عدي جوني
لا يسعى هذا المقال إلى توضيح ما هو واضح بقدر ما يسعى إلى إعادة قراءة العلاقة الوظيفية الوثيقة بين الأوليغارشية، العابرة للحدود والثقافات، والصهيونية التي نشأت وتأسّست بأيدي بيوت المال اليهودية متلبسةً قناع الدين وسيلةً لحشد تأييد اليهود وتعاطف ودعم حكومات الغرب لإقامة وطن قومي. وما يعنى به هذا المقال أولاً وأخيراً هو أنّ صراعنا مع الصهيونية كان وسيبقى صراع وجود لا صراعاً على الحدود.
تعني كلمة أوليغارشية بجذرها الإغريقي (أوليغارخيا) حرفياً (حكم الأقلية)، دلالةً على شكل نظري لتركيبة السلطة، إذ تتركز أدوات الحكم والنفوذ بيد عدد محدود من الأشخاص، الذين لا يمتازون بالضرورة بخاصيّةٍ محدَّدةٍ أو عدّة خصائص مثل الطبقة الاجتماعية، والشهرة، والثروة، والمستوى العلمي، أو الانتماء السياسي أو الديني أو النفوذ العسكري. إلّا أنّ استخدام هذا المصطلح انحصر منذ مطلع القرن العشرين في شكله الاقتصادي والمالي، بل بات حالياً يقارب في دلالاته مصطلح “الدولة العميقة”، إن لم يتماهَ معه كلّياً. لا يعدو هذا التحوّل في المعنى في السياق التاريخي سوى انعكاس لطبيعة التحوّلات التي طاولت بنية الاقتصاد ومكننة الصناعة والإنتاج الكمّي، وبروز الفكر المنفعي الرأسمالي، وظهور الشركات الكبرى (القابضة) بشكلها الكوزموبوليتاني العابر للهُويَّات القومية والثقافية، وتنامي قدراتها على التحكّم وتوجيه سياسات الدول داخلياً وخارجياً.
لكن كيف ارتبطت الأوليغارشية بمعناها المالي الضيّق بالمفهوم الإستراتيجي لسياسات الدول، وبإعادة تأويل الأسس الفكرية لمفهوم الدولة؟ … قد يبدو الجواب على بساطته مفاجئاً، لكنّه يُفسِّر (تاريخياً على الأقلّ) سيطرةَ النُخَبة الأولغارشية على سياسات الدول. الجواب وبكلمة واحدة: براءة الاختراع. لا أحسب قارئي العزيز جاهلاً بما تعنيه هذه الكلمة، لكن قد لا يدري بعضٌ أنّ هذه الكلمة أحكمت سيطرة الأوليغارشية على علاقات الإنتاج وأدواته بشكل كامل، إيغالاً في سياسات الاحتكار طمعاً بتحقيق فائض هائل من الأرباح.
هل يختلف اثنان في أنّ الثورة الصناعية قامت أساساً على الاكتشافات العلمية، وعلى ما آلت إليه من اختراعات قلبت العالم رأساً على عقب في مختلف المجالات. وتكفي عودةٌ سريعةٌ إلى سِيَرِ العلماء والمخترعين في تلك الفترة لنتبيّن أنّ غالبيتهم كانوا فقراءَ لا يملكون القدرة على تمويل تطبيق اختراعاتهم عملياً، وهذا ما دفعهم إلى الاستعانة بالأثرياء الذين اشتروا بدورهم حقوق براءة الاختراع للاستفادة منها تجارياً واحتكارها. وأكبر مثال على ذلك أنّ جيمس واط باع حقوق اختراع محرّكه البخاري الشهير، الذي كان واحداً من أكثر أدوات الثورة الصناعية في بريطانيا أهمّيةً، إلى شركة كارون للصناعات المعدنية التي تأسّست عام 1759، وتخصّصت في صناعة المدافع ذات السبطانات القصيرة، حتّى غدت واحدة من كبريات الشركات في أوروبا في القرن التاسع عشر. هذه المدافع التي انتجتها هذه الشركة استخدمتها البحرية الملكية البريطانية في يناير/ كانون الثاني 1839 لاحتلال ميناء عدن، لاستغلاله محطّةً لتخزين الفحم الحجري للسفن البخارية على طريق السويس – بومباي الجديد حينئذ، وشارك جنود شركة الهند الشرقية في المعركة التي أسفرت بفضل مدافع شركة كارون عن مقتل 150 من دون أن يصاب جنديٌّ بريطانيٌّ واحد ولو بخدش صغير.
أحكمت “براءة الاختراع” سيطرة الأوليغارشية على علاقات الإنتاج وأدواته، إيغالاً في سياسات الاحتكار طمعاً بفائض هائل من الأرباح
قد يتساءل القارئ: وأين الصهيونية من هذا كلّه؟… ألم يرسل وزير الخارجية البريطاني في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني في العام 1917 رسالته الشهيرة التي عُرفت بـ”وعد بلفور” إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد، يُؤكّد فيها تعهد بلاده إنشاء وطن قومي لليهود؟ … ولا يخفى على أحد ما فعلته (ولا تزال) عائلة روتشيلد الداعمة للحركة الصهيونية وصاحبة المال والنفوذ في دعم كيان الاحتلال الإسرائيلي، حتّى إنّ حكومات الاحتلال المتعاقبة، منذ النكبة وحتّى زمن قريب، أطلقت اسم العائلة على عدد من مرافقها العامّة عِرفاناً بالجميل. لكن، ربّما لا يعرف كثيرون تفاصيلَ إضافيةً تكشف النفوذ الكبير لعائلة روتشيلد وسيطرتها على سياسات العديد من الدول الأوروبية، على النحو الذي يخدم مصالح العائلة وزيادة أرباحها.
في كتابه “آل روتشيلد: أنبياء المال، 1798- 1848، ج1، دار بنغوين للنشر، 1999)، يُوضِّح الباحث والمؤرّخ الأميركي (من أصل اسكوتلندي) نيل فيرغسون أنّ عائلة روتشيلد هي من حسمت مصير الحروب النابليونية (1803-1815). فقد كانت هذه الأسرة اليهودية تمتلك ثروةً كبيرةً قبل بداية الحروب النابليونية، وتهيمن على تجارة السبائك. وفي هذه الأثناء، لعب ناثان ماير روتشيلد دوراً فعالاً في تمويل المجهود الحربي البريطاني بمفرده تقريباً، إذ نظمّ شحنةَ السبائك إلى جيوش آرثر ويلزلي في جميع أنحاء أوروبا، بالإضافة إلى تقديم معونات مالية في شكل قروض مُيَّسرة إلى حلفاء بريطانيا بلغت قيمتها ما يزيد عن تسعة ملايين جنيه إسترليني (ما يعادل 717 مليون يورو، أو869 مليون دولار اليوم). ويضيف فيرغسون أنّ ناثان، بفضل شبكة العائلة الواسعة في أنحاء أوروبا، تلقّى نبأ هزيمة نابليون في واترلو قبل يوم من إعلان الرسائل الرسمية للحكومة. غير أنّ الفوائد المالية المحتملة لم تكن من ضمن اهتمامات روتشيلد الأولى، فنقل الأنباء إلى الحكومة. وفقاً لحسابات ناثان روتشيلد فإنّ الانخفاض المستقبلي للاقتراض الحكومي الذي أحدثه السلام سيخلق ارتداداً في سندات الحكومة البريطانية بعد استقرار يدوم عامَين، وسينهي إعادة هيكلة الاقتصاد المحلّي بعد الحرب. اشترى ناثان على الفور سوق السندات الحكومية ثم انتظر عامَين، وباع السندات في السوق عام 1817، وحصد أرباحاً بلغت (والكلام لفيرغسون) 40%.
أدركت الأوليغارشية الأوروبية، وتحديداً اليهودية منها، الموقعَ الجغرافي المهمّ لفلسطين في خريطة التجارة العالمية
لم تكن فلسطين الموقع الوحيد الذي طرحته الحركة الصهيونية وطناً قومياً للشعب اليهودي، بل كانت في بداياتها تتحدّث عن وطن بديل خارج أوروبا، لكن وفي مسودَّة هدف الحركة الصهيونية الحديثة، المُقدَّمة إلى المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897، أكَّد المجتمعون أنّ الحركة تسعى “إلى إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين بموجب القانون العام”، استناداً إلى القراءة التاريخية لهيكل سليمان وأرض الميعاد. نشأت الوكالة اليهودية بفضل تمويل الأثرياء اليهود، ونشطت الدعاية الدينية المُتطرّفة وزعماء الحركة الصهيونية الذين وصفوا فلسطين بـ”أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. كانت الأوليغارشية الأوروبية، وتحديداً اليهودية منها، تدرك جيّداً الموقعَ الجغرافي المهمّ لفلسطين في خريطة التجارة العالمية ومجاورتها قناة السويس. لا يحتاج المرء كثيراً من الأدلّة على أنّ الحركة الصهيونية تقوم على فكر علماني، بل كان العديد من منظّريها شيوعيين. بيد أنّ غلبة العنصر الأشكنازي وثراءه أسّس دولة تقوم على اقتصاد رأسمالي بحت مرتبط بالغرب من جهة، وعلى فكرة الدين أساساً للهُويَّة القومية من جهة أخرى، ممّا يدلّ على أنّ هذا الكيان نشأ ليقوم بدور وظيفي لترسيخ مصالح العالم الغربي (أي بعبارة أخرى الأوليغارشية الغربية) في هذه المنطقة، ويكفي دليلاً مشاركة كيان الاحتلال الإسرائيلي في العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس عام 1956.
في العام 1908 اكتُشِف أوّلُ بئرٍ للنفط في الشرق الأوسط، وتحديداً في منطقة مسجد سليمان جنوب غربي إيران، وبعد ثلاث سنوات جرى نقل النفط عبر أنابيب إلى مصفاة أُنشِئت في الجانب الإيراني من شطّ العرب. في دراسته “مائة عام من النفط في الشرق الأوسط، مركز كراون للدراسات الشرق أوسطية، جامعة برانديس، ماسوشستس، العدد 24، 2008)، يقول الباحث والأكاديمي روجر أوين إنّ هذا الحدث لفت انتباه القوى الكُبرى، وفي مُقدّمتها بريطانيا، وعلى الأخصّ قواتها البحرية. ومع بداية الحرب العالمية الأولى، وقعت مناوشات بين السلطنة العثمانية وألمانيا من جهة، وبريطانيا من جهة أخرى، للسيطرة على خطّ الأنابيب. من باب الاستنتاج، من غير الممكن أنّ اكتشاف هذا الحقل النفطي في إيران جرى بين عشيّةٍ وضحاها، بل سبقته دراسات وعمليات تنقيب استغرقت سنوات. هل كانت الأوليغارشيات الكُبرى غافلةً عن هذا الاكتشاف، الذي قلب الدنيا رأساً على عقب؟ … في هذه الفترة كانت الحركة الصهيونية تعمل لحشد تأييد الدول الكبرى لمخطّطها في فلسطين، فتقاطعت المصالح وتشابكت. ولا يحتاج أحدنا دراساتٍ ومقالاتٍ ليعرف حجم الدعم الغربي لكيان الاحتلال، لكن من يقف فعلاً وراء هذا الدعم هو الشركات الكُبرى أيّاً كانت جنسياتها، التي ترى في هذا الكيان واحداً من أهم أدوات هيمنتها.
المصدر: العربي الجديد