غزّة وتعزيز مواقعه، ويقاتل بضراوة أيضاً في الشمال.
لم يخرج مُعارضي نتنياهو من أجل وقف الحرب، بل من أجل الصفقة، فهم يريدون أن تتم الصفقة التي بموجبها يُطلق سراح الأسرى في غزّة
هل سيكون الحلّ الشامل هو خلاصة ما يجري؟ … لا أحد يعرف، لأنّ ثمّة جبهة أخرى في الجنوب قادمة من اليمن، ربّما يرى نتنياهو ضرورة التوجّه إليها أيضاً من أجل ضمان حلٍّ أكثر شمولاً. لكنّ المُؤكّد أنّ نتنياهو عبر توسيع رقعة المعركة وضع غزّة في قاطرة أوسع، وبالتالي سهّل على نفسه التعامل مع ملفّ صفقة غزّة، الملف الذي عرّضه لابتزاز المعارضة وخصومه السياسيين، كما عرّضه لنقد دولي واسع، خاصّةً من أقرب حلفائه في واشنطن. فتحت له الحرب على لبنان آفاقاً جديدة، كما وفّرت تحدياتٍ أزالت كثيراً من التوتّر في جبهته الداخلية.
وضع نتنياهو العربة أمام المعارضة. نجح في جرّ المعارضة خلفه. فالذين يخرجون كلّ يوم مطالبين بعقد صفقة تُفضي إلى إطلاق سراح الأسرى في غزّة باتوا يُهلّلون للعملية العسكرية في لبنان. لاحظوا تصريحات قطبَي المعارضة يئير لبيد وبني غانتس، إذ يبدوان خلف الجيش في عمليته في لبنان. حتّى قادة الجيش (طالما صدرت عنهم تصريحات تقول إنّهم يُؤيّدون الصفقة، ولا حاجة للاستمرار في السيطرة على معبر صلاح الدين) تصدر عنهم تصريحات تقول إنّهم متشجّعون للعملية العسكرية في لبنان وجاهزون للاستمرار فيها بغض النظر عن أي شيء آخر. ورغم أنّ الصواريخ وصلت إلى حيفا وتلّ أبيب إلّا أنّ الجميع يبدو متحمّساً لمزيد من الحرب في لبنان. استطاع نتنياهو عبر الذهاب إلى بيروت أن يترك الجميع خلفه، واستطاع أن يضعهم أمام خيارات صعبة، فإمّا أن يكونوا مع عودة سكّان الشمال إلى منازلهم أو ضدّ عودة الهدوء إلى الجليل. لا خيار آخر. وبعبارة أخرى، دفعهم إلى ترك الحديث عن عودة مائة أسير وأسير واحد في مقابل عودة عشرات الآلاف إلى منازلهم. لم يكن ثمّة ما يشير إلى الربط بين الأمرين، إلّا أنّ الجميع يعرف أنّ الربط بينهما جليّ وواضح، فمن كان ينادي بضرورة عقد صفقة من أجل إخراج الأسرى من غزّة لا يمكن له أن يتظاهر لوقف عملية ستعيد سكّان الشمال إلى بيوتهم. بذلك، واصل نتنياهو الحرب من دون أيّ عوائق.
لننتبه إلى أنّ مُعارضي نتنياهو لم يخرجوا من أجل وقف الحرب، بل من أجل الصفقة، فهم يريدون أن تتم الصفقة التي بموجبها يُطلق سراح الأسرى في غزّة. لم يكن أحد ينادي بوقف الحرب، ولم يكن أحد ضدّ إبادة سكّان غزّة، بل يريد من يخرجون أن تجرى الصفقة، حتّى لو اقتضى الأمر خروج الجيش من غزّة. حتّى أنصار هذا الرأي من الجيش يقولون ببساطة إنّ الجيش يستطيع أن يعود وقتما يشاء إلى غزّة، خاصّة بعد حرب عام صعبة دمّرت القطاع بشكل شبه كامل، وبالتالي، الانزياح في موقف المعارضة أيضاً تكتيكي، لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، إذ سيسأل بعضهم كلّما طال عمر الحرب في لبنان عن الجدوى من ذلك، خاصّة إذا تواصلت مقدرة حزب الله على ضرب الشمال والوسط، ولم يُجلَب الهدوء للشمال، وبالتالي، لم يعد سكّان الشمال إلى بيوتهم. سيكون السؤال إلى متى يمكن أن تستمرّ هذه الحرب.
هل ستخوض إسرائيل حرباً لعام آخر ضدّ حزب الله المسنود بشكل مفتوح من دول الجوار أم أنّ اللحظة التي سيخرج فيها معارضو نتنياهو يطالبون بعقد “صفقة” مع حزب الله تضمن عودة سكّان الشمال ستأتي قريباً. هذا متوقّّع وقد يحدث في أقرب ممّا نتوقّع، إذ غاية الحرب على لبنان هي فرض تسوية على حزب الله تخرجه من معادلة حرب غزّة، وبالتالي، توقف أيّ تصعيد أو استنزاف من قبله يُؤثّر على حياة السكّان في الشمال. وما لم يحدث هذا فإنّ المطالب بوقف الحرب في لبنان ستتصاعد، لأنّ استمرارها سيعني ليس مواصلة تعرّض الشمال للقصف وإخلاء سكّان المستوطنات بيوتهم في الشمال، بل أيضاً عدم استقرار الحياة في تلّ أبيب ومنطقة الوسط. إنّ صفقة أخرى ستكون موضع نقاش في إسرائيل، وستشكّل مدخلاً من أجل الضغط على نتنياهو للنظر في المقترحات المختلفة التي تُقدّم من الوسطاء من أجل إنهاء الحرب. وقتها ستعود الأمور إلى النقطة الأولى حيث بدأت؛ نقاش وجدل داخلي في إسرائيل حول الصفقة، وحول مقاصد نتنياهو.
وضع نتنياهو العربة أمام المعارضة وجرّها خلفه، فالذين يخرجون مطالبين بعقد صفقة للأسرى في غزّة باتوا يُهلّلون للعملية العسكرية في لبنان
أيضاً لا يمكن الاستمرار بالقول إنّ نتنياهو يتهرّب من المحكمة عبر مواصلة الحروب، ويريد أنّ يظلّ رئيساً للحكومة، لأنّ المنطق أن هدف أيّ سياسي أو أيّ حزب هو الحكم. وعليه، فكرة أنّه يريد أن يحافظ على حكومته سياسية ومنطقية، ولا تقع ضمن منطق المؤامرة والحيلة. أيضاً، لأنّ مثل هذا النقاش يفترض شيئاً غير منطقي بالكامل. يفترض مثلاً أنّه لو جاء لبيد أو غانتس إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية فإنّهما سيوقفان الحرب، وربّما يعتذران عما فعل الجيش وسيقبلان بكل بنود الصفقة التي يرفضها نتنياهو. ألا يبدو مثل هذا الافتراض ساذجاً؟ … بالطبع، لأنّه يتناسى أنّ أساس النقاش الداخلي في إسرائيلي يتعلّق بالصراع الحزبي الانتخابي. لا علاقة للأمر بحقيقة أنّ ما يريده غانتس مخالف لما يريده نتنياهو أو أنّ الجنرال الذي قاد الهجوم على غزّة أكثر من مرّة يرى الأمور بطريقة مختلفة، بل إنّه يرى أنّ ما يقوله وأنّ تمايزه عن نتنياهو في الموقف المُعلَن يقرّبه أكثرَ من رئاسة الحكومة، ويزيد قوة حزبه في استطلاعات الرأي. هكذا فقط يمكن فهم الأمور. إنّ افتراض أنّ نتنياهو يخطف إسرائيل للحرب من أجل مصالحه الحزبية والشخصية ينزع عن حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل على غزّة جوهرها الحقيقي، المتمثّل في أنّها استكمال لمشروع الإحلال والإزاحة التي بدأته الحركة الصهيونية بحقّ شعبنا. ليس الأمر مصالحَ حزبيةً ولا هو موقف شخصي لنتنياهو.
بدل أن ينزل عن الشجرة، صعد نتنياهو إلى شجرة أعلى، وأخد الجميع معه، وبات الأمر أكثر تعقيداً. ومع ذلك، لا يبدو وقف الحرب مستحيلاً إذ كلّما توسّع النقاش بدت النوافذ المفتوحة لانهائية وأكثر اتساعاً أيضاً، ولكن أيضاً الحلول التي ستكون متاحةً لا بدّ أن تكون أكثر اتساعاً. لا أحد يعرف، ولكن المُؤكّد أنّ الحرب في غزّة بعد أن تجتاز عامها الأول ستتواصل، ولا يمكن توقّع أن تكون أيّ نهاية للحرب في لبنان بمعزل عن نهاية الحرب في غزّة، إلّا إذا حدثت مفاجآتٌ غيرَ متوقّعةٍ في مسار الحرب. يظلّ هذا غير معلوم، لكنّ المُؤكّد أنّ الشجرة العالية التي صعد إليها نتنياهو حجبت خلفها كثيراً من الرؤية.
المصدر: العربي الجديد